اللغات الثلاث في السياسة

حاتم حميد محسن

2018-01-24 05:30

يستخدم كل من المحافظين والليبراليين والتحرريين لغات مختلفة لتبرير عقائدهم، فاللغات التي يستعملها الناس في الحديث عن السياسة، عادة تعمل بدون وعي لتصنع اذهانهم. في كتاب (اللغات الثلاث في السياسة) (1) يسعى المؤلف لمساعدة القارئ على فهم مختلف وجهات النظر.

اطروحة الكاتب هي ان الجماعات الثلاث اعلاه لا يتفقون على القضايا وهم يتحدثون ايضا بلغات سياسية مختلفة. كتاب صغير الحجم يوضح فكرة اساسية واحدة غيّرت الطريقة التي نتحدث ونفكر بها عن السياسة. عبر صفحات الكتاب، يحاول الاقتصادي (ارنولد كلنك) توضيح الانقسام الحالي في السياسة الامريكية – وهو انقسام حاد جدا لدرجة ان الخصوم يرون بعضهم ليس مجرد مخطئين وانما هم غير أسوياء.

فرضية (كلنك) هي ان المعسكرين المتضادين يحكمون على العالم وفقا لمعايير مستقيمة فيها كل جانب يرى الواقع ويفسره بطريقة منسجمة داخليا وان كانت غير شمولية او غير ملائمة للآخرين. ان اللغة السياسية التي نستعملها تفترض وربما تفرض هذه المعايير بطريقة نادرا ما ندركها.

يطرح (كلنك) تمييزا هاما بين التفكير البنّاء والتفكير العاطفي. التفكير البنّاء يحدث عندما نجمع الحقائق ونزن الحجج بدون انحياز لكي نصل الى موقف حول القضية. اما التفكير العاطفي يتم عندما نعرف سلفا او قيل لنا موقف الطرف الاخر قبل جمع الحقائق، ثم نلتقط ونختار حقائقنا وحججنا لكي نفرض بارادتنا ذلك الرأي. فرضية (كلنك) هي ان اللغة السياسية المستخدمة من جانب مختلف الجماعات تشجع التفكير العاطفي بدلا من التفكير البنّاء.

المحاور المفضلة (Axes)

فكرة ان مختلف الجماعات السياسية تتحدث عن مواضيع بلغات مختلفة هي ليست فكرة جديدة. ما هو جديد في كتاب اللغات الثلاث هو ان المؤلف يحاول تحديد ماهية هذه اللغات. المؤلف يفضل تسميتها بالخطوط او المحاور، مستلهما نظام ديكارت بنقاطه الثلاث X, Y, Z والتي جميعها تشير الى نفس الارقام لكنها لن تلتقي الاّ في نقطة الاصل. يحدد (كلنك) محاور لتفسير ثلاثة اطياف مهيمنة على الحياة السياسية في امريكا اليوم:

1- الليبراليون، يميلون للنظر الى الاشياء على طول محور المستبدين- المضطهدين مفضلين السياسات التي تقدم الدعم للمضطهدين ومعاقبة الفريق الاول. انه محور يهتم بتحديد هوية منْ يسيئون استخدام السلطة ومنْ يقعون ضحايا لها.

2- المحافظون يصطفون ضمن محور الحضارة - البربرية. هم يفضلون السياسات التي تحافظ وتعزز الاولى على حساب الاخيرة. هم يسعون لتحديد المدافعين عما بناه الآسلاف، واولئك المتمردين الذين يحاولون تحطيم ذلك البناء.

3- التحرريون، يقفون الى جانب الحرية ضد القمع. هم ينظرون الى الاسواق باعتبارها احسن طريقة لتحقيق الحرية وان الحكومة ليست الا كقوة للقمع. في اي سياسة معينة يمكن لفريق المحافظين او التقدميين او التحرريين ان يكونوا مع او ضد تلك السياسة. لكن مواقفهم تتأطر بلغات مختلفة كليا تعيق مقدرة اعضاء مختلف الاحزاب على فهم موقف كل منهم.

ان الليبراليين ربما يشعرون بكونهم "مضطهدين" بسبب الضرائب والحاجة الى رعاية صحية عالمية، اما المحافظون قد يتجنبون استخدام كلمة "همجية". لكن المسألة الهامة بالنسبة للمؤلف هي حول القيم التي تكمن وراء كيفية اختيارنا لأحد الاحزاب بدلا من العبارات التي نستخدمها في وصف ذلك.

التأثيرات

اذا كنت ضمن واحدة من تلك الجماعات، حسبما يرى الكاتب، فانت تميل لتأطير القضايا طبقا للمحور المفضل لديك. مثلا، فيما يتعلق بتشريع قانون للمخدرات. يمكن هنا تصور الحوار التالي:

الليبراليون: يقولون ان حرب الحكومة على المخدرات دمرت الجماعات الفقيرة في أطراف المدن. هذه بوضوح قضية اضطهاد، واذا كنت لا توافق على هذا فأنت يجب ان تكون مع الاضطهاد.

المحافظون: يقولون نحن لا نعرف الشيء الذي تتحدث عنه انت. هذه بوضوح قضية تتعلق بالحفاظ على النظام، واذا لا توافق فانت مع الفوضى.

