لازلتُ حرفاً… اعترافات مكتوبة على حافة الصمت
أوس ستار الغانمي
2025-12-17 03:45
ليس كل كتاب يمسك باليد، بعض الكتب تمسك بالقارئ من داخله. «لازلتُ حرفاً» واحد من تلك الأعمال التي لا تقرأ بوصفها نصوصاً متجاورة، بل تعاش كتجربة وجدانية تفتح أبواباً مؤجلة في الذاكرة، وتدفع القارئ إلى مواجهة نفسه بهدوءٍ موجع، ومن دون ادعاء.
منذ الصفحات الأولى، لا يقدم الكتاب نفسه كحكاية مكتملة، ولا كخطابٍ مباشر، بل كمساحة اعتراف. الحرف هنا ليس وحدة لغوية، بل كائن يتنفس، يتعثر، ويواصل السير رغم الخسارات. الإنسان في هذا العمل لا يظهر بطلاً، ولا ضحية، بل إنساناً عادياً يحمل داخله مزيجاً معقّداً من الحب والفقد، الانتظار والانكسار، والبحث المستمر عن معنى يبرّر الاستمرار.
ينتمي “لازلتُ حرفاً” إلى النصوص النثرية الوجدانية التي تشتغل على الداخل الإنساني، لا على الحدث الخارجي. لا ضجيج في لغته، ولا محاولات لإبهار القارئ بالزخرفة أو التعقيد. على العكس، يعتمد الكتاب على بساطة واعية، تخفي وراءها عمقاً شعورياً واضحاً. كل نص يبدو وكأنه رسالة غير مكتملة، أو فكرة لم تجد طريقها إلى الكلام إلا الآن.
اللافت أن الحب في هذا الكتاب لا يقدم بوصفه نهاية سعيدة، بل حالة إنسانية مرتبكة، تختلط فيها الرغبة بالخوف، والاقتراب بالانسحاب. أما الفقد، فيحضر كثيمة أساسية، لا كحدثٍ عابر، بل كتجربة تترك أثرها الطويل في الروح، وتعيد تشكيل نظرة الإنسان إلى ذاته والعالم. الانتظار بدوره لا يظهر كفعلٍ ساكن، بل كحالة قلق دائم، فيما يتجلّى الانكسار لا بوصفه ضعفاً، بل لحظة وعي قاسية.
وسط هذا البناء الوجداني، تبرز رسالة الكتاب بوضوح: الإنسان، مهما أثقلته التجارب، يبقى قادراً على أن يكون “حرفاً”؛ أي بداية جديدة، وإمكانية للقول، وفرصة أخرى للبوح. الكتابة هنا ليست فعلاً جمالياً فقط، بل ضرورة إنسانية، ومحاولة للنجاة من الصمت، ومن تراكم ما لم يقل.
خلف هذا العمل، تقف تجربة إعداد واعية قادتها شذى الصبيحي، معدة الكتاب، التي تعاملت مع النصوص بروح المسؤولية الإبداعية. لم يقتصر دورها على الجانب التقني، بل امتدّ إلى جمع النصوص، وتنظيمها، ومراجعتها لغوياً وأدبياً، مع الحرص على توحيد النبرة العامة للكتاب، دون المساس بخصوصية كل نص. هذا التوازن بين التنظيم والحفاظ على الروح الأصلية للنصوص شكّل أحد أعمدة قوة العمل.
كما أسهمت الصبيحي في اقتراح العناوين وترتيب المحتوى بما يخدم الفكرة الأساسية للكتاب، ويمنح القارئ تجربة قراءة متماسكة. فالنصوص لا تأتي عشوائياً، بل تتحرك ضمن مسار شعوري مدروس، يجعل القارئ يشعر وكأنه ينتقل بين مراحل داخلية متتابعة، لا بين صفحات منفصلة.
التعاون مع الكاتب مر بعدة مراحل، اتسمت بالحوار المستمر والمراجعة الدقيقة. من الصياغة الأولى، مروراً بالتنقيح، وصولاً إلى الإخراج النهائي، كان هناك حرص مشترك على الحفاظ على صدق النص، وعدم إخضاعه لقوالب جاهزة أو تصنيفات مسبقة. هذا التعاون أتاح للكتاب أن يخرج بشكله النهائي محافظاً على عفويته، من دون أن يفقد تماسكه الفني.
ما يمنح “لازلتُ حرفاً” خصوصيته، هو قربه الشديد من القارئ. فالقارئ لا يشعر أنه أمام نص يملي عليه مشاعر محددة، بل أمام مرآة مفتوحة. يجد نفسه بين السطور، يتعرف على جمل تشبهه، وعلى أفكار ربما عاشها ولم يملك الجرأة على صياغتها. اللغة هنا لا تتعالى، ولا تدعي الحكمة، بل تقترب، وتترك للقارئ حرية التأويل.
في المحصلة، لا يقدم “لازلتُ حرفاً” أجوبة نهائية، ولا يدعي امتلاك الحقيقة. إنه كتاب عن المحاولة، عن الإنسان الذي لم يكتمل بعد، والذي ما زال يتعلم كيف يقول، وكيف يصمت، وكيف يكتب ليحمي نفسه من التلاشي. كتاب يذكر بأن الحرف، مهما بدا صغيراً، قادر على أن يحمل حياة كاملة… وأن الإنسان، ما دام يكتب، لم يصل إلى نهايته بعد.