الانطلاقة الرومانتيكية...
فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي
شبكة النبأ
2023-12-31 05:22
أيها الأمل …! الأمل! أيها الأمل المراوغ … من أين تشتري الآن؟!
جي. إم. دبلیو، تيرنر
تشاؤمية الحركة الرومانسية كانت، إلى حدٍّ كبير، من نتائج الثورة الفرنسية، عندما قامت الثورة في عام ۱۷۸۹م، كان الشاعر «وليم ووردزوورث» William Wordsworth في غاية البهجة.
«كانت نعمةً كبرى أن تكون على قيد الحياة في ذلك الفجر، أما أن تكون شابًّا، فإن تلك هي السعادة القصوى بعينها.» … ولكن بعد ذلك … «يا لَخيبة الآمال الضائعة!»
الأمل في العودة إلى عالم البراءة والحرية عند «روسو» قد تبدَّد في عهد الإرهاب٦٩⋆ ودكتاتورية «نابليون» العسكرية، ونوع جديد من الاستبداد غیر معقول، يتنكَّر في ثياب إمبراطورية كونية.
كان «ووردزوورث» و«ولیم بليك» William Blake والمصور «جی. إم. دبلیو. تيرنر» J. M. W. Turner،٧٠ و«جيمس ماكنتوش» James Mackintosh تلميذ «آدم سميث» Adam Smith، كانوا متحمسين في البداية، ولكنهم سرعان ما أدركوا خطأهم. «إدموند بيرك» Edmund Burke — وهو وريثُ آخر لنظرية المجتمع المدني — كتب «تأملات في الثورة الفرنسية»، والذي أصبح إنجيل الليبراليِّين، وكذلك الرومانسيِّين المحافظين، الإنجليز في القرن التاسع عشر.
كانت صدمة الرومانسيِّين الألمان شديدة. «فردريك شيللر» Friedrich Schiller بعد قصيدته الطويلة الصريحة «أنشودة للفرح» ۱۷۸٥م، كتب في سنة ۱۷۹۹م «هذا القرن ينتهي بالعواصف، ويبدأ الآن القرن الجديد بصرخة القتل.» «فردريك فون شلیجل» Friedrich von Schlegel كان يخشى أن تكون الثورة الفرنسية وعهد الإرهاب قد فتحَا الباب أمام مرحلة جديدة مرعبة من «الجرائم الإيثارية»، عندما يرتكب البشر فظائع مرعبة، ليس بدافع من حب الشر، وإنما بدافع من حب الفضيلة! وأصبحت الثورة الفرنسية بالنسبة لخيال القرن التاسع عشر، مثلما كان «الهولوكوست» بالنسبة لخيال القرن العشرين: صورة صريحة لخيانة الإنسان لطبيعتِه ومُثُلِه العليا، ومثلما كان الناقد «تيودور أدورنو» Theodor Adorno يزعم أنه لن يكون هناك فنٌّ بعد «أوشفتز»٧١⋆Ausuchwitz ، كان «شليجل» قبل قرن ونصف القرن يتساءل ما إذا كانت فظائع عهد الإرهاب تعني اقتراب «دراما التاريخ الإنساني» من نهايتها … ولدرجة أن يقترح عالم سويسري — جادًّا — في عام ۱۸۱۸م جعل أيسلندا متحفًا للمنتجات الثقافية الأوروبية قبل أن تزول الحضارة تمامًا.٧٢ ومثل المثقفين الراديكاليِّين الذين كانت الشيوعية قد ضلَّلَتهم في الثلاثينيات والأربعينيات في عهد «ستالين»، كان الرومانسيون الجدد يقدِّرون ويقبلون مزايا وفضائل مجتمعاتهم، وهي المزايا والفضائل ذاتها التي كانت معتقداتهم السياسية السابقة تعلمهم إدانتها.
وكانت النتيجة … ظهورَ جيل جديد من الرومانسيِّين المحافظين، من بينهم «شلیجل» Schlegel، و«جوزيف دي مايستر» Joseph de Maistre، والشعراء «شاتوبریان» Chateaubriand، و«نوفاليس» Novalis، و«صمويل تیلور کولیردج» Samuel Taylor Coleridge. وكانوا ينظرون إلى المؤسسات التي كانت الثورة الفرنسية وأسلافها التنويريون يهاجمونها — الكنيسة الكاثوليكية، الملكية، الأرستقراطية التقليدية — باحترام شديد.