التحرريون: يقولون انتما كلاكما مخطئان: هذه المسألة هي حول الدفاع عن حرية الفرد المقدسة وحقه في تدخين اي شيء طالما هو لا يؤذي اي شخص آخر. اذا انت لا توافق فانت تكره الحرية.

بالطبع، يصعب اعتبار هذا نوع من الحوار، التأطير المباشر للقضايا بعبارات مفضلة ستكون له تأثيرات سلبية على النقاش كما سنرى:

1- انه يحشرنا في معيار قيمي يمنعنا من رؤية الاشياء من وجهة نظر خصومنا، ويمنعهم ايضا من رؤية الاشياء وفقا لرؤيتنا.

2- هو يجعلنا نرى خصومنا في مناخ من العتمة، مع عدم وجود علاقة بالكيفية التي يرون بها حقا انفسهم.

3- كذلك، يجعلنا نشعر اننا ضحايا، لأن خصومنا يرفضون التحدث باللغة التي اخترنا استعمالها.

4- يجعلنا نشعر متفوقين اخلاقيا لأن لغتنا تفترض سلفا نظاما قيميا لا ينسبه خصومنا لأنفسهم.

الآن، يرى المؤلف هناك عدة اسباب وراء وقوعنا في هذه المصيدة:

اولا: المحور المفضل لدينا هو الموقف الذي نقع فيه عندما لا نمتلك الوقت او الطاقة الكافيين لنختبر تماما كل جوانب القضية. يستخدم المؤلف مفهوم في علم النفس يسمى الاستنتاج او closure، وهو النقطة التي يتوصل بها الذهن الى حكم حول القضية. يرى الكاتب ان محورنا الفاشل، هو عبارة عن طريق سريع للاستنتاج.

ثانيا: تمارس الجماعة السياسية ضغطا على طول محورها المفضل. اذا كنت تريد الانسجام مع جماعة سياسية متجانسة (سواء كانت حزب سياسي ام جماعة ضمن احتفال)، فان المسار الاقل مقاومة هو ان تؤطر الاشياء بعبارات مفضلة. وكما يشير الكاتب " في قبيلة معينة، تُستعمل اللغة السياسية لطمئنة الآخرين عن ولاء المرء للقبيلة، ولرفع مكانة المرء في قبيلته وإثارة العداء ضد القبائل الاخرى".

انظر في ثلاثة اهداف لدى المسؤول السياسي. أحد الاهداف هو فتح اذهان الناس في الجانب الاخر. الهدف الثاني هو فتح اذهان الناس الذين هم في جانبنا. اما الهدف الثالث هو غلق اذهان الناس الذين هم معنا. تقريبا جميع المحللين والمسؤولين السياسيين الذين يظهرون في الميديا اليوم يسعون فقط لتحقيق الهدف الثالث.

استنتاجات الكاتب

1- ان نقاشاتنا السياسية محبطة وبلا نهاية لأن كل جماعة تعبر عن نفسها طبقا للمحور الذي تفضله. وبالتالي، نحن نتحدث عن موضوع مختلف بدلا من الاتصال فيما بيننا.

2- ان تعلّم لغة الآخرين يساعدنا في فهم الكيفية التي يفكر بها الآخرون حول القضايا السياسية بدون اللجوء الى نظريات قد تكون حمقاء او غير واقعية.هم قد تكون لديهم وجهة نظر متماسكة، وربما تكون بنفس قوة وجهة نظرنا.المشكلة هي انهم يطبقون وجهة نظرهم في ظروف انت متأكد انها ليست ملائمة.

3- اذا اردنا الانتقال من التفكير العاطفي الى التفكير البنّاء، علينا ان نقاوم الميول للتمحيص النقدي فقط للحقائق والتحليلات التي تهدد عقائدنا.

4- من غير المحتمل جدا ان اكون موضوعيا بينما اولئك الذين لا يتفقون معي هم غير عقلانيين. انه من الصعب جدا التوفيق بين المنطق والبداهة في هذا الشأن.

5- يعتقد المؤلف ان هدف المرء تجاه الآخرين يجب ان يكون امتلاكهم اذهانا مفتوحة. اذا كان هذا هدفي تجاه الآخرين، عندئذ ذلك يجب ان يكون ايضا الهدف الذي اضعه لنفسي.

الحل

لذا كيف نستطيع تجاوز هذه المشكلة؟ الحل الذي يعرضه الكاتب هو بسيط فيه يجب ان نتخلى عن المحاججة ضمن المحور المفضل لدينا، ونتعلّم رؤية الاشياء على طول المحاور الاخرى.

ان تعلّم اللغات الاخرى يمكّننا من فهم الكيفية التي يفكر بها الآخرون حول القضايا السياسية دون الحاجة للّجوء الى نظرية غير ملائمة. ومهما يكن الثمن لا بد من رفض الرغبة في النظر الى الآخرين كأناس غير عقلانيين:

احدى وسائل التفكير البنّاء هو تجنّب الادّعاء الذاتي بالعقلانية واتهام الاخرين بعدم العقلانية. بدلا من ذلك، يقترح الكاتب القاعدة العملية التالية، وهي انك الشخص الوحيد الذي يمكنه قول اللامعقول.

.................................
الهوامش
(1) كتاب (اللغات الثلاث للسياسيين) للاقتصادي ارنولد كلنك، صدر في شهر ابريل 2013 في 54 صفحة.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي