التمرير الأيديولوجي والوعي المعلَّب

حسين علي حسين

2018-09-25 04:00

يُفهَم مما أورده مؤلف كتاب "المتلاعبون بالعقول" بأن هناك أساطير أعدتها الجهات الخفية و"المكشوفة" في ذات الوقت، والتي تقف بكل ثقلها وراء منهجية التضليل الإعلامي، ومن خلال هذه الأساطير ذات الطابع الأيديولوجي تسعى تلك الجهات الطامعة والمتشبثة بـ (السلطة) أن تمرر أهدافها وتفرضها على الوسط الاجتماعي فرضا غير مباشر، ومن ثم تجتهد كي تصنع النظام الاقتصادي الذي يكفل حماية مصالحها ويعزز حضورها بقوة ويحميها من أي خطر جماهيري أو سواه.

من هذه الأساطير، أسطورة الفردية والاختيار الشخصي، إذ يتمثل أعظم انتصار أحرزه التضليل الإعلامي، وهو ما يتجلى في أوضح صوره داخل الولايات المتحدة، في الاستفادة من الظروف التاريخية الخاصة للتطور الغربي من أجل تكريس تعريف محدد للحرية تمت صياغته في عبارات تتسم بالنوعية الفردية. وهو ما يمكّن المفهوم من أداء وظيفة مزدوجة. فهو يحمي حيازة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج من ناحية، وهو يطرح نفسه في الوقت ذاته بوصفه حارسا لرفاهية الفرد، موحيا – إنْ لم يكن مصرّاً- بأن هذه الأخيرة لا يمكن بلوغها إلا في وجود الأولى، وفوق هذا المعنى أو التفسير المركزي يم تشييد هيكل كامل من التضليل الإعلامي. فما الذي يفسر قوة هذا المفهوم المسيطر؟

إن هناك من الشواهد ما يكفي للقول بأن حقوق الفرد المطلقة ليست سوى أسطورة، وبأنه لا يمكن الفصل بين الفرد والمجتمع. " فبدايات الحضارة" على حد قول كوماكس وبيركوفيتش –وكما لاحظ آخرون- "تمتد جذورها في التعاون والاتصال". ومع ذلك فإن أساس الحرية، كما فهم في الغرب، يتمثل في وجود اختيار شخصي جوهري. ولقد تم التشديد على الاختيار الشخصي إلى أبعد مدى بوصفه شيئا مرغوبا فيه للغاية وقابلا للتحقيق. وليس هذا الرأي بالشيء الحديث. فالتوحيد بين الاختيار الشخصي والحرية الانسانية يمكن ملاحظته منذ ظهر جنبا إلى جنب مع فردية القرن السابع عشر، بوصفهما نتاجا لاقتصاد السوق الناشئ حديثا.

وخلال مئات السنين نجحت الملكية الفردية، متحالفة مع التحسينات التكنولوجية، في زيادة معدلات الإنتاج وبالتالي أضفت قدرا كبيرا من الأهمية على الاستقلال الشخصي في العمليات الصناعية والسياسية. واكتسبت الرأي القائل، إن الحرية هي مسألة شخصية، وإن حقوق الفرد تبطل حقوق الجماعة وتوفر أساس التنظيم الاجتماعي، اكتسب المصداقية مع ظهور المكافآت المادية ووقت الفراغ. لاحظ مع ذلك أن هذه الشروط الحياتية لم يجر توزيعها بالتساوي بين كل طبقات المجتمع الغربي، وأنها لم توجد أصلا حتى الآن في بقية أنحاء العالم.

ويبدو أن نجاح تلك الطبقة الجديدة من منظمي المشروعات الرأسمالية قد أكد فاعلية وجاذبية التغيرات المؤسساتية. فالاختيار الفردي واتخاذ القرار بشكل شخصي كانا، في ذلك الوقت، نوعين من النشاط الوظيفي، بنّاءين ومفيدين فيما يتعلق بتحقيق معدلات إناج أعلى، وكفاية إنتاجية متزايدة، وأرباح مرتفعة لوحدة المشروع. وساعد البرهان الدامغ الخاص بالتطور الاقتصادي والإنتاج الإجمالي المتزايد في أوروبا الغربية، على رسوخ وازدهار الدعاوى النفعية المتعلقة بالفردية، والاختيار الشخصي، والتراكم الخاص.