والآن، كان أولئك يبدون رموزًا دالةً على موروث ثقافي أكثر قدمًا ونبالة، عرَّضَته الثورة الفرنسية والثورة الصناعية للخطر، ويمكن للمرء أن يُطلق على أولئك لقب «الرومانسيِّين المحافظين»، ولكننا سنكون أكثرَ دقة إذا قلنا «الرجعيِّين»؛ حيث كان ذلك ردَّ فعل ضد كل مفهوم للتقدُّم.
في الوقت نفسه، كان فقدان الرومانتيكية للثقة في المستقبل، يواكبه حنينٌ متزايد للماضي ما قبل الحديث، كان لدى المصورين والشعراء الرومانسيِّين إحساسٌ جمالي قوي بالتاريخ، ولكن التاريخ بالنسبة لهم لم يكن هو قصة التقدُّم، وإنما هو حكاية الماضي وأمجاده الغاربة. وليست مصادفةً أن يكون أشهر روائي في النصف الأول من القرن هو السير «والترسكوت» Walter Scott. كان قد نشأ على تراث الرومانسيِّين الألمان، وكانت أول رواية له تنطلق شهرتها بسرعة الصاروخ هي روايته التاريخية Waverley ۱۸۱٤م، وكانت فكرة أن تتناول رواية ما العصور الوسطى أو النجاد والهضاب الاسكتلندية وإسكانها بشخصيات همجية مثل الفرسان الصليبيِّين والرهبان والعذارى الأنجلو ساكسون ورؤساء القبائل … كان يمكن أن تبدوَ فكرةً سخيفة ومضحكة بالنسبة لأسلاف «سكوت» من التنويريِّين، ولكن الذي حدث هو أن «سكوت» حوَّل جنس الرواية التاريخية إلى «تجارة جملة»! فقد ظهرت سلسلة من المقلدين لها، منهم «ألكساندر دوماس» Alexandre Dumas، و«فيكتور هوجو» Victor Hugo، و«جوولز فیرن» Jules Verne. أما «سكوت» فحوَّل منزله إلى متحف حقيقي للتاريخ الاسكتلندي والإنجليزي، ملأه بمجموعة من الدروع والأعلام والتذكارات الدينية التي كانت تبدو تعبيرًا بصريًّا عن الاحترام والتبجيل لقِيَم البطولة والفضيلة … تلك القيم التي كان يبدو أنَّ عمره الصناعي قد فقدها، كما أن طراز العمارة القوطية الجديد الذي اكتسح إنجلترا في الوقت نفسه، كان يحاول أن يُعيد «بصريًّا أيضًا» خلق روح الإحساس بالمجتمع وطهارة العصور الوسطى، تلك الروح التي دمرتها العصور التجارية التي جاءت بعدها،٧٣ كما صدم الرومانسيون أيضًا بالتصنيع، آخر تباديل المجتمع التجاري. أصبحت المصانع والمحرِّكات البخارية والمداخن صورًا حقيقية من الجحيم. كتب الشاعر «وليم بليك» عن «الطواحين الشيطانية السوداء»، وكتب «توماس جراي» Thomas, Gray عن الشياطين وهي «تعمل» في مسابك الحديد، وكتب «روبرت سوذي» Robert Southey عن «الضجيج الجهنمي والمهن الجهنمية»،٧٤ وَصْف «بليك» للندن الصناعية الباكرة يتعارض تمامًا مع الصورة التي رسمها التنوير للمدينة كقمة «للرقي» المدني وللحضارة:
أجول في كل شارع … مخطط
بالقرب من المكان الذي ينساب فيه نهر «التيمز» … المخطط،
فأرى على كلِّ وجه أقابله
آثار الضجر والكرب …
في صرخة كل إنسان،
في صرخة رعب يُطلقها كلُّ طفل،
في كل صوت … في كل لعنة …
أسمع صليل الأصفاد التي صنعها العقل …
أما «ووردزوورث» فيُلقي هذه النظرة المظلمة الكئيبة على إنجلترا في سنة ۱۸۰٦:
العالم أقوى منَّا،
عاجلًا وآجلًا … نكسب ونخسر،
نبدِّد طاقاتنا،
ليس لنا في الطبيعة سوى القليل.
