التقدُّم والاضمحلال والتفسُّخ

فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي

شبكة النبأ

2023-11-11 05:54

كل شيء يتغيَّر في أيدي البشر

جان جاك روسو

إنَّ فكرة الاضمحلال هي في واقع الأمر نظرية عن طبيعة ومعنى الزمن، وكذلك أيضًا فكرة التقدم، كما أنَّ مفهوم التاريخ كتقدُّم أصبح اليوم في موضع الشك، بالنسبة للمثقَّفين، وللمؤرِّخين بخاصة، فقد أصبحوا يناقشون أصولَ وتاريخ «فكرة التقدم» وكيف كانت بمثابة «أسطورة» ثقافية قوية في الفكر الغربي.١ إلا أنَّ أصل ومغزى أسطورة الاضمحلال لم يحظَ إلا بالقليل من الاهتمام، ولكنَّ الفكرتَين وجهان لعملة واحدة. فكل نظرية عن التقدم تنطوي أيضًا على نظرية للاضمحلال، حيث إنَّ قوانين التاريخ «الحتمية» يمكن أن ترتدَّ إلى العكس كما تتحرك إلى الأمام، كذلك عندما نقابل نظريةً عن اضمحلال الحضارة الغربية، فإننا يمكن أن نجد نظريةً عن التقدُّم متوارية تحتها.

ومن الناحية العملية، فإنَّ أيَّ ثقافة سواء في الماضي أو الحاضر تعتقد أن البشر، رجالًا ونساء، ليسوا على المستوى الذي كان عليه آباؤهم وأسلافهم. ففي إلياذة «هوميروس» في الأدب اليوناني القديم مثلًا نجد وصفًا ﻟ «أجاكس» وهو يرفع كتلةً ضخمة من الصخر بيدٍ واحدة، «لا يستطيع شابٌّ قويٌّ من جيلنا أن يرفعها بكلتا يدَيه».٢ بعد ذلك بمائتَي عام، في القرن السابع ق.م. كان الشاعر «هیزيود» Hesiod يرى أنَّ الكونَ كلَّه تحكمه عمليةُ اضمحلال متوالية بدءًا من عصر ذهبي كانت الآلهة هي التي تحكم فيه والناس يعيشون في سلام ووئام، يتبعه عصرٌ فضيٌّ، ثم عصر برونزي، وأخيرًا عصر حديدي يضطر فيه الناس للعيش على عرق جبينهم، ويعانون من مصيرهم «على أيدي ملاك الأراضي، والملوك، والزوجات».

والتشابه بين العصر الحديدي عند «هيزيود»، والطرد من «جنة عدن» مثيرٌ، ولكن «العصر الحديدي» أيضًا هو ترجمة ﻟ Kali Yuga في الديانة الهندوسية و«الفيدية» Vedic، آخر وأسوأ العهود الإنسانية حيث يحكم العالم «الأقوياء والماكرون والجسورون والطائشون». كذلك تظهر أساطير مشابهة في الصين الكونفوشية وبين الأزتيك Aztecs، و«الزرادشت» Zoroastrians، «واللابلاندر» Laplanders وقبائل أمريكية محلية عديدة، وكذلك في قصص البطولة الأيسلندية والأيرلندية، ناهيك عن «سِفر التكوين».٣

لمن أستطيع أن أتكلَّم اليوم؟

الظلم الذي يضرب الأرض،

ليس له نهاية.

لمن أستطيع أن أتكلَّم اليوم؟

ليس هناك بشرٌ صالحون،

والأرض استولى عليها المجرمون.٤

وقد تبدو هذه المشاعر الجيَّاشة حديثةً ومعروفة رغم أنَّ المؤلف كان يعيش بالفعل في المملكة المصرية الوسطى عام ۲۰۰۰ قبل الميلاد تقريبًا. لماذا يشيع إذن هذا الشعور بالاضمحلال في جميع الثقافات؟ ربما يعكس التجربة الإنسانية في التغيرات الجسدية ... من الطفولة إلى النضج والانهيار الحتمي للقدرات الجسمية والعقلية في الهِرَم، والذاكرة الجمعية عن الماضي تميل إلى عالم كان يمتلك قوًى تبدو غيرَ موجودة الآن. ويبدو أن تلك الهبات والخسائر هي التي تكوِّن المراحل الأساسية في الوجود الإنساني ذاته، والتي سوف يلخِّصها «شيكسبیر» ﺑ «أعمار الإنسان السبعة».

