الحياة بعد الايمان الدفاع عن الانسانوية العلمانية
حاتم حميد محسن
2019-01-23 06:20
يؤكد نقاد العقيدة الدينية المعاصرون والذين يُطلق عليهم "الملاحدة الجدد" بان ما يبدو من زيف في العقيدة الدينية يستلزم رفضا تاما لكل ما هو ديني. فيليب كيشر في كتابه الجديد، مع انه يؤمن بالرؤية العلمانية الكامنة وراء هذا المنظور النقدي، لكنه يسعى لتعزيز هذا الموقف تجاه اسس العقيدة الدينية باستجابة أكثر تعاطفا نحو الوظائف المختلفة التي يتم انجازها عبر الالتزام بالحياة الدينية. بعمل كهذا، هو يحاول عرض تفسير وضعي (غير معياري) للطريقة التي يمكن ان تقدّم بها الرؤية العلمانية مصادر حقيقية للمعنى والهدفية في الحياة.
وبالرغم من كثرة الكتب التي تجادل ضد الدين، الاّ ان القليل منها يطرح خيارا ايجابيا يحدد الكيفية التي يمكن ان يعيش بها الانسان بدون الحاجة الى العقيدة الدينية. هذا الكتاب يكون قد ملأ هذه الفجوة. الكاتب ينظر باهتمام الى الكيفية التي تستجيب بها العلمانية الى المخاوف والتحديات التي يواجهها الناس بما في ذلك قضية الاخلاق. هو يقارن حياة الناس العلمانية بحياة منْ يتبنّون العقائد الدينية. واذا كانت العقيدة الدينية هامة في الماضي فان الكاتب يستنتج بان التطور بعيدا عن الدين هو الآن ضروري. هو يرى هناك بدائل للحياة الدينية، حيث ان الاحساس بالهوية والجماعية اصبح يترسخ بنطاق واسع من المعطيات الثقافية التي ينتجها الشعراء وصناع الافلام والموسيقيون والفنانون والعلماء وغيرهم بدلا من الدين. الكاتب يؤكد ان قوة العلمانية الانسانوية(1) تشجع على إشباع الحياة الانسانية المبنية على حقائق اخلاقية.
هنا نكون نحن مع اول محاولة فكرية دقيقة لفهم عدد من القضايا الحيوية للموقف العلماني الانسانوي والذي عادة جرى تجاهله من قبل اولئك النقاد للحياة الدينية.
الفصل الاول من الكتاب يرسم الطبيعة الدقيقة للشك العلماني المتعلق بالدين. هذا الشك يبرز من الاختبارات الميدانية والتاريخية والسوسيولوجية المستمرة والمفصلة لمصادر الايمان بـ"المتجاوز"، كشيء وراء عالم الانسان المادي الذي نعيش فيه. هذه الدراسات تكشف بان العمليات التي قادت للتنوع بالعقائد الدينية حول المتجاوز من غير المحتمل ان تعطي دعما قويا للعقائد الحقيقية. كيشر يذهب للادّعاء بانها غير موثوق بها لدرجة ان جميع العقائد الدينية المتصارعة والمتفرعة هي زائفة (ص19). واذا كان هذا يعطي ارضية قوية لرفض العقائد الدينية فان الكاتب بـ "إلحاديته الناعمة" يترك الباب مفتوحا لإحتمال المتجاوز.. مستقبل العمل العلمي ربما يكشف عن بعض مظاهر الواقع بشكل مختلف كثيرا عن رؤانا الحالية التي نحتاجها لمراجعة مفاهيمنا. بالطبع، هذه الخاصية للواقع ستكون عرضة للتحقيق العلمي وهي لن تنل الفهم الكافي والواضح من جانب العقيدة الدينية. لكن احتمال وجود شيء ما منسجم مع دور المتجاوز لا يمكن استبعاده كليا. وما هو اكثر اهمية ان الالحادية الناعمة تترك بعض أشكال الالتزام الديني سليمة دون نقد: مثل تلك "الاديان المنقحة" التي ترفض المزاعم الثيولوجية، لكنها تجد قيمة في الممارسات والطقوس الدينية وهي تعترف بالدين كتعبير عن اشياء ذات قيمة عميقة.
وكما سنرى، ان فحص هذه الرؤية الدينية يمكّن من نشوء حوار مثمر مع المنظور العلماني، وحيث التركيز يتجه نحو السؤال عن القيمة والاهمية الموجودة في حياة الانسان، والتحدي الذي يمثله هذا للمدافعين عن الرؤية العلمانية الانسانوية.