لقد تنازلنا عن قلوبنا، ويا لَها من هبة شحيحة!
وكان «روبرت سوذي» يقارن بين حِقبة المادية والجشع الجديدة، وإنجلترا في مرحلة باكرة عندما كان «مالك الأرض الخيِّر يجلس مع مستأجري أرضه حول النار وهي تُطقطق.» عندما كان الكل يتشاركون النفع، طبقًا للمكانة الاجتماعية. كان عالمًا تجمع فيه روابط التقاليد والدين وروح الجماعة بين الجميع، ثم «بالتدريج حلَّت روحٌ تجارية محلَّ المبدأ البسيط للنظام الاقتصادي، الذي كان طبيعيًّا وتلقائيًّا رغم بساطته، الربح والخسارة أصبح قانون السلوك، دخل الحساب في كل شيء واختفت المشاعر.»٧٥
وسيكون ذلك هو تراث الرومانتيكية الأكثر بقاءً: «انسلاخها عن زمانها وعصرها» «لا شعر يمكن أن يزهر في التربة الجديدة، الدراما ماتت … الحلم الصوفي الذي حفره راهب القرن الثاني عشر على صخور حرمه المقدَّس يستعاد لتزيين مخزن تجاري بطريقة فجَّة، تصميم الدير يُعدَّل لبناء محطة سكة حديد»، لم تكن تلك عبارات «ووردزوورث» أو «سوذي»، وإنما هي كلمات المحامي الأمريكي «بروکس آدمز» Brooks Adams في سنة ۱۸۹۳، الرومانتيكية علَّمت الجميع أن صُنَّاع الحضارة الحديثة من أبناء الطبقة الوسطى (والتي تضم بالطبع محترفين من أمثال «بروکس آدمز» نفسه) لا بد أن يكونوا مهذبين، مجتهدين، محترمين … ولكنهم في الوقت نفسه أصبحوا ماديِّين محافظين على القديم.
وكان هناك آخرون ممن يرَون أن أكبر منجزات الحضارة — وهو «الرقي» و«تهذيب وتحسين أخلاق الناس» — شيء فاسد بالدرجة نفسها، وهو انبعاث لعملية التدهور. ومن دواعي السخرية، أن يكون الهدف من كل هذه المخاوف هو الرومانتيكية نفسها.
التدهور یعني — حرفيًّا — «السقوط»، الذي كان الرومان يصفون به ضياع معيار ثابت أو مستوًى محدد من التميُّز الأدبي، ومثل كلمة «سقوط» أصبحت الكلمة لصيقةً بصورة انهيار الإمبراطورية الرومانية، وبالفعل كانت مصطلحًا للسباب وليس للتحليل.٧٦ ولكن كلمة «التدهور» تعني أيضًا أن الانهيار في المستويات الفكرية والمعنوية ذو علاقة بالمستويات الاجتماعية والاقتصادية الأكبر.٧٧⋆
التدهور يبدأ عند القمة، عندما تفقد النخبة رغبتها في الحفاظ على النظام القديم، وبدلًا من مقاومة الانهيار المحدِق، فإنَّ السياسيِّين والفنانين والأرستقراطيِّين المتدهورين يعتنقون التدهور ويقبلون به. وقد وضع «آرثر بلفور» Arthur Balfour هذه الفكرةَ على النحو التالي في سنة ۱۹۰۳م:
«عندما تسود حالة من وهن العزيمة العميق في دولة عريقة ما تزال قوية، عندما يصبح ردُّ الفعل إزاء العلل والأسقام المتكررة أكثر ضعفًا، تتراخى المؤسسات وتضعف، وينحسر الحماس ويكون هناك — كما أعتقد — عملية تفسُّخ أو انحلال اجتماعي يمكن أن نسميَها ﺑ التدهور.»٧٨
وفي القرن التاسع عشر، أصبحت كلمة «التدهور» هي كلمة السر لردِّ الفعل المحافظ ضد تجاوزات الرومانتيكية؛ فالرومانتيكية تلجأ إلى العواطف القوية وغير المألوفة، وللبشر المصدومين الذين اعتادوا معاييرَ أكثرَ رزانة ورصانة. وفي أواخر حياته، كان «جوته» Goethe يُعلن أنَّ «الكلاسيكية» صحة، و«الرومانتيكية» مرض. ثم نشر «ديزيريه نيسارد» Desiré Nisard في سنة ۱۸۳٤ كتابَه: «دراسات في أساليب ونقد الشعراء الرومان في عصر الانحطاط» الذي يخلص إلى أنَّ ذلك التدهور أو الانحطاط الغريب الذي حدث للأدب الرومانسي الحديث لم يكن سوى انعكاس لتدهور أكبر في القيم الأخلاقية والاجتماعية في المجتمع الحديث، وسرعان ما أصبح الجميع يستخدمون المصطلح.
