كتاب نهاية السلطة
عرض وتحليل
حاتم حميد محسن
2018-05-13 07:54
الكاتب موسى نعيم(1) كتب مؤخرا اطروحة هامة لتوثيق وتوضيح النزعة الحالية نحو اللامركزية decentralization.كتابه الجديد بعنوان: نهاية القوة: من غرف مجالس الادارة الى ساحات المعركة، والى الكنائس والدول، لماذا لم يعد تولّي المسؤولية مثلما كان في السابق؟ (2). نظريته هي ان المرء يمكنه رؤية تآكل السلطة في كل مكان: في الاعمال وفي السياسة والجيش والدين وحتى في العاب الشطرنج التي يستخدمها لتوضيح نقاشه.
في هذا المقال سننظر في اطروحة الكاتب من منظور تحرري. هل ان تآكل السلطة هو حقيقي وواسع الانتشار مثلما يدّعي الكاتب؟ واذا كان كذلك فهل ان هذا الانحسار بالقوة يجيز انتصار النظام الهايكي (نسبة الى فردريك هايك) غير المخطط؟ وهل ان الكاتب صائب في اعتبار ذلك الانحسار شيء ايجابي؟
يستخدم الكاتب خلفية هامة ومتنوعة. هو يذكر انه حضر اجتماعات منتدى الاقتصاد العالمي السنوي في دافوس الذي يشارك فيه اكثر الناس تأثيرا في الاعمال والحكومة والسياسة والميديا والمنظمات غير الحكومية والعلوم والدين والثقافة. يقول انه كان محظوظا جدا في الحضور والتحدث مع اكثر الناس شهرة في العالم.. محادثاته في كل عام مع الزملاء المشاركين اكّدت شعوره بان الناس المؤثرين يواجهون قيودا كبيرة على سلطاتهم.
غير ان الكاتب لديه من القناعة بان شكاوي القادة ليست مؤشرا موثوق به على اتجاهات القوة. انه يبدو اكثر تعاطفا نحوهم. حاليا المنظمات السياسية والشركات الرائدة تختار قادة ذوي حماس شديد وطموح قوي واحترام للذات. وطبقا لهذا، نتوقع ان تكون تلك المنظمات راغبة دائما بمزيد من القوة.
التنظيم البيروقراطي
يرى الكاتب ان عصر التركيز الكبير للقوة الذي استمر من عام 1800 الى عام 1960 شهد ظهور الدول والشركات الكبرى. العنصر الحاسم في تحقيق الحجم التنظيمي الكبير هو تطوير النظرية البيروقراطية كما وصفها ماكس ويبر. يكتب المؤلف: وضع ويبر الخصائص الاساسية للتنظيم البيروقراطي: وظائف محددة تتضمن تفاصيل الحقوق والالتزامات والمسؤوليات ونطاق السلطة بالاضافة الى نظام للإشراف والطاعة ووحدة الاوامر. هذه المنظمات اعتمدت ايضا وبكثافة على اتصالات ووثائق مكتوبة وعلى تدريب للافراد طبقا لمتطلبات كل وظيفة وما تحتاجه من مهارات.
ان التنظيم البيروقراطي كان مرتكزا على تطبيق قواعد شاملة ودائمة لكل شخص بصرف النظر عن مكانته السوسيواقتصادية او العائلة او الدين او الارتباطات السياسية. ولذلك، لا ترتكز التجربة كما كان في الماضي على اساس الارتباطات العائلية او العلاقات الشخصية.
بيروقراطية ويبر تساعد في بناء نظام مخطط مركزيا والمحافظة عليه. انها تضمن الموثوقية والاستمرارية بعد وفاة مؤسس الشركة او قائد الدولة، بحيث يستطيع الناس الاعتماد على المنظمة والاحتفاظ بالولاء الدائم لها. يقول نعيم ان المنظمات البيروقراطية قادرة على تقليل التكاليف الداخلية للإجراءات وتسهيل التكامل العمودي مثلما يؤكد رونالد كوس.
ان السلطة هي اما تتآكل او تنتشر بسبب التقدم في التكنلوجيا ومقدرة التنظيمات الصغيرة لتكون دائما اكثر مرونة من اقرانها الكبار. زيادة التكنلوجيا قادت الى ازالة عوائق الدخول التقليدية.
تعريف السلطة
كيف يمكن تعريف السلطة؟ يذكر المؤلف:
السلطة هي المقدرة على توجيه او منع الافعال الحالية او المستقبلية للأفراد او الجماعات الاخرى، او بكلمة اخرى، القوة هي ما نمارسه تجاه الأخرين ليتصرفوا بالطريقة التي نريدها.
هذا التعريف ربما لا يكفي، فمثلا، هو لا يذكر ما اذا كان يتوجب علينا التفكير بالسلطة باعتبارها تعود للفرد او للمكتب او للمنظمة. مثلا، يكشف المؤلف عن تزايد نسبة تغيير واستبدال رؤساء الشركات التنفيذيين ويصف هذا كمؤشر على تآكل السلطة. غير ان النسبة العالية لتغيير الرؤساء لا تذكر شيء عن سلطة المنظمة التي يترأسها الرئيس.
