لماذا رُفِضَتْ الحضارة الغربية؟
حسين علي حسين
2018-09-12 04:00
هناك نسبة من التعادل بين من يرفض الحضارة الغربية والتمسك بأذيالها، وبين من يشجع على الاندماج بها والذوبان فيها بانسلاخ تام من الخصوصية الإسلامية، وكل فريق له حججه ومبرراته في تمسكه بالأصالة، أو بالانتماء الكلي للغرب مع إمحاء تام للهوية الذاتية!، محمد الميلي يعود بنا إلى فكرة مهمة حيث يقول: " قديما قيل من المأمنة يؤتى الحذر" وها هو إنسان العالم يؤتى فعلا من الجانب الثقافي باسم الموضوعية الفكرية والعقلانية وحياد العلم... فإذا كان الغرب قد سلّم بحقيقة استقلال بلدان العالم الثالث فلأنه وجد أن استمرار النمط القديم للسيطرة الاستعمارية أمر مكلف، وأن قائمة الخسارة فيه أصبحت تربو على قائمة الربح ومن هنا تكيّف مع الواقع الجديد، فسلّم به لكنه لم يستسلم له، وراح يحيك أسلحة من نوع جديد... فهذا الغرب من خلال الهجمة الثقافية الطابع يريد أن يحقق أهدافا عديدة يسند بعضها البعض:
• يريد لنظامه أن يستمر.
• يريد لهيمنته أن تتواصل.
• يريد زعزعة الأسس الفكرية والثقافية للعالم، أي خلخلة تضامنه وإضعاف قواه.
في نفس الوقت الذي يريد فيه تحقيق الانسجام بين جميع قواه، ومحاولة استعادة شبابه من خلال تلك الكتابات التي تسعى إلى تحقيق وحدة الغرب تحت مظلة أيديولوجية يمينية الأسس، ثقافية الشكل.
وهنا نجد جلال آل أحمد يقول: " والآن ها نحن والتشبه بالأجانب، وبتقاليد غريبة عنا، وبثقافة ليست لها أية جذور في أرضنا، ولا أية ثمار أو فائدة لنا، إنه تشبّه يلاحقنا في حياتنا اليومية، في مواقفنا السياسية والثقافية، ولهذا تبقى كل أمورنا بتراء ناقصة.
أما رفيق حبيب فكان أكثر علمية وموضوعية في رفضه للحضارة الغربية حيث يقول : " إن الدعوة لإعادة إنتاج النظم الغربية ونمط الحياة الغربي، دعوة للتنازل عن القيم الحاكمة للحضارة العربية الإسلامية، فالنظم الغربية سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية تنبع من القيم الحاكمة للحضارة الغربية، وتحققها في الواقع العملي، كذلك فإن السلوك الإنساني الغربي ونمط الحياة الغربية هو تعبير عن القيم الحاكمة في الحضارة الغربية، فكل حضارة لها قيم حاكمة أو قيم عليا أساسية، تترجم في نظام حياتها العام بمختلف جوانبه، ولا يمكن أن نقلد هذا النظام العام، إلا من خلال تبني هذه القيم التي يعبّر عنها الناس في كل حضارة يلتزمون بالنظام العام، وبالتالي يتحقق هذا النظام على أرض الواقع لأنهم يؤمنون بالقيم التي يعبر عنها، فالقيم الحاكمة في الحضارة هي الأساس الذي يميزها ويحدد خصوصيتها، وهي كذلك الأساس الذي تقوم عليه ويحقق تماسكها وترابطها، ويها يتحقق الإجماع الإنساني لشعب هذه الحضارة.
وكان ماركيوز قد تحدث عن تنميط الحضارة الغربية والإنسان ذو البعد الواحد، حيث بيّن أن ثمة خللا بنيويا في صميم الحضارة الغربية يتجاوز التقسيم التقليدي المتبع الذي يقسمها إلى حضارتين: واحدة اشتراكية، وأخرى رأسمالية، فضلا عن سهام النقد الجذري التي وجهت إلى الحضارة الغربية بفعل حجم جرائمها ضد شعوب ىسيا وأفريقيا وحجم النهب الاستعماري.
