كَلِمَةُ الْحَقِّ وَحَقُّ الْكَلِمَةِ
الشيخ الحسين أحمد كريمو
2020-06-21 08:48
موسوعة الكلمة
هذا لا يخفى عليكم أنه عنوان موسوعة فخمة ضخمة جمعها وأبدع تبويبها الشهيد السعيد السيد حسن الشيرازي (قدس الله روحه الطاهرة)، شهيد الحق والحقيقة والكلمة المحقة.
وفي تسعينات القرن الماضي وحيث كانت قرية السيدة زينب (ع) في أطراف دمشق الشام تضجُّ وتعجَّ بالعلماء والأدباء، وطلبة العلم الحوزوي من كل البلدان لا سيما بلدان الظلم والقهر التي يسمونها إسلامية، ولكن يحكمها أبناء الجهل والجاهلية، الذين جابوا حثالات الأمم إلى دولهم، وشرَّدوا أهل الأصل والفكر والدين من بلدانهم ليعمَّ الجهل ويسود حكم الجاهلية.
فجاء أولئك الشرفاء والعلماء، واهل الفكر والذكر، وطلاب الحق والحرية واجتمعوا في بلدة وجوار الطهر زينب الكبرى (ع)، لأنها كانت ساحة الحرية الوحيدة في البلاد العربية في تلك الفترة، فاجتمع فيها الجميع وراحوا يتعلمون في الحوزات العلمية وينشرون الأفكار والآراء كل في وسيلته وطريقته، وكان لي نصيباً وافراً بمشاركات علمية وأدبية كثيرة في حينها.
ومما اطلعتُ عليه كان تراث السيد الشهيد السعيد حسن الشيرازي (رحمه الله) بكل أطيافه وأبعاده المختلفة، من حوزة علمية رائدة وأولى، إلى كوكبة من الطلاب الأعلام الذين درست على أيدي بعضهم حتى البحث الخارج، وكم هي القصص التي حُكيت لي عن ذاك السيد العملاق في فكره وهمته وأدبه وأهم من ذلك كله أخلاقه الراقية جداً..
وكذلك تراثه العلمي والأدبي فقرأت كل ما حصلتُ عليه في حينها فأعجبتُ بتلك الكلمات التي كان يخطها أدباً رفيعاً قلَّ نظيره، وشعراً جميلاً بمختلف أنواعه، وعلماً غزيراً فاجأني طرحه في الكثير من كتاباته لا سيما القرآنية، كما في خواطري عن القرآن، الذي يُعتبر فتحاً علمياً كبيراً في علوم القرآن وأدبه وطرق الاستفادة منه، أو موسوعته العملاقة التي تفوق (25) مجلداً ضخماً، فاقترح أحد الأخوة الأعلام أن أكتب لهم مقدماتها، وذلك بعد أن كتبتُ مقدمة كانت مميزةً ورائعة كما وصفوها حتى أنهم طبعوها مستقلة في كُتيب ووزعوها في إحدى سنويات السيد الشهيد، فاستجبتُ لرغبة الأخوة الكرام وفعلاً وفقني الله تعالى لكتابة مقدمات مسهبة (45) صفحة لكل كلمة من تلك الكلمات الراقية، والرائعة في أسلوبها وتبويبها.
كلمة الحق
يقول أحد الأدباء: "الكلمة نور.. ليست لكاتبها.. وإنما لك.. فقد ورثت تركة ثقيلة أفسدتها الكلمة.. الاستبداد كلمة.. الطغيان كلمة.. والفساد كلمة.. فكيف لك - وأنت بشر - أن تسير فوق الأشواك وحدك؟!.. الكلمة الشريفة تنير لك الطريق وتنزع الأشواك.
الكلمة أمانة.. والسلطة مسؤولية.. الكلمة تحمل أثقال الدنيا عن كاهل الحاكم.. الكلمة الصادقة سيف في غمدك تشهره في وجه أعدائك.. والكلمة ماس يطغى لمعانه على «ذهب» التيجان والكراسي.. ولـ «الكلمة» قدسية.. فبها نادى موسى خالقه.. وبها كرم الله نبيه.. فأصبح موسى صاحب الشرف الوحيد «كليم ربه»!
الكلمة ابتلاء.. ينطقها المرء رصاصة في القلب.. أو زهرة برية تفوح عبيراً.. غير أن لـ«الرصاص» صنفاً لا يُدمى.. يطلقون عليه في الأدب «رصاصة ود».. تومض في السماء، فتنير البصر والبصيرة.. أما «الزهور» فليس كل ما يبدو منها جميلاً وفواحاً.. ثمة كلمات نحسبها زهوراً.. بينما يغلفها الشوك وتسيل منها السموم..!
وتذكر دائماً هذا النص المبدع للراحل العظيم عبدالرحمن الشرقاوي في مسرحيته الخالدة «الحسين ثائراً»..! وذلك في حوار الوليد بن عتبة بن أبى سفيان أمير المدينة الذي أراد بيعة «الحسين» لـ«يزيد بن معاوية».. فقال لإمام الأتقياء:
نحن لا نطلب إلا كلمة
فلتقل بايعت واذهب بسلام إلى جموع الفقراء
فلتقلها واذهب يا ابن رسول الله حقناً للدماء
فلتقلها ما أيسرها إن هي إلا كلمة..