وفي الولايات المتحدة المستوطنة حديثا، لم تقم عوائق تستحق الذكر أمام فرض نظام المشروع الرأسمالي الخاص والفردي، بأساطير المصاحبة حول الاختيار الشخصي والحرية الفردية، ووجد المشروع الخاص والأسطورة كلاهما مناخا منفتحا ومواتيا. وكان المحتم بالتالي أن ينمو المشروع الخاص، وأن تتعزز الأسطورة، ويتضح في الوقت الحاضر إلى أي مدى تحقق ذلك كله في القبول العفوي العام، للشركات العملاقة المتعددة الجنسيات على أنها مثال للجهد الفردي.

ففرانك ستانتون، على سبيل المثال –وكان يشغل حتى وقت قريب منصب نائب رئيسي ((CBS أهم مجموعة شركات الإرسال الإذاعي والتلفزيوني في أمريكا- يعترض على حق الأمم المتحدة في تولي عملية إنشاء نظام عالمي للاتصالات عن طريق الأقمار الصناعية، بالرغم من أن نظام الأقمار الصناعية سيوفر إمكان بث البرامج مباشرة إلى أي بيت في أي مكان في العالم. ويزعم ستانتون " أن حق الأمريكيين في التحدث إلى من يشاؤون في أي وقت يشاؤون، سيتم إهداره" (من خلال هذا النظام للاتصالات). والواقع أن ما يهم ستانتون هو حقوق شبكة "سي.بي. إس" فيما يتعلق بالاتصال بمن تشاء. أما المواطن الأمريكي العادي فلا يملك الوسيلة، ولا التسهيلات المطلوبة للاتصال عالميا على أي نحو ملموس.

إنت الطابع الخصوصي في كل مجالات الحياة هو الأمر العادي والطبيعي في أمريكا. ويعكس أسلوب الحياة الأمريكية، بدءا من أدق تفاصيلها حتى أعمق معتقداتها وممارستها الشعورية، يعكس – تحديدا- نظرة إلى العالم مكتفية بذاتها، وتمثل بدورها انعكاسا دقيقا لبنية الاقتصاد ذاته. فالحلم الأمريكي يقوم على وسيلة الانتقال الخاصة، والمنزل المستقل للأسرة، والعمل في مشروع لا يملكه الغير. كذلك تمثل بقية العادات الأخرى، بوصفها نظاما تنافسيا صحيا، سمات مميزة واضحة، إن لم تكن طبيعية، للاقتصاد القائم على الملكية الخاصة.

في مثل هذا الجو يصبح متوقعا أن تتحقق أي تغييرات، أيا كانت طبيعتها، من خلال وسائل تنظيمية ذات طابع فردي ومملوكة ملكية خاصة. ففي مواجهة تفسخ الحياة المدنية يبقى استغلال الأرض حقا فرديا. ومع تطور الاتصالات الفضائية، في الستينيات، وتوافر إمكان الاستخدام الآلي في التخاطب الاجتماعي الدولي، عهد إلى "كومات" وهي مؤسسة خاصة، لها ثلاثة مديرين معينين من قبل الحكومة لزوم جذب الأنظار، بهذه المسؤولية العالمية. ورغم أن بعض المناطق في جنوب كاليفورنيا تتعذر فيها الرؤية عليا، وعلى رغم أن سحب الدخان جاثمة دائما فوق معظم المدن الأمريكية، فإن اقتصاد البلاد يظل مرتبطا بخطوط الإنتاج في ديترويت، وبتلك الصورة البهيجة للأسرة ذات السيارات الثلاث.