ولأن العالم يزداد تشرذما كما يقول المفكر الفرنسي دوبريه، حيث أن النزاعات القومية تتفاقم... فهي كما يقول أشبه بتمويه الطابع المحلي بطابع شمولي جامح، وتغليف ثقافة معينة هي ثقافة الأشد يسرا بطابع الحضارة الكونية (الغربية)... بغض النظر عن تأثيراتها على تهميش البنى التقليدية وتغريب الإنسان فيها، كان لابد من تحديد الأسس التي تقوم عليها الحضارة الغربية، فمثلا حسب النورسي، فالمدينة الغربية الحالية سلبية تقوم على خمسة أسس تدور عليها رحاها:
• نقطة استنادها: القوة بدل الحق، وشأن القوة الاعتداء والتجاوز والتعرض، ومن هنا تنشأ الخيانة.
• هدفها وقصدها: منفعة خسيسة بدل الفضيلة، وشأن المنفعة التزاحم والتخاصم، ومن هنا تنشأ الجناية.
• دستورها في الحياة: الجدال والخصام بدل التعاون، وشأن الخصام التنازع والتدافع ومن هنا تنشأ السفالة.
• رابطتها الأساس بين الناس: العنصرية التي تنمو على حساب غيرها، وتتقوى بابتلاع الآخرين، وشأن القومية السلبية والعنصرية التصادم المريع ومن هنا ينشأ الدمار والهلاك.
• خدمتها الجذابة: تشجيع الأهواء والنوازع، تذليل العقبات أمامها، إتباع الشهوات والرغبات، وشأن الأهواء والنوازع دائما مسخ الإنسان وتغيير سيرته، فتتغير بدورها الإنسانية وتمسخ مسخا معنويا.
ويضيف أن معظم هؤلاء الغربيين لو قلبت باطنهم على ظاهرهم لرأيت في صورتهم سيرة القرد، الثعلب، السعبان، الدب والخنزير... ولئن آثارهم لتدل عليهم.
وكان الفيلسوف الانكليزي "هوبز" قد صوّر مادية الحضارة الغربية عندما وصف المجتمع القائم على محورية المادة والسوق بـ " الغابة المنافسة" حيث يكون "الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان"، وحيث تتحول العلاقات الاجتماعية إلى قيم مالية...، وبحكم هذه المحورية المادية وعناصر السوق التنافسية، يصبح الناس حيوانات ذات غرائز أساسية أو آلات حاسبة عاقلة.
ولعل هناك من الباحثين من يلخص هذه السلبيات في النقاط التالية:
• الثقافة الغربية مفلسة في مجال الأخلاق والقيم.
• تؤسس للعلمانية، بمعنى أنها بعيدة عن ربط العلم والثقافة بقضية الإيمان.
• تجنح للعنف ولا تدعو للحوار والتعايش.
• فردية النظرة.
• مادية النزعة.
وهنا ينطبق عليها قول طه عبد الرحمان حيث وصفها بأنها: " حضارة ناقصة عقلا، ظالمة قولا، متأزمة معرفة، ومتسلطة تقنية"، على اعتبار أنها كما يقول آلان تورين:
" متخمة بالوسائل والأدوات، ومعوّقة من المقاصد والغايات.
وهكذا فإن خلاصة أفكار هذا التيار: عدم فتح المجال للرأي الآخر المناقض لثوابتنا ومحكماتنا التي لا تقبل الجدل أو التنازل، ودليل ذلك أن الرسول (ص) لما وجد ورقة بها سطور من توراة اليهود بين أحد أصحابه، غضب غضبا شديدا وأمرهُ بإتلافها.
بل لما جاء وفد نصارى نجران وكلّم الرسول (ص) اثنين من أحبارهما – هما العاقب والسيد- وقال لأحدهما: أسلما، قالا: قد أسلمنا، قال: إنكما لم تسلما، فأسلما، قالا: بلى، قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام إدعاؤكما لله ولدا وعبادتكما للصليب وأكلكما للخنزير:، وهنا لم يتنازل (ص) شيء من المحكمات من أجل حقوق الآخر لأن فيها فسادا للمسلمين وتلبيسا على الكافرين.