وقد كانت عبقرية الإغريق في توسيعهم ذلك الوعي الجسداني بالذات إلى فلسفة عن طبيعة الزمن والتغيُّر؛ فالزمن عندهم هو التغيُّر: ما كنَّا عليه وما نحن عليه الآن سوف ينتهي، سواء كان جيدًا أو سيِّئًا أو وسطًا بينهما، وكان الفيلسوف «هيراقليطس» يرى أنَّ الكون كله يحكمه قانون واحد للتغيُّر: «كل شيء في تغيُّر مستمر. لا استقرار لشيء»، و«أوديب» عند «سوفوكليس»، كان يفهم ذلك ... يفهمه جيدًا:

الزمن يدمر كلَّ شيء،

لا أحدَ بمأمن من الموت سوى الآلهة،

الأرض تفنَى ... كلُّ شيء إلى زوال.

حتى الثقة بين الناس تذوي، ويحل محلَّها عدم الثقة،

الأصدقاء ينقلبون على الأصدقاء،

والمدن على المدن.

مع الزمن ... كل شيء يتغيَّر: البهجة إلى مرارة،

حتى البغضاء تتحوَّل إلى حب.٥

كما أنَّ كلمة «الزمن» باليونانية، وهي Chronos هي اسم الإله الذي التهمَ أطفاله. وقد تخلَّل الوعيُ بالطبيعة الانتقالية أو العابرة للوجود الإنساني كلًّا من الثقافتَين الإغريقية والرومانية.٦⋆

وهو الذي يُشكِّل أساس أسطورة «أركاديا»، الجنة الرعوية الخيالية، التي يستمتع فيها الرعاة - ذكورًا وإناثًا - بالحياة بلا أحزان أو هموم، بالإضافة إلى شعار Carpe diem،٧⋆ فقد كانت الحياة قصيرة، والسعادة سريعة الزوال ولا محل لتأجيل المسرة!

أيها الغد، مهما كنت سيئًا، يكفيني أنني قد عشت اليوم،

كن عادلًا أو شريرًا، ممطرًا أو مشرقًا،

فالمباهج التي عشتها رغم أنف القدر ... ملك لي ...٨

ولكنَّ النظرة الإغريقية الرومانية للزمن كانت تنطوي أيضًا على اقتناع راسخ بأنَّ الأحداث لا تقع اعتباطًا، وإنما طبقًا لدورة متكررة من الميلاد والحياة والاضمحلال والموت ثم الميلاد مرة أخرى. وكان المصطلح الإغريقي لذلك هو «الثورة» Anakuklosis، وكان «أفلاطون» يرى أنَّ الدولة - المدينة الإغريقية - تتحرك حسب دورة متواترة، وكان المؤرِّخ الإغريقي «بوليبيوس» Polybius يقول إنَّ النظم السياسية تتبع سلسلةً من الثورات، مثل الملكية التي تتحلَّل إلى استبدادية، تؤدِّي إلى أرستقراطية، تتحلَّل إلى أوليجاركية (حكم قلة) والتي تؤدِّي بالتالي إلى ديمقراطية يتبعها فوضوية تتطلَّب العودة إلى حكم الفرد أو الملكية.٩

وقد أخذت هذه الدورة في العصور الوسطى شكلَ «عجلة الحظ»؛ فالإنسان ممسوك في يد القدر مثل الخيط في عجلة الغزل، وبإدارة العجلة، يرفع الحظ بعض البشر إلى أعلى، مثل الملوك والأبطال والباباوات، ثم بدورة ثانية من الذراع يدفعهم إلى أسفل مرة أخرى. الشهرة والعظمة تصادفية ولا نظام ولا منطق لها.١٠ أما ملاذ الإنسان الوحيد في وجه الحظ والظروف العمياء فهو «فضيلته»، وكلمة «فضيلة» virtus في الأصل تعني الشجاعةَ في القتال، ولكنها أصبحت تتضمن أيضًا نزاهة الإنسان في شتى مجالات الحياة. كانت «الفضيلة» هي القوة الداخلية اللازمة للتغلُّب على «تروس وأسنان عجلة الحظ»، كما قال «شیکسبیر»، ومن أجل تشكيل مصير الإنسان، وكان «هرقل» Hercules هو رمز الفضيلة، هو البطل قاهر الوحوش الذي مكَّنَته قوته الجسمية من تحدِّي الخوارق المستحيلة، وكان «هرقل» إلى حدٍّ كبير، هو الإله الأكثر شهرة في العالم القديم وفي عصر النهضة، والرمز المأمول لقدرة الفرد على تحديد وجهة حياته ضد رغبة القدر الأعمى.١١

