الفقراء والتفاح الأخضر

علي حسين عبيد

2017-08-23 05:40

ترغب عائلتي المكونة من خمسة أفراد، أن تتناول الخضرة في وجبة الغداء، خاصة زوجتي، فهي من النوع الذي يهتم كثيرا بما يقوله أطباء الأغذية ومقدمو برامج الغذاء وخاصة برنامج تقدمه امرأة أنيقة اسمه (التفاح الاخضر)، مقدِّمة هذا البرنامج تهتم كثيرا بتقديم وجبة طعام متوازنة غنية بالفيتامينات الموجودة في الخضرة، ومن الأمور التي اكتشفتُها مؤخرا أن الإنسان كلما تقدم في العمر تأخذ منه مثل هذه البرامج المزيد من الوقت، حتى أنا انجذبت شيئا فشيئا الى مشاهدة برامج الطعام، مع أنني كنت مهتما ومشغولا بالأدب والفنون أكثر من سواها، ونتيجة لرغبة العائلة بالخضرة، ولأنني أنهض صباحا، فأخرج بشكل يومي تقريبا من البيت الى السوق القريب، وأول شيء أفعله هو الذهاب الى بائعة الخضرة وأنتقي منها ما أريد على مهل، وهي امرأة عجوز يظهر عليها البساطة والطيبة وكثير من علامات الفقر.

مع مرور الأيام ربطتني علاقة طيبة مع العجوز بائعة الخضرة، فبعد أن كنت في البداية أشتري ما أريد من الخضرة وأذهب مباشرة، صرت يوما بعد آخر أطيل الحديث معها، وهي أيضا بدأت تحكي لي قصصا وأسرارا بعضها يخص المنطقة والمجتمع عموما، ولكن مع الوقت صارت تشرح لي أوضاعها العائلية التي لا تختلف كثيرا عن حياة الأسر العراقية من الطبقة الفقيرة، فهذه المرأة الكبيرة في السن ليس مكانها بيع الخضرة في السوق، وإنما مكانها الجلوس في البيت معززة مكرمة ولا تنشغل إلا بالصلاة والزيارات التي تجعلها أكثر راحة نفسية وهي تقطع سنواتها الأخيرة نحو العالم الآخر.

في أحد الأيام أخبرتني بائعة الخضرة بأنها ستغيب عدة أيام لسبب لا يمكنها أن تخبرني به، وعندما سألتها كم يوما ستغيبين، قالت ربما خمسة أيام، وحين سألتها مجددا عن سبب الغياب، رفضت ذلك بشدة وقالت هذا الأمر لا أستطيع أن أخبرك به، وأضافت بصدق: لا أريد أضاعف هموم الناس بهمومي.

لم أفكر كثيرا بالأمر ولم يشغلني كثيرا، إذ بالإمكان العثور على بائع خضرة آخر، لكنني لاحظت أيضا أن الإنسان كلما تقدم بالعمر يصعب عليه استبدال الناس الذين يتعامل معهم، فكرت أن أتسوق منها لخمسة أيام دفعة واحدة لكن أوراق الخضرة سوف تذبل، إذا يجب أن أبحث عن بديل وهو أمر بسيط لكثرة بائعي الخضرة، سألتها إن كانت بحاجة الى شيء، لكنها أخبرتني بعدم حاجتها لأي شيء سوى الدعاء الخالص.

بالفعل كنت أدعو لها بالخير وقضاء الحاجة في كل صلاة، فهي امرأة على الرغم من فقرها الواضح في قسمات وجهها ومظهرها وطيبتها، لكنها لم تتذمر يوما من حالة الشقاء التي تعاني منها، ولم تقل في يوم ما أنها ضحية الحكومات أو سواها، إنها تحصل على رزقها بهذه الطريقة المتعبة وأسمعها تقول أحمد ربي على كل شيء، انقضت الأيام الخمسة ولم تعد بائعة الخضرة، سألت صاحب الدكان القريب عن بيتها او عنوانها فأكد لي أنه يستطيع أن يدلني ببيتها لكن للأمانة هي لا تقبل بذلك، لم ألح عليه بالسؤال لكنني قلت له لو أنها بحاجة الى مساعدة فيمكنني ذلك.

الغريب في الأمر أنني تحدثت عن بائعة الخضرة لأكثر من شخص، وأولهم زوجتي التي نقلت لها كل التفاصيل حتى أنها عرفت شكلها ومظهرها ومكانها في السوق وحكاياتها، وانتقل القلق مني إليها عندما أخبرتها بغياب المرأة العجوز لأمر أجهله، في اليوم التالي طلبت بإلحاح شديد من صاحب الدكان أن يأخذني الى بيتها لكنه رفض ذلك، فسلمته مبلغا من المال كي يوصله لها، في البداية رفض ذلك، لكنه تحت إلحاحي وافق وقال إذا رفضت سوف أعيده لك، في اليوم التالي عاد لي صاحب الدكان بالمبلغ وقال رفضت استلامه، وعندما سألته عن سبب غيابها، قال سأخبرك ولكن أرجو أن لا تقل لها بأنني أنا من أخبرك، وعدته بذلك، فقال، ابنتها مصابة بمرض خبيث (السرطان) وهي أرملة حيث استشهد زوجها في عمليات القتال الأخيرة ضد الإرهاب، وحين سألته هل لديها أطفال، قال نعم لديها ثلاثة.