وعلى رغم أن الحرية الفردية والاختيار الشخصي هما أقوى حصون "نظام الملكية الخاصة والإنتاج الخاص" الأسطورية، فإن هذا النظام يطلب ويبتدع المزيد من التفسيرات جنبا إلى جنب مع الوسائل التقنية اللازمة لنقلها. وتؤدي هذه الأفكار إما إلى إضفاء طابع عقلاني على وجود هذا النظام، وإلى تبشير بمستقبل عظيم، وإما إلى تحويل الأنظار عن نقاط ضعفه المتفاقمة، وحجب احتمالات أي انطلاقة جديدة نحو التطور الإنساني. والواقع أن هذه التفسيرات والوسائل التقنية، ليس مقصورا على النظام الصناعي ذي النزعة الفردية، بل تقبل التطبيق في أي نظام اجتماعي يصرّ على الحفاظ على أهميته. على أن هناك أساطير أخرى، والوسائل اللازمة لترويجها، ترتبط ارتباطا وثيقا بالسمات النوعية المتميزة النظام الاجتماعي.

الأسطورة الثانية هي " أسطورة الحياد":

لكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكبر، لابد من إخفاء شواهد وجوده. أي أن التضليل يكون ناجحا عندما يشعر المضلَّلون بأن الشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية. بإيجاز شديد نقول: إن التضليل الإعلامي يقتضي واقعا زائفا هو الإنكار المستمر لوجوده أصلا.

وعلى ذلك فلا بد من أن يؤمن الشعب الذي يجري تضليله بحياد مؤسساته الاجتماعية والرئيسة. لابد أن يؤمن الشعب بأن الحكومة والإعلام والتعليم بعيدة جميعا عن معترك المصالح الاجتماعية المتصارعة. وتبقى الحكومة، والحكومة القومية بوجه خاص، بوصفها ركيزة أسطورة الحياد. فهذه الأسطورة تفترض مسبقا الاقتناع الكامل باستقامة وعدم تحزّب الحكومة بوجه عام، وعناصرها المكونة: الكونجرس، والنظام القضائي، والرئاسة. ويُنظر إلى واقع الفساد والغش والاحتيال –عند حدوثها من وقت لآخر- على أنها نتيجة مترتبة على الضعف الإنساني. أما المؤسسات نفسها فهي بعيدة تماما عن المؤاخذة. ويتم التأكيد على سلامة وصحة النظام في مجمله من خلال الآليات المصممة جيدا، والتي تشمل الأوضاع في مجملها.

فالرئاسة، على سبيل المثال، بعيدة تماما عن مجال المصالح الخاصة طبقا لهذه الأسطورة. وبالتالي فإن أول وأقصى استخدام مضلل للرئاسة هو الزعيم القائل ببعدها عن الحزبية، وإظهارها بمظهر ينأى بها تماما عن الصراع المحتدم. ففي انتخابات 1972 مورست الحملة الانتخابية للمرشح الجمهوري تحت رعاية، وفي ظل شعارات "لجنة إعادة انتخاب الرئيسي"، وليس المخلوق البشري ريتشارد.م.نيكسون.

فالمسؤول التنفيذي الأول لا يمثل، على رغم كونه أهم مسؤول، سوى جهة إدارية واحدة من إدارات حكومية عديدة، تسعى جميعها إلى الظهور بمظهر الأداة الوظيفية المحايدة، التي لا تبتغي سوى المصلحة العامة، والتي تخدم الجميع بلا تحيز ولا محسوبية. ولقد شاركت وسائل الإعلام على اختلافها، لمدة نصف قرن، في الترويج لأسطورة المباحث الفيدرالية (FBI) بوصفها وكالة لا سياسية عالية الكفاءة لتنفيذ القانون. إلا أن جهاز المباحث استخدم في الواقع، طوال الوقت، في إرهاب وتطويق أي سخط اجتماعي.

كذلك يفترض أن أجهزة الإعلام تتسم بالحياد. صحيح أن الصحافة تعترف بأن العديد من التحقيقات الصحفية لا يتوخى الإنصاف والموضوعية، إلا أنها تؤكد لنا على أنها نتيجة للخطأ الإنساني لا يمكن أن تفسر على أنها عيوب جوهرية في نظم نشر المعلومات السليمة بصفة أساسية. أما حقيقة أن وسائل الإعلام (الصحافة، والدوريات، والإذاعة والتلفزيون) هي جميعا وبلا استثناء مشروعات تجارية، تتلقى دخولها من الاستغلال التجاري لمساحتها الزمنية، أو المكانية لمصلحة الإعلانات، فمن الواضح أنها لا تثير أي مشكلة بالنسبة إلى هؤلاء الذين يدافعون عن موضوعية ونزاهة الهيئات العامة في حقل الإعلام. وفي فترة رئاسة نيكسون تزايدت حدة الانتقادات الموجهة لوسائل الإعلام، لكن بسبب أن ميولها لم تكن يمينية بالقدر الكافي.