في سنة ۱۸٥٤ كتب قاضٍ باريسيٌّ في تقرير لرؤسائه:
«أعتقد أنَّ مجتمعنا يُعاني من علَّة عميقة.» ويُنهي كتابه بأنَّ «الأدب الرومانسي قد منح رخصةً لأسوأ الغرائز وأكثرها انحطاطًا.» وكان يرى الشيء نفسه في كل مکان «الإشباع الفوري للشهوات، البحث عن المتعة، الذاتية المتوحشة … وإذا استمر حالنا على هذا المنوال، فسوف تعود أيام التفسُّخ الروماني.»٧٩
بعد عامين، كشف «توماس كوتير» Thomas Couture عن لوحته «رومان الانحطاط»، التي أثارَت عاصفةً من التعليقات والجدل في «باريس»، والتي يظهر فيها طقس روماني عربيدي في أحد القصور الفخمة الزاخرة بكل مظاهر الترف، بينما يبدو الملل والسأم على وجوه المشاركين فيه وهم سادرون في عالم المباهج الحسية … وذلك لأن الأرواح ميتة. لقد استنفدت الدعة المادية والثراء الفاحش كل الإبداع … كل الحياة، كما أرفق «كوتير» بلوحته هذه، العنوان الفرعي للهجائية «السادسة» ﻟ «جوفينال» Juvenal:
الترف أكثر شرًّا من كل عدو غريب،
يضع يده الثقيلة علينا،
ويثأر منَّا، للعالم الذي أخضعناه بالفتوحات …٨٠
نجاح المجتمع المتحضِّر، يحقِّق وفرةً في الكماليات ووسائل الراحة، لبشر لم يَعُد مطلوبًا منهم أن يُكافحوا أو يُجهدوا أنفسهم لكي يعيشوا، بشرٌ أصبحوا ناعمين و«متخنثين»، وكما كان «روسو» يوجِّه اتِّهامَه قبل قرن من الزمان «… لقد وهنت الشجاعة الحقيقية، (و) انحلال الأخلاق بالتالي يؤدِّي إلى فساد الذوق …»٨١
خلف هذا النقد الأخلاقي، يكمن نقدٌ للمبادئ والأسس التقليدية للاقتصاد السياسي، وحيث إنَّ قوى تقسيم العمل العنيدة تجعل التخصُّص يَصِل إلى النقطة الأكثر حرجًا، فإنَّ الحضارة تَصِل إلى أكثر مراحل تطورها … مرحلتها المتأخرة … أو «الحديثة».
إنَّ فنان الانحطاط ورجل الأعمال المادي المحافظَين على القديم، كلاهما يعبِّر عن شخصية إنسانية انكمشت إلى أضيق وأحطِّ مستوًى، كلاهما يسعى ويلهث خلف أشياء غريبة تاركًا كلَّ شيء آخر: المال في حالة الثاني (رجل الأعمال)، والرضا الذاتي في حالة الأول (فنان الانحطاط). وفي كلتا الحالتَين، تتوارَى قوى الخلق والإبداع، وينتصر المادي على الروحاني. «نيتشة» يشخِّص الانحطاط والتفسُّخ بقوله «لم تَعُد هناك حياة للكل، الشلل والتحدر، أو العداوة والفوضى.» ويختتمه بقوله: «المجتمع المنحط مثل الفن المنحط، مرکب، ومتعمد، وزائف ومصطنع.»٨٢ وما كان مفترضًا أن يكون تطورات إيجابية (مثل نمو الثروة الصناعية، والحكم الذاتي، ونهوض التكنولوجيا، وانحسار الدين) أصبح٨٣ الآن نذيرًا «بالساعات الأخيرة من عمر الحضارة.»