تعريف الكاتب للسلطة ايضا لا يتضمن التمييز، وهو هام في الفكر التحرري، بين القوة القسرية والقوة اللاقسرية. والى جانب القمع (الذي يسميه عضلات) يضع الكاتب قائمة بثلاث وسائل للسلطة: القواعد الاجتماعية (code)، والحوافز(المكافئات) والاقناع (مستوى الشعور).
الثورات الثلاث
يعرض الكاتب ثلاثة اشكال من الحداثة التي قادت الى انحلال السلطة وهي ثورة الكثير The more revolution، وثورة الحركة The mobility revolution وثورة الذهن The mentality revolution. الفاعلون الرئيسيون في هذه الثورات هم التنظيمات الصغيرة المتحركة التي يسميها الكاتب micro powers. هذه الثورات عملت مجتمعة لتعجيل التآكل في السلطة. ثورة الكثير هي الالتقاء بين التقدم التكنلوجي (الانترنيت) والنمو الكبير في حجم السكان. ان زيادة أعداد الناس والزيادة في امكانية الوصول الى التكنلوجيا والرعاية الصحية غيّر الطريقة التي يتصرف بها الناس وطبيعة ردود افعالهم تجاه الحكومات والشركات الكبرى. ثورة الكثير اتسمت بالزيادة في كل شيء من أعداد الدول الى حجم السكان ومستويات المعيشة ونسبة تعلّم الابجدية وكمية السلع في الاسواق. اما ثورة الحركة تشير الى حركة الناس والبضائع والافكار والقيم وبسرعة غير مسبوقة الى كل زاوية في هذا الكوكب. ثورة الذهن تشير الى التغيرات في التصورات والتوقعات والطموحات التي يمتلكها الناس تجاه حكوماتهم او الكنائس او الشركات الكبرى. هذه الثورات الثلاث ساعدت في نشر السلطة على نطاق اوسع.
الميدان العسكري
في تحليله لتآكل السلطة في الميدان العسكري والسياسي يشير الكاتب الى العولمة والى الزيادة السريعة في الاسلحة كعوامل رئيسية فيما نراه من لعب للأدوار اليوم. التصنيع السريع للسلاح وكم هو متوفر ورخيص شكّل العامل الأهم في خفض العسكرتاريا التقليدية المؤثرة في العالم. نوعان خاصان من السلاح وهما الطائرات المسيرة و IEDs (قنابل تُصنع لدى جهات غير مرخصة وغير رسمية) يمثلان مؤشرا للتحول باعتبارهما غير شخصيان ورخيصان ويسهل استخدامهما، مما سمح لمن لا يمتلك التفوق العسكري مجاراة الدول المتقدمة عسكريا. وطبقا لدراسة قيّمة قامت بها هارفرد حول الحروب التي اندلعت بين أعوام 1800 و 1849، وجد ان الجانب الأضعف استطاع (من حيث الجند والسلاح) تحقيق اهدافه الاستراتيجية في 12% من الحالات، ولكن في الحروب التي نشبت بين عام 1950 و1998. سيطر فيها الجانب الاضعف بنسبة 55% من الفترة.
هذه الاحصاءات ربما هي غير مقنعة بالضرورة. مكاسب قائد الجيش القوي تتمثل في مقدرة القائد على منع الطرف الأضعف من بدء الحرب ضده. يصعب القول اعتمادا فقط على نتائج الحرب ما اذا كان هناك تناقص ام تزايد في مقدرة الجماعة ذات القوة العسكرية الضعيفة اثناء مواجهتها للقوة العسكرية الكبيرة.
عالم الشركات
وفي الشركات، يعرض الكاتب عدد هام من الاحصاءات تكشف ان قوة السوق للشركات الامريكية الكبرى قد تضاءلت. التكامل الافقي سمح لسلسلة التجهيز العالمية بالعمل. الشركات لم يعد بالإمكان اختصارها بالمشاريع الويبرية الكبيرة للعشرينات مثل شركة جنرول موتورز او الستيل الامريكي. بدلا من ذلك نجد المزيد من الشركات المبدعة والخلاقة مثل آبل والعديد من شركات التكنلوجيا الصغيرة هي اكثر تمثيلا للمناخ الحالي.
المجال الديني
وفي مجال المؤسسات الدينية يؤكد الكاتب بان نفس النزعات التي اثّرت على الشركات العالمية وعلى السياسة والحروب اثّرت ايضا بنفس المقدار على الكنائس، خاصة ان مقدرة الكنائس الصغيرة للظهور والنمو اصبحت مرتبطة بقدرتها على التكيف للبيئة المحيطة بها بشكل أفضل واسرع من الكنائس الكبيرة.
البعض لا يتفق مع الكاتب في محاولته ادخال الدين ضمن نموذجه الافتراضي. منظمات الاديان التقليدية يفترض لديها القوة لتقرير مجموعة المعتقدات التي يتبعها الناس. ولكن المرء لا يجد دائما الاديان منظمة وفق خطوط ويبرية. ايضا نعتقد انه في الولايات المتحدة الحالية الكثير من السلطات تأتي من هوليود ومن الاكاديمية، ولا نجد في اي من هذه الحالات ممارسة للسلطة من جانب بيروقراطية مركزية.