وفي العصور الوسطى أخذت الفضيلة بُعدًا إضافيًّا وهو الصبغة المسيحية، وأصبح «الحظ» يُعرَف أو يتحدَّد بالخطيئة ومملكة البشر الفاسدة والشيطان. وفي عصر النهضة أحيَا «ميكيافيللي» Machiavelli التناقض بين الفضيلة والحظ ليظهرَ في زيٍّ وثنيٍّ، وكما شرح مؤلف «الأمير»، فإن «الحظ امرأة» تطلب رجلًا قويًّا لكي يستأنسها ويحكمها، ولهذا السبب «فهي تميل دائمًا إلى الرجال الأصغر سنًّا والأكثر شبابًا؛ لأنهم أقلُّ حذرًا وأكثر جسارة».

الفضيلة نقيض الحظ، الفضيلة نقيض الفساد، وفيما بعد سيكون الصدام بين «الثقافة» Kultur و«الحضارة» Zivilisation، وفي كل حالة، التاريخ يحدِّده صراعٌ حتميٌّ بين الشخصية الإنسانية والقدر المجهول، وقد أمن الإغريق القدامى بأن ذلك الصراع جعل تطوُّر العلوم والفنون ممكنًا؛ حيث يصارع الإنسان الطبيعة البدائية والظلام المحيط به كما في أسطورة «بروميثيوس». وعلى نفس المنوال، يصارع فیلسوف «أفلاطون» قوى الجهل والاعتقاد وهو يرتقي من «کهف الأوهام الضبابية» إلى «مملكة الأفكار الصافية»، كما كان المؤرِّخ «ثاكيديدس» Thucydides يری الصراع نفسه يُحوِّل اليونان من البربرية الفظَّة إلى الدولة المدنية أو Polis.١٢ وفي النهاية، لم يكن هناك مهربٌ من القدر على أية حال. حتى الآلهة كانوا يحكمون بمقتضاه، كلهم لا بد أن يعود في النهاية إلى الظلام البدائي (الهيولى)، (ومعناه باليونانية Chaos) لكي يبدأ من جديد، هكذا إلى أن يجيءَ - ذات يوم - شخص يتمتع بما يكفي من الفضيلة (بالإضافة إلى الدعم الجماعي من الآلهة) فيتمكَّن من إيقاف دورة القدر الحمقاء ويعكس اتجاهها ويستعيد العصر الذهبي المفقود. في العالم الكلاسيكي سيكون «أوغسطس قيصر» Augustus Caesar هو ذلك الرجل، والعصر الذهبي المستعاد هو «روما» الإمبراطورية.

عصرنا هو عصر التتويج الذي جاء في النبوءة.

من الزمن ... تُولد وتبدأ دورة جديدة وعظيمة تمتد قرونًا.

العدل يعود للأرض، العصر الذهبي يعود،

ومن السماء يهبط معه أول مواليده.

ستتوقف القلوب الحديد،

والأرض ترثها القلوب الذهب.

هكذا تكلَّمت الأقدار،

في توافق نغمي مع المصير الذي لا يهتز ...

أما نشيد الرعاة Fourth Eclouge ﻟ «فيرجل» Virgil فقد كُتب في عام ٤٠ق.م. للاحتفال بانتصار «أوغسطس» في «أكتيوم» على «مارك أنطونيو» وكليوباترة:

أعلن «فيرجل» أنَّ القدر يقف الآن إلى جانب الإنسانية بدلًا من الانقلاب عليها، ولأنَّ الخطر قد تمَّ تدميره وإيقافه في مداره، أصبحت إمكانيات الإمبراطورية في الزمان والمكان بلا حدود ...

القيصر أو أغسطس ... ابن الإله،

مقدَّر له أن يحكم.

ولسوف تتسع إمبراطوريته،

متجاوزةً «الجارامانت»،١٣⋆ والهنود

إلى أرض وراء وراء البروج،

ومدار الشمس السنوي.

والآن تصبح الحركة الدائرية للحظ والتاريخ هي «نقل الإمبراطورية» من الشرق إلى الغرب، متَّبعة مدار الشمس، من إمبراطوريات الشرق ومصر والشرق الأوسط (التي يضم حطامُها أيضًا نظامًا سماويًّا أرضيًّا) إلى الإغريق ثم إلى «أوغسطس» وخلفائه. وقد ظلت أسطورة الإمبراطورية الكونية تغذِّي الدعاية الرومانية الإمبراطورية إلى عهد «جستنیان» Justinian، واقترحت دورًا جديدًا للحكام من البشر: إنشاء دولة لا تقوم على الغزو ولا حتى على الفضيلة البطولية، وإنما على التوافق الكوني - «تعوَّد الناس على فنِّ السلام بتذويب الفوارق العارضة في كل واحد خالد. العلوم والفنون ستزدهر، وسوف تختفي كلُّ بوادر الصراع» - أو الاضمحلال.

كان للإمبراطورية والاستعمار - إذن - دلالات إيجابية وليست سلبية بالنسبة للأوروبيِّين قبل الحداثة. فقد تعهَّد ورثة روما الإمبراطورية الكثر ومقلدوهم، بمهمة إقامة إمبراطورية، تكون كونية ومتجانسة ودائمة. وقد أثَّر ذلك على تلك الصورة المسيحية المركزية للمسيح يوم القيامة «ملك الملوك»، الذي سوف تذوب في إمبراطوريته الكونية كلُّ الإمبراطوريات السابقة والموجودة. وبالنسبة للمتأخرين من المسيحيِّين القدامى، تبدو إمبراطورية روما مبشرًا بالكنيسة المسيحية الكاثوليكية (في اليونانية Katholikos تعني الكونية):

«ما سرُّ القدر التاريخي لروما؟ الرب يريد وحدة

البشرية ... وإلى يومنا هذا، الأرض كلها من الشرق إلى

الغرب ممزقة إربًا بسبب الصراع المستمر. ولوضع نهاية

لهذا الجنون، فقد علَّم الرب الأمم أن تكون مطيعةً لنفس

القوانين، وأن يكون الكل «رومان». والآن نری

البشرية كلها تعيش في مدينة واحدة ... إنَّ ذلك هو

معنى کل انتصارات الإمبراطورية الرومانية: إنَّ السلام

الروماني قد مهَّد الطريق لقدوم المسيح.»١٤

وقد حاول «شارلمان» وكل الأباطرة الرومان (المقدسين) بناء تلك «الإمبراطورية المسيحية» الواحدة في العصور الوسطى، بينما نجد سلسلةً كاملة من الحكام العلمانيِّين في عصر الاستبداد (من «إليزابيث الأولى» في إنجلترا إلى «لويس الرابع عشر»، ملك الشمس، في فرنسا) يميلون إلى نفس التصوُّر الذهني المثالي الرحب.١٥

بالنسبة للعالم الوثني فإنَّ أفضل ما يمكن الطموح إليه في عالم يحكمه القدر، هو الوصول إلى ثبات معين في الزمن. كانت الإمبراطورية الكونية نوعًا من الورطة مع التاريخ: فهي تَعِد بأنَّ المستقبل لن يأتيَ بشيء سيِّئ، ولكنه كذلك لن يأتيَ بجديد. أما المسيحية فقد قدَّمت منظورًا جديدًا من خلال أسلافها العبرانيِّين. فالزمن ليس محكومًا بالقدر، وإنما بإرادة «يهوه» (رب العبرانيِّين)، ولم تَعُد حركةُ التاريخ دائرية وإنما خطيَّة، تمضي من النشوء إلى يوم القيامة طبقًا لمشيئة الرب، فهو يقول لجماعة المؤمنين «أنا البداية والنهاية، أنا الأول والآخر.»

ومع النظرة الخطيَّة الجديدة، يصبح المستقبل أكثرَ أهمية من الماضي في تقرير علاقات الإنسان - ذات المعنى - بالآخرين، حيث تتقدَّم البشرية إلى الأمام ... نحو القدوم الثاني للمسيح. حدثٌ مستقبليٌّ وهدفٌ نهائي - العصر الألفي السعيد أو عودة المسيح ليحكم إمبراطوريته الكونية - يوجه التاريخ كله وأفعالنا فيه.١٦

أما النص المركزي بالنسبة للمنظور الألفي للتاريخ فكان «سفر الرؤيا» عند «يوحنا» في «العهد الجديد» أو «كتاب الرؤيا» (في شكله الإغريقي)، ومن منظور سفر الرؤيا فإنَّ الأشياء في العالم ليست أبدًا كما تبدو لنا، الوحش ذو الرءوس السبعة والقرون العشرة، والذي يرمز للإمبراطورية الرومانية تحت حكم «نیرون» يبدو قويًّا وخالدًا؛ فالعالم كله: «... وسجدوا للوحش قائلين: مَن هو مثل الوحش؟ مَن يستطيع أن يحاربه؟» (۱۳: ٤).

ولكن الوحش في الحقيقة ضعيف ولا أهمية له؛ إذ ليس له مكان في مشيئة الرب النهائية. وكما يشرح الملاك: «الوحش الذي رأيت، كان وليس الآن وهو عتيد أن يصعد من الهاوية ويمضي إلى الهلاك، ولسوف يتعجَّب الساكنون على الأرض ...» (١٧: ١٨).

الخروف وتابعوه سوف يدمرون إمبراطوريةَ الوحش والمرأة «الزانية». الخروف وتابعوه هم تلك الطائفة المسيحية التي مسح الرب على رءوسهم بالزيت. وفي التاريخ فإنَّ التمرُّد وليس الحاكم، هو الذي سيخرج منتصرًا في النهاية. «هؤلاء سيحاربون الخروف، والخروف يغلبهم لأنَّ ربَّ الأرباب وملك الملوك، والذين معه مدعوون ومختارون ومؤمنون» (۱۷: ١٤). نبي الرؤية هو الذي سيجلب الطمأنينة للمظلومين والمبتلين، بإعلان حكم الله على الواقع بالهلاك، وإعلان ما سيحل محلَّه. وقد وجدت هذه الفكرة الرؤيوية أول تطبيق عملي لها عام ٤١٠ق.م. عندما علم «القديس أوغسطين» Saint Augstine أسقف «الهيبو» في شمال أفريقيا أنَّ «روما» قد سقطت في أيدي «القوطيين» الغربيِّين؛ إذ قال «أوغسطين» لأبناء الأبرشية المستائين: إنَّ ذلك لم يكن نهايةَ العالم، بل بداية جديدة ومجيدة. وأعلن أن سقوط «روما» قد فتح الطريق لبناء نظام مسيحي عالمي لكي يحلَّ محلَّ «بابل» الأرضية الوثنية الفاسدة، وأطلق على مدينته المستقبلية الخالدة «أورشليم الجديدة» التي سوف يتَّحد فيها كلُّ المؤمنين بالرب أخيرًا وإلى الأبد.

وقد أصبحت «مدينة الرب» عند «أوغسطين» أساس اللاهوت المسيحي في الغرب في العصور الوسطى. وسرعان ما وجدت الكنيسة الكاثوليكية التي كانت قد أرسَت قواعدها في روما نفسَها مع هذه اﻟ «أورشليم الجديدة»، وأصبحت فكرة أنَّ روما البابوية هي المدينة الخالدة، جزءًا لا يتجزأ من صورة الكنيسة عن نفسها. ولكن ظلَّ هناك توتُّر على مدى العصور الوسطى كلها بين مؤسسة كنسية تُعرِّف نفسها بأنها الإمبراطورية العالمية الجديدة، وبين توحُّد رؤيوي للإمبراطورية الأرضية مع المسيح الدجال سلسلة متعاقبة من الأنبياء والمتمردين، مثل «جواشيم فيوري» Joachim of Fiore، و«جون ويكلف» John Wycliffe، و«جان هاس» Jan Hus، و«سافونارولا» Savonarola، کانوا كلهم مصرِّين على أنَّ الكنيسة الرسولية الرومانية تحمل علامةَ الوحش. وفي كثير من الأحيان، كان الأمر ينتهي بأولئك المتمردين بالإعدام حرقًا أو بالشدِّ على الخازوق، كما بقيَ حقُّ الكنيسة في السلطة ثابتًا لا يُنازَع، ولكن واحدًا ما استطاع أن يزوغ من مضطهديه ويؤسِّس «كنيسته الإصلاحية الحقيقية». لم تكن الكنيسة الكاثوليكية بالنسبة ﻟ «مارتن لوثر» شيئًا أكثر أو أقل من «بابل»، كتب في سنة ۱٥۲۰: «ليس مستغربًا أن يجعل الله السماءَ تُمطر نارًا وكبريتًا، وأن يُغرِق روما في الهاوية كما فعل بسدوم وعمورة في الزمن القديم، والبابا هو المسيح الدجال.» ويضيف لوثر متسائلًا: «وإذا لم يكن المسيح الدجال، فليقُل لي أحد مَن هو إذن؟»١٧

وقد فسَّر كلٌّ من البروتستانت والكاثوليك، على السواء، الحروب الدينية في أوروبا في القرن السادس عشر على ضوء «سفر الرؤيا»، والصراع ضد «مسيح دجال» يتوعدهم، وكان الخلاص يتطلَّب - كما يبدو - التدمير العنيف والنهائي لكل ما كان قبل ذلك؛ حيث كانت قد وقعت مجازر وأعمال فظيعة في الجانبَين. وبفضل انحسار العواطف الطائفية في القرن السابع عشر، ظهرت رؤية للتاريخ أقل كارثية، ظهرت فكرة التقدُّم.

* مقتطف من كتاب (فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي) لمؤلفه آرثر هيرمان وترجمة طلعت الشايب-المصدر: مؤسسة هنداوي

....................................
١ Bury, Idea of Progress; Teggart, Theory and Processes of History; Van Doren, Idea of Progress; Nisbet, History of the Idea of Progress, See also A. J. Todd, Theories of Social Progress (New York, 1918).
٢ Iliad, trans. E. V. Rieu (Harmondsworth, 1950), p. 231.
٣ Zimmer, Philosophies of India, p. 106; Levin, Myth of the Golden Age in the Renaissance, pp. 9-10.
٤ Quoted in H. Frankfurt, Ancient Egyptian Religion (Chicago, 1948), p. 143.
٥ Sophocles, Oedipus at Colonus, 608–15 (the translation in mine).
٦ ⋆يلاحظ مثلًا «ماركوس أوريليوس» في «التأملات»: «يفكر كيف تتوارَى أشياء اليوم بسرعة تحت أشياء الأمس في هذه الحياة، مثلما تغطي طبقةٌ من الرمال المتحركة طبقةً أخرى».
٧ ⋆استمتع بوقتك الحاضر. (المترجم)
٨ Horace, Odes, Bk. I, XXIX, pp. 41–48 (the translation is by John Dryden).
٩ Polybius, The Rise of the Roman Empire (Harmondsworth, 1979), pp. 309-10.
١٠ Ezell, Fortune’s Merry Wheel; Patch, Goddess Fortune in Melieval Literature.
١١ G. Karl Galinsky, The Heracles Theme: Adaptations of the Hero in the Literature from Homer to the Twentieth Century (Totowa, NJ, 1972); Patch, Goddess Fortune in Medieval Literature; Pocock, Machiavellian Moment.
١٢ CF. Peloponnesian War, B. One, Ch. 1, and Edelstein, Idea of Progress in Classical Antiquity, pp. 30-31.
١٣ ⋆ Garamants شعب قديم من الشعوب الحامية، كان يعيش في منطقة الصحراء الشرقية الكبرى على أيام «هيرودوتس». (المترجم)
١٤ A. C. Prudentius (b. 384 A.D.), quoted in Dawson, Making of Europe, p. 40.
١٥ Yates, Astraea; Burke, Images of the Sun King.
١٦ Tuveson, Millennium and Utopia.
١٧ “To the Christian Nobility of the German Nation,” in Three Treatises by Martin Luther, pp. 35, 86.

ذات صلة

استراتيجية وحدة المسلمين في مواجهة أعدائهمكاميلا هاريس خسارة الانتخابات أم خسارة القيم؟في تفسير ظاهرة تصادم النخب الثوريةحملة وطنية لمكافحة التصحّرالقطاع الخاص وحاجته للقوة الاكاديمية