هنا، دخلت أوروبا مرحلةَ «أرذل العمر»، بتعبير «فيكتور هوجو» في سنة ۱۸۲۷، وكان أيامها في الخامسة والعشرين من العمر، وحضارتها الآن «قديمة» … «مرهقة» … «هرِمة» … «منهارة» … و«محتضَرة»، كما كان يقول كتَّاب رومانسيون آخرون. أخذ التقدم معنًى يدعو للسخرية المُرة، كما جاء في مناقشة «تيوفيل جوتييه» Théophile Gautier لتقدم الفنون في مقدمته ﻟ «مدموازيل دوموبان».٨٤⋆ كتب بقسوة مرة:
«منذ قرون كان عندنا «رافائيل»، و«مايكل أنجلو» … والآن لدينا «م. بول دي لاروش» … وذلك كله لأننا نتقدَّم.»
إلا أن «هوجو» و«جوتييه» بسخريتهما من فكرة التقدُّم، قد كشفَا عن الافتراض الأساسي نفسه كما فعل «كونت» و«سبنسر»، وهو أنَّ المجتمعات والحضارات لها فترة عمرية ووظيفة محددة مثل الجهاز البيولوجي ووظائف أعضائه.
«الجنس البشري، بشكل عام، قد نما وتطوَّر ونضج … كما يحدث لأي شخص ما»، كما يقول «هوجو» و«كان طفلًا ذات يوم، ثم رجلًا، والآن نحن ننظر إليه فنراه في أرذل العمر.» کان «هوجو» رجع صدًى لفكرة «عضوانية»٨٥⋆ قديمة، تعني أنَّ العمليات الحيوية تنشأ نتيجة نشاط أعضاء الكائن كلها بوصفها نظامًا متكاملًا، والفكرة من أيام «جيامباتيستا فيكو» Giambattista Vico (التي كانت كتاباته تلقَى ترحيبًا جديدًا في الدوائر الأدبية الباريسية) وهي في الأصل تعود إلى أفلاطون والإغريق، وكما يُدركنا كلَّنا الهرمُ في النهاية، فإن تلك الرؤية «العضوانية» لا بد أن تُدرك الحضارة الأوروبية.
كان «جون درابر» John Draper قبل عقدَين قد نبَّه إلى أننا «نرى في الحضارة الصينية ما سنكون عليه في الهرم»، وكذلك فإنَّ كلًّا من الرومانسيِّين وخصومهم كانوا يقولون إنَّ الحضارة الغربية كانت قائمةً بالفعل، وكان أمرًا مسلَّمًا به على جانبَي الأطلنطي أنَّ أوروبا هي العالم القديم، في مقابل العالم الجديد … أو أمريكا، حتى قوة أوروبا ونفوذها الذي لا يُنازَع في الكرة الأرضية أصبحَا محلَّ شك، فكلُّها لا تؤكد سوى أن حِقبة النمو الديناميكي قد ولَّت، وأنَّ المستقبل المتبقي هو النضج … الذي ينزلق نحو نضج أكثر مما ينبغي … حتى يَصِل إلى الانحلال أو التفسُّخ، وبمعنًى آخر، فإنَّ خوف القرن التاسع عشر من التفسُّخ والتدهور يعبِّر عن خوفه من نجاحه، قوة الحضارة الأوروبية التي تسبِّب الفزع كانت تأخذ شكلَ «الإفراط»، تخمة من الثروة السهلة والحراك الاجتماعي والرفاهية المادية والرضا الذاتي، إلى جانبِ زخمٍ من تغييرِ وتدمير كلِّ ما كان قائمًا قبل ذلك.
کتب «شارل بودلير» Charles Baudelaire: «لقد أدَّى التقدُّم إلى ضمورِ كلِّ ما هو روحاني فينا.»٨٦ «التجاوزات» نفسها والتي خيَّبت ظنَّ الرومانسيِّين الراديكاليِّين — مثل «جوتييه» — وصدمَتهم، أغاظَت كذلك خصومَهم المحافظين وأحنقَتهم. بعد مرور ست سنوات على كشف النقاب عن لوحة «كوتير» Couture أحدث هجوم أحد أولئك المحافظين، وهو «الكونت آرثر دو جوبينو» Arthur de Gobineau على التقدم انعطافة جديدة … ومروِّعة.