قبل القبول بهذا التحدي، ينظر الفصل الثاني بالعلاقات الشائكة بين الدين والاخلاق. رغم ان هذا الارتباط كان شديدا لدى افلاطون، لكن العديد من الناس لازالوا يؤمنون بانه من خلال الالتزام بالدين سنعثر على تصور موضوعي حقيقي للأخلاق. طبقا لكيشر، هذه الرؤية لازالت مستمرة بسبب عدم وجود شخص يمكنه توفير بديل طبيعي يوفر بما يكفي العدالة لهذه الحاجة.
اذا كان يتوجب لرؤية الكاتب العلمانية مواجهة هذا التحدي فإنها يجب ان تنجح في الحديث عن القيمة الموضوعية. هنا يطرح المؤلف تفسيره الطبيعي بشكل أكثر تطورا في (المشروع الاخلاقي، 2011، مطبوعات جامعة هارفرد). هذا التفسير يعتمد على فكرة دارون الاساسية: الاضطراب في عدد معين من الظواهر يمكن التغلب عليه لو نتبنى اتجاها تاريخيا ونتساءل كيف نشأت وتطورت تاريخيا هذه المجموعة من الظواهر.
السجل التاريخي للحياة الاجتماعية للإنسان القديم يوضح عدم الاستقرار الناجم عن قدرتنا المحدودة لنكون متجاوبين مع حاجات الاخرين. هذا حسب المؤلف يقود لإرشاد اخلاقي اضافي على شكل اقتراحات معيارية لمعالجة هذه المواقف الشائكة من الصراعات الاجتماعية. التطور اعطانا الحاجة لنعيش سوية لكن مع استجابة محدودة لحاجات الآخرين. الاخلاق تطورت كطريقة لمعالجة هذه النواقص وبدأت كنوع من التكنلوجيا الاجتماعية. تمديد رؤية دارون الجينولوجية الى دراسة السلوك الاخلاقي الانساني يشجع على اجراء تغيير اساسي بالطريقة التي نفكر بها حول التقدم والموضوعية الاخلاقية. وبدلا من تحديد حقائق اخلاقية جديدة، يُنظر الى التقدم الاخلاقي كمشروع جماعة يسعى لتصحيح وتنقيح الشفرات الاخلاقية الموجودة. الناس يوصفون عادة كخالقين للقيمة، عندما يستجيبون للمواقف الشائكة التي يواجهونها والتي هي نتيجة الصراع المستمر بين الحاجات الاجتماعية وقدرتنا المحدودة للاستجابة للآخرين.
الفصل الثالث يتناول مستقبل الدين المنقح والتهديد الذي يمثله لعلمانية المؤلف الانسانوية. هنا هو يعرض وصفا أكثر دقة للوظيفة الجوهرية للالتزام الديني التي لا تستلزم قبول ادّعاءات عقيدية حول المتجاوز. بدلا من ذلك، انها تنظر لهذه العقائد باعتبارها تعطي نموذجا اخلاقيا للسلوك الانساني، حيث انها تُظهر قيما اخلاقية معينة كمُثل انسانية بمقتضى استقلاليتها عن الفعالية الانسانية. اختبار مثل هذا الموقف يكمن في مقدرته على توضيح كيفية تقوية هدف الانسان من خلال الايمان بالمتجاوز. الكاتب يجد صيغا متواضعة لهذا الموقف يسهل الدفاع عنها. هنا الايمان يعزز الحساسية الاخلاقية من خلال الاعتراف بان حياتنا الاخلاقية متصلة بشيء ما اكبر من انفسنا يمكّن من تبنّي التزام أعمق ويحقق الآمال بغايات المستقبل. هذا الايمان حين يقترح خيارات اخلاقية تغير حياتنا من خلال الوعي المتزايد بحاجات الاخرين، فهو بهذا يساعد في توضيح اهمية الوظائف الاجتماعية التي يقدمها الالتزام الديني.
الفصلان الأخيران يستجيبان للتحديات المتبقية التي يعرضها هذا التوضيح للالتزام الديني. ذلك يتضمن الرؤية بان الممارسات الدينية توفر الخيار الوحيد لإضفاء الاهمية بحياة الانسان المحدودة وادّعاءات المستقبل بان الدين يوفر ملاذا عاطفيا لشيء ما أعلى يمكّننا من حيازة ثراء وحماية اضافيين ضد الجانب المظلم من الطبيعة الانسانية.
الكاتب يعترف بالأهمية الكبرى لهذه الخصائص لحياة الانسان لكنه يكافح لوضعها ضمن انسانيته العلمانية. هو يلاحظ ان الحياة الهادفة تنتج عن خطة مختارة طوعا وحيث يكون هناك معنى واضح للأهداف التي يُعتبر الكفاح لأجلها هاما، وحيث يكون هناك نجاح في انجاز تلك الاهداف. هو يضيف قيدا آخرا مهما وهو ان الاهمية المختارة طوعا وانفراديا التي نضفيها على حياتنا تعتمد على مقدرتنا للتماس مع حياة الاخرين. حياتنا تكتسب المعنى من خلال محاولاتنا الناجحة لحل المشكلة الاخلاقية المتعلقة بمقدرتنا المحدودة بالاعتراف بحاجات الآخرين. الكاتب يوافق بان الحياة الهادفة تتطلب ارتباطا بشيء اكبر ولكن يؤكد على ان هذا يمكن العثور عليه بالطرق المعقدة للتفاعلات الانسانية الممتدة وراء انفسنا. عبر التفكير بالطريقة التي تولّد بها الخصائص الاساسية للوجود الانساني مشاكل اخلاقية وحاجاتنا الممتثلة لمشروع اخلاقي عام، نحن نضيف ثراءا واهمية للحياة الانسانية. بينما لا توجد هناك مشكلة فكرية للعلماني في التعامل مع هدفية الحياة، تبقى هناك عدة مشاكل عملية تتعلق بالظروف السوسيواقتصادية التي تقيّد حاليا الكثير من حياة الناس.
اخيرا، يعالج الكاتب الادّعاء بان رؤيته شديدة التفاؤل في تجاهل الجانب المظلم من طبيعة الانسان الذي يمكن تطويعه فقط عبر الانضباط الموجود في الالتزام الديني. استجابة لذلك، هو يختبر تفسيرين اثنين حول شقاء الحياة الانسانية مجادلا بان من خلالهما نستطيع التعلم كثيرا حول ما هو حقا ثمين ونفكر باهتمام كبير فيما يتعلق بتلك الظروف المطلوبة لبلوغ مثل هذه القيم. كتاب كيشر يحاول ان يضع بعناية ارضية وسطى ضمن النقاشات الاخيرة المتعلقة بأسس العقيدة الدينية. بينما يشارك شكوك الملحدين حول المتجاوز، هو يريد مقاومة اي رفض سريع لكل اشكال الالتزام الديني. في رؤيته تبقى هناك وظائف اجتماعية وسايكولوجية حيوية تتم عبر الالتزام بالحياة الدينية والذي يعطي اهمية لحياة العديد من الناس لكنه لا يتطلب التزاما آخرا للارثودكسية الدينية المرفوضة من جانب النقاد العلمانيين.
هو يريد ان يبين ان الانسانوية العلمانية لديها المصادر لإنجاز نفس هذه الانواع من الوظائف، حيث الاعتراف بمشروعنا الاخلاقي المشترك يعطي معنى ثريا لكفاحنا الانساني. الانسانيون العلمانيون والمصلحون المؤمنون الدينيون يجب، حسب اقتراحه، ان يعترف كل منهما بالآخر كتحالف. رفضهم المشترك للمزاعم الدينية يمكّنهم من إتخاذ موقف موحد ضد اولئك الذين يساوون الحياة الدينية بالايمان بالمذاهب المقدسة.
الكاتب يقترب من الاعتراف ان محاولته لتعزيز رؤية علمانية ايجابية عن هدفية الوجود الانساني، تتحمل مخاطرة الظهور كمستبدل للحياة الدينية. هذا ربما يجعل من الصعب للأفراد ذوي الذهن الديني ان يروا انفسهم كتحالف. جون ديوي له اتجاه مشابه يحاول نوعا ما اتباع ستراتيجية مختلفة. ديوي يوسع نطاق ما يُعتبر دينيا بالجدال ان اي موقف يعطي اهمية مستمرة وعميقة للحياة يُنظر اليه كدين. عبر تحرير المواقف الدينية من صيغها العقائدية، يضع ديوي "ايماننا المشترك" في حياة الجماعة كشعور يعبّر بوضوح عن الطقوس والمواقف الدينية.الكاتب يشترك بالكثير من هذه الرؤية لكن دفاعه العلماني عن هدف ومعنى الحياة الانسانية، الحياة بعد الايمان كما يشير اليها عنوان كتابه، يجعله وبلا قصد يبدو كما لو انه يستبدل المواقف الدينية بهذه الخيارات العلمانية.