امرأة أرملة وثلاثة أطفال وزوج شهيد وإصابة بمرض خبيث، إنه إرث ثقيل جدا، لكن العجوز التي تحملت إعالة هذه العائلة لا تقبل أن تخبر أحدا بوضعها ولا بما تمر به ابنتها، أية كرامة وعفة وأنفة تحملها عوائل الشهداء، وأي كرمة وعزة نفس يعيشها الفقراء، هل يعلم الأغنياء بهذا؟، هل يعرفون أن عجوزا عمرها تجاوز الستين، تجلس تحت لهيب الشمس عشر ساعات يوميا تبيع الخضرة من أجل أن تحمل معها كيلو طماطم ومثله من الخيار والباذنجان وقليل من الخبز كي تطعم خمسة أفواه بشرف، مع أن المعيل الوحيد لهذه العائلة غادر الى السماء بنفس العفة والإيمان والشرف الذي تحمله أمه، لو يفكر الأغنياء بمعاونة مثل هؤلاء العجائز لكانت خيراتهم تبلغ الأضعاف وجزاؤهم أكثر، ولكن ما يحدث أن البنت تعاني من السرطان، وأن علاجها مستحيل من دخل العجوز التي تبيع الخضرة.

سلمني صاحب الدكان المبلغ الذي رفضت المرأة أن تأخذه، عند ذاك في السابع لغيابها طلبت من الرجل أن يصف لي عنوان بيت بائعة الخضرة، في البداية رفض ذلك، ثم أقنعته فاشترط عدم ذكر اسمه للمرأة فوعدته بذلك، وأعطاني العنوان، فاشتريت مجموعة من الفواكه والخضر وبعض اللحوم واستأجرت سيارة أجرة ذهابا وإيابا، واستطعت أن أصل الى بيت المرأة وما أن طرقت الباب حتى خرج لي أطفال بعمر الزهور، الفقر يلوح في وجوههم أيضا، ويرسم ملامحهم مع الاصفرار في عيونهم وجباههم، سألت عن العجوز، وفي لحظات خرجت الى الباب متشحة بالسواد تأكل الدموع عينيها، أعطيت الحاجيات الى الأطفال وصاحب (التكسي) لا يزال ينتظرني، رفضتْ أن تأخذ ما جلبتهُ للأيتام لكنني لم اترك لها مجالا للرفض، وسرعان ما طالعتني لافتة سوداء قديمة بعض الشيء تحمل اسم ابنها الشهيد وتاريخ رحيله وقاطع العمليات، لكن الأمر الذي صدمني بقوة رؤيتي الى لافتة أخرى جديدة الى جانب القديمة تحمل نعيا حديثا لرحيل امرأة في ريعان الشباب، عرفت أنها بنت بائعة الخضرة المصابة بالسرطان.

والآن لدينا عائلة انطفأت فيها شمعتان، الأب والأم، وبقيت شمعة كبيرة في طريقها الى الذوبان التام وهي (العجوز بائعة الخضرة) وشموع صغيرة هم الأطفال الأيتام، وهنا أتساءل، وأسأل من المسؤولين، هل هذه الشموع الصغيرة ستحترق هي الأخرى دون أن يرعاها أحد، أليس من ضحى بنفسه للوطن والشعب يستحق أن تعيش عائلته بكرامة، هذه الأسئلة وسواها الكثير، نضعها أمام عيون المسؤولين والميسورين والأغنياء، لعلهم يمدون يد العون لعائلات الشهداء أولا وللفقراء أيضا، فهؤلاء أبناء هذا الوطن ولهم نفس حقوق رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء وأعضاء مجلس النواب وكل أفراد الطبقة السياسية التي تحصل على الملايين شهريا فيما يتضور الفقراء ألما وجوعا وحرمانا.

وأخيرا نقول لأنفسنا أولا وللجميع، علينا أن نبادر بعمل الخير ومعاونة الناس، فهناك من لا ينطق فمه بالحاجة حتى لو مات جوعاً.

ذات صلة

استراتيجية وحدة المسلمين في مواجهة أعدائهمكاميلا هاريس خسارة الانتخابات أم خسارة القيم؟في تفسير ظاهرة تصادم النخب الثوريةحملة وطنية لمكافحة التصحّرالقطاع الخاص وحاجته للقوة الاكاديمية