أما العلم الذي اندمج أكثر من أي نشاط ذهني آخر في اقتصاد المؤسسات العملاقة متعددة الجنسيات، فيواصل هو الآخر الإصرار على حياده القائم على استقلاله القيمي. ويعزز العلم، الذي يأبى أن يأخذ بعين الاعتبار المعاني التي تتضمنها طبيعة المصادر الممولة لنشاطه، واتجاهات أبحاثه وتطبيقات نظرياته والطابع المميز للنماذج التي يخلقها، يعزز الفكرة القائلة بانعزاله عن القوى الاجتماعية المؤثرة في كل الأنشطة الأخرى الجارية في البلاد.

كذلك يزعم المضلّلون أن نظام التعليم، بدءا من مرحلته الابتدائية حتى مستوى الجامعة، يخلو تماما من أي غرض أيديولوجي مقصود. ومع ذلك فلابد من أن يعكس الناتج النهائي للعملية التعليمية المختلفة يظلون –على رغم كل تلك الضجة المثارة حول الثقافة المضادة- على إيمانهم وتقيدهم بالأخلاقيات التنافسية للمشروع الفردي.

وحيثما نظر المرء في الحقل الاجتماعي، فسيجد أن الحياد والموضوعية، يتم اللجوء إليهما لوصف الأداء الوظيفي للأنشطة المحملة بقيم وأغراض محددة، والتي تقدم الدعم للنظام المؤسساتي السائد، ومن العناصر التي لا غنى عنها للحفاظ اليومي على نظام السيطرة، تلك الأسطورة التي تحظى برعاية فائقة والتي تقول بأنه لا سيطرة لأي مجموعات أو آراء خاصة على عمليات صنع القرارات المهمة في البلاد. ولقد ظل علم الاقتصاد التقليدي يردد لفترة طويلة الزعم القائل، بأن كل العملاء يدخلون السوق متساوين تقريبا بوصفهم مشترين وبائعين، عمالا وأصحاب عمل، وأنهم يأخذون فرصهم في مجال تنافس غير مقيد يقوم على الحرية الكاملة في الاختيار. ويمثل التضليل (أو التلاعب) بالنسبة لاقتصاديات السوق نوعا من الانحراف يمقته الانسان، ويبذل أقصى جهده للتخلص منه عاد من خلال عدم الإقرار به. وفي سوق الأفكار، يصرّ المضللّون، على النحو نفسه، على إنكار وجود أي أيديولوجية تعمل بوصفها آلية سيطرة. فهناك فقط، على حد زعمهم، سلسلة من المعارف القائمة على حقائق أو معلومات، ينتقي منها العالم المحايد، والمدرس، والموظف الحكومي، والفرد العادي أيضا، ذلك القسط من المعلومات الذي يتلاءم أكثر مع نموذج أو نمط الحقة التي يحاول أو تحاول تطوينه. ولقد نشر "دانيل بيل"، في بداية أحد أكثر عقود الصراع الاجتماعي (والسيطرة القائمة على التضليل الإعلامي) إثارة في تاريخ الولايات المتحدة، كتابا يعلن "نهاية الأيديولوجية".

*موضوع ملخص من مقتبس كتاب المتلاعبون بالعقول، تأليف هربرت شيلر، ترجمة عبد السلام رضوان.

ذات صلة

مصائر الظالمينترامب يصدم العالم.. صنعنا التاريخفوز ترامب.. فرح إسرائيلي وحذر إيراني وآمال فلسطينيةالنظامُ التربوي وإشكاليَّةُ الإصلاح والتجديدالتأثير البريطاني على شخصية الفرد العراقي