ومن جهة اخرى، نعتقد ان الكاتب كان صائبا في تصوره عن النزعات في الحوكمة السياسية وفي الاعمال. في الحوكمة، كانت الاوتوقراطية تضمحل وكانت هناك نزعة للحكومات المركزية لإرخاء قبضتها على المناطق والمدن. يبدو ان النزعة في الدول الصغيرة وفي الاسواق الصاعدة هي نحو التحرر الاقتصادي.
في الولايات المتحدة، يرى الكاتب ان حركة الاحتجاج على الوول ستريت وحزب الشاي دليلا على تضاؤل القوة السياسية. عن الاولى هو يكتب:
بالنسبة الى سرعة وتأثير الاشكال الجديدة للمنظمات الافقية، فان حركات الاحتجاج ايضا كشفت عن تآكل الاحتكار الذي امتلكته الاحزاب السياسية التقليدية على القنوات التي ينقل من خلالها اعضاء المجتمع مشاكلهم وآمالهم وطلباتهم.
وعن الاخيرة يكتب:
معظم الاحزاب السياسية القديمة غير قادرة على تعبئة القوى التي امتلكتها في يوم ما. مثال على ذلك الضم الاكراهي للحزب الجمهوري من جانب حزب الشاي.
ان احترام الكاتب لحركة الاحتجاج ونقده لحزب الشاي يشير الى شيء ما حول ميوله الايديولوجية. هو يرى ان الانتصارات السياسية لباراك اوباما تجسد المشاركة الشعبية الجيدة رغم سيطرة الدولة على برنامجه الاقتصادي.
في الحقيقة، يجادل الكاتب في الفصل الختامي للكتاب ان "الثورة الذهنية" ذهبت بعيدا في قيادة الناس نحو ازدراء الاحزاب السياسية والحكومة المركزية. هو يكتب:
ان الثقة في المنظمات غير الحكومية نمت بنفس سرعة الانحدار في الثقة بالأحزاب السياسية.. النمو في المنظمات غير الحكومية هي بالنتيجة نزعة مرحب بها. ما هو اقل ترحيبا والذي يجب وقفه هو التآكل في موقف الناس من الاحزاب السياسية والتي هي في عدة دول – ايطاليا، روسيا، فنزويلا قادت الى اختفائها الحقيقي واستبدالها بمكائن انتخابية ذات اغراض محددة.
الهياكل الاقل هيراركية مكّنت المنظمات غير الحكومية لتكون اكثر اناقة وتكيفا واكثر استجابة لتوقعات وحاجات اعضاءها، وهكذا هي تساعد ايضا الاحزاب السياسية للوصول الى اعضاء جدد، وتصبح اكثر سرعة في التقدم ببرامجها وافضل في مواجهة التبسيطيين الذين يبحثون عن السلطة داخل وخارج الحزب...
فقط عندما نحافظ على الثقة في النظام السياسي في البلاد ومن ثم نمنح القادة القدرة على احتواء تآكل القوة وتمكينهم من عمل قرارات صعبة وتجنب الجمود في المواقف سنكون قادرين على معالجة التحديات العالمية الملحة.. الحفاظ على الثقة واعادة اختراع الاحزاب السياسية وايجاد طرق جديدة يستطيع فيها المواطنون المشاركة في العملية السياسية وخلق آليات جديدة للحوكمة الفعالة، وتقليص التأثيرات السيئة لإجراءات الفصل بين السلطات (Balances and cheaks) مع رفض التركيز المفرط للسلطة اللامسؤولة وتعزيز مقدرة الدول القومية للعمل مع بعضها يجب ان يكون الهدف المركزي حاليا. يرى الكاتب ان البيروقراطية الويبرية اصبحت اقل تأثيرا بسبب ضياع الثقة لدى الناس، لكن هناك من يرى ان السببية تسير بالاتجاه المعاكس، اي ان الناس فقدوا الثقة بالحكومة لأن البيروقراطية الويبرية اصبحت اقل تاثيرا.
الثورات الثلاث للكاتب المؤلفة من الوفرة الواسعة، الهجرة والسفر السريع، والاعتماد الكبير على العقل بدلا من الايمان، جميعها تساعد في جعل التنظيم الهيراركي اقل فعالية. وبدلا من ذلك، اصبحت الشبكات والاسواق هي الافضل في مسايرة عالم المعلومات المكثفة. نرى ان ما نحتاجه اليوم هو ليس الاحترام الزائد للمسؤولين الحكوميين وانما نحتاج الى تفويض الصلاحيات بعيدا عن اولئك المسؤولين.
وبالرغم من هذه الملاحظات، نرى ان نهاية القوة هو كتاب عميق وهام جمع فيه الكاتب بين التفكير المفاهيمي القوي والقدرة على تلخيص دليل احصائي هام. الكتاب ثمين خصيصا في تبيان اهمية النمو والتغيير الذي يحدث في الاقتصاديات الناشئة في العالم.