وفي الأخير يمكن تقسيم أصحاب هذا الموقف إلى ثلاث مجموعات وهي:
الإسلاميون: ويعطون مفهوم الهيمنة الغربية معنى التبشير ومصارعة الإسلام، ومحاولة القضاء عليه والتوسع على حسابه، فالتغريب – من هذا المنظور- هو " قوى صهيونية واستعمارية، تحاول أن تلقي إلى العالم الإسلامي فكرا زائفا وشبهات مظلمة تستهدف إفساد حضارته ومفاهيمه في مجال التربية، النفس والعقائد".
الماركسيون: ويعطون هذا المفهوم بعدا اقتصاديا فحسبهم الاستعمار هو أعلى درجات الرأسمالية ومن ثم فإن: " من يملك الثقافة وينتجها يتحكم في الشعوب المستهلكة لها".
القوميون: ويُفهم التغريب من منظورهم على أنه استنزاف قومي حضاري لهذه الأمة " فالغزو ليس حياديا ولا عفويا" ، إن الهدف الأساس لهذا التغريب هو إدخال المنطقة العربية ضمن التبعية الكاملة سواء للإمبريالية أو الاشتراكية الدولية.
الموقف الثالث: حسب رواد هذا التيار فالواقعية تفرض ضرورة التفكير في الشرط التاريخي لتفوّق الغرب، من دون أن يعني ذلك التسليم بكل ما تقوله الحضارة الغربية أو تتجه أو تطالب الآخرين تبنيه، ومن دون إهمال الانتقادات العقلانية والصحيحة التي يمكن توجيهها للحضارة الغربية، فلا يستقيم التفكير والحوار الثقافي مع الغرب إذا ما اقتصرت النظرة إليه من خلال مثالبه وعيوبه فقط، فالغرب أيضا – حسب رواد هذا التيار- هو صاحب الإصلاح الديني منذ ثورة مارتن لوثر كينغ، وهو مجدد المؤسسة الدولتية، وصاحب أكبر ثورة سياسية في التاريخ الحديث مع الثورة الفرنسية، وهو الذي نقل البشرية إلى عصر الإنتاج الصناعي ثم مجتمع المعلومات الراهن، وفي المجال الاجتماعي للغرب إصلاحات مُرضية خصوصا في مجالات حقوق الإنسان والحرية النسبية.
ويضيف محمد يوسف أن الغرب لم يتقدم بسبب أن شعوبه كانت تمشي تأكل في الشارع، أو لأن أولادها كانوا يأخذون بأيدي البنات، ويهيمون على وجوههم في النوادي والملاهي أو لأنهم كانوا يقحمون كلمات غريبة عنهم في أحاديثهم، وإنما كان التقدم في الغرب لأسباب انتهجوها: تشجيع البحث العلمي، التزام الأمانة والجدية في المعاملات، إعطاء كل ذي حق حقه، تشجيع الموهوبين وإفساح المجال لهم، التخلي عن النفاق وتشجيع الشباب ... إلى غير ذلك من القيم التي شجعوها وعملوا بها.
لهذا يرى محمد حوات أن الانفتاح على الثقافة الغربية في جوانبها النافعة فرض واجب على كل عربي ومسلم لأن في اقتنائها واستلهامها وتطويرها حماية للعروبة والإسلام، فالمستعمر يركز على نشر الثقافة الترفيهية والسلعية وجوانب الإبهار في نمط الحياة الغربية السلوكية التي تتنافس مع معايير الدين والقيم والأعراف والعادات التي هي من سمات هذه المجتمعات ومرتكزات أساسية لهويتها، أما ما يملكه المستعمر في ثقافته من مقومات القوة والإبداع جانبها المادي كالعلم والتكنولوجيا والصناعة والمعنوي كالديمقراطية والحوار وحقوق الإنسان، فالثقافة العربية والإسلامية ما كان لها أن تصل إلى أوج ازدهارها لو لم تأخذ وتقتبس عن الثقافات الفارسية والإغريقية والهندية وغيرها.