الحسين: كبرت كلمة
وهل البيعة إلا كلمة
وما دين المرء سوى كلمة
وما شرف الله سوى كلمة
ابن مروان بغلظة: فقل الكلمة واذهب عنا
الحسين: أتعرف ما معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة في كلمة
دخول النار على كلمة
وقضاء الله هو كلمة
الكلمة لو تعرف حرمة زاد مذخور
الكلمة نور
وبعض الكلمات قبور
وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشرى
الكلمة فرقان بين نبي وبغي
بالكلمة تنكشف الغمة
الكلمة نور
ودليل تتبعه الأمة
عيسى ما كان سوى كلمة
أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم
الكلمة زلزلت الظالم
الكلمة حصن الحرية
إن الكلمة مسؤولية
إن الرجل هو كلمة
شرف الله هو الكلمة"
قتلوا «الحسين» لأنه آمن بـ«شرف الكلمة».. فصار هو إماماً للشهداء.. وصاروا هم زعماء القتل وسفك الدماء.. كلاهما رحل إلى بارئه.. الأول شهيداً.. ومن دنسوا «الكلمة» يحملون دمه فوق رؤوسهم..!
ويقول أحدهم قائلاً: "تلك الكلمات الرائعة للفذ الراحل الأديب والصحفي والمفكر الإسلامي ذو الطراز الفريد عبد الرحمن الشرقاوي - رحمه الله - في رائعته الشهيرة "الحسين ثائراً" توضح قيمة ومدلول الكلمة وما تمثله من عبء لناطقها لجسامتها.. إن الكلمة مسئولية.
فهل نعى وندرك حقاً معنى وقيمة الكلمة، إن قدسية الكلمة هي مقياس تقدم الحضارة الإنسانية ورقيها، وعندما تستباح الكلمة تتوحش الإنسانية وتنهار الممالك.. أعظم قادة العالم نجحوا بالكلمة وسقطوا أيضًا بالكلمة، فالكلمة طوق نجاة لناطقها إن أدرك قوتها وأحسن استخدامها.. إن الكلمة مسئولية".
فالكلمة ليس حروفاً صامتة، بل هي أصوات ناطقة، فكتاب الله كلمات، وأنبياءه ورسله كلمات، وأولياءه من آل محمد كلمات الله التامات، وهل أعظم من كلمة يُقال لها: (محمد)، أو (علي)، أو (فاطمة)، أو (الحسن)، أو (الحسين)، تلك هي الكلمات، بدأت بمحمد وستنتهي بمحمد، نطق بها القرآن (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام: 115)
هل عرفنا كلمات الحق؟
وهل أدينا حق الكلمات وما يجب لهم علينا؟
حقُّ الكلمة
للكلمة شرف، للكلمة هدف، فإن عرفتَ شرفها، ووجهتها إلى هدفها فأنت أديب أريب، وعالم نجيب ولكن عن لم تفعل كنت خائناً للكلمة، ولصَّاً في الأدب، وسارقاً في العلم، وكنتَ من أولئك الذين ما فهموا معنى قول رسول الله العظم (ص): (أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب)
ولا فقه معنى قوله (ص): (يا عليّ، أنا مدينة العلم وأنت الباب، كذب من زعم أنّه يصل إلى المدينة إلّا من الباب)
وما عرف قوله (ص): (أنا مدينة الحكمة وعليّ بابها، فمن أراد الحكمة فليأتِ الباب)
ولم يستوعب قوله (ص): (معاشر الناس! أنا مدينة الحكمة وعليّ بن أبي طالب بابها، ولن تؤتى المدينة إلّا من قِبَل الباب)
وبالتالي ما فهم، ولا فقه قول أمير المؤمنين الإمام علي (ع) على المنبر كما يروي الأصبغ بن نباته: لمّا جلس عليّ (عليه السلام) في الخلافة وبايعه الناس، خرج إلى المسجد متعمّماً بعمامة رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) لابساً بردة رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) متنعّلاً نعل رسول اللَّه(صلى اللّه عليه وآله) متقلّداً سيف رسول اللَّه(صلى اللّه عليه وآله) فصعد المنبر فجلس (عليه السلام) عليه متمكّناً، ثمّ شبّك بين أصابعه فوضعها أسفل بَطنه ثمّ قال: (يا معشرَ الناس سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول اللَّه(صلى اللّه عليه وآله) هذا ما زقّني رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) زقّاً زقّاً.. سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين)
فكلمة الحق تخرج من مدينة الحق، ومن الباب الحصري لها عن ولي الله الأعظم الذي قال عنه رسول الله (ص): (عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ)، و(عليّ على الحقّ؛ من اتّبعه اتّبع الحقّ، ومن تركه ترك الحقّ)، و(عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ)، و(عليّ مع الحقّ والقرآن، والحقّ والقرآن مع عليّ).
ولكن هذه الأمة التائهة تركت الحق، وكلمات الحق، وعلم الحق، وأهل الحق وذهبت إلى سلطة قريش التي ما تركت باطلاً إلا أحيته ولا حقاً إلا أنكرته، أو حاولت دفنه حتى الإسلام العظيم، رغم أن القرآن الحكيم بين أيديهم يصرخ بالحق، ويصف أهل الحق، والصدق فيقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119)
ولكن مَنْ هم الصادقون لنكون معهم يا رب؟
هم الذين اخترتهم على علم على العالمين واصطفيتهم على الخلق، وطهرتهم من رجس: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 33)
هؤلاء هم الكلمات الربانية، والحجج الإلهية، الذين جعلهم الله عِدلاً لكلماته في كتابه الصامت القرآن الحكيم، فكانوا كلماته الناطقة باسم رب العالمين، فحقُّ هذه الكلمات تركنا، وحق كتاب الله هجرنا، فتاهت بنا الدنيا وصرنا كما نرى غرضاً يُرمى، بل لعبة يتلاعب بنا اليهود وأذنابهم القذرة.
وما ذلك إلا لجهلنا بعظمة الكلمات وقدسية الكلمة التي ننطقها، أو نكتبها.