تَحَدّي الإرادات
نـــــزار حيدر
2015-02-17 01:21
مَثَلُ مٓنْ يتجاهل تحدّيات العولمة او يمنعها بالقهرِ والقوة، كمثلِ الأعمى الذي ينكر وجود النور.
لقد ألغت التكنلوجيا اليوم المسافات وربما الزّمن، حتى سُمِّيَ عالمنا بعالمِ القرية الصغيرة بل الحارة الصغيرة، ولذلك بدأت تنتقل العادات والتقاليد والثقافات من بلدٍ لآخر ومن شعب لآخر بانسيابيّة وبلا استئذان، فالثّقافات اليوم لا تطلب او تنتظر إذناً من أحدٍ لتنتقل من بلد لآخر او من شعب لآخر.
العالم اليوم كالأواني المستطرقة تنتقل فيها الثقافات من جزئه الاعلى الى جزئه المنخفض، وهي قاعدة فيزيائيّة لا يمكن لاحدٍ ان يمنعَ من حدوثها او يتحداها ابداً.
فيومَ ان كان لأثينا اليد العليا في الفكر والثقافة والفلسفة ظلّت نتاجاتها تنحدر الى الوديان والمنخفضات بلا توقّف، فلم يقوَ احدٌ على ان يتحدّى ذلك، حتى اصطبغَ العالمُ بما كانت بلونها، وَإنْ كان ببطء شديد بسبب بعد المسافات واختلاف اللغات وما أشبه.
حصل الامرُ نفسه عندما كانت للمسلمين اليد العليا فاصطبغ العالم بما ظل يُنتجونه من فكر وثقافة وفلسفة وكل شيء، كذلك من دون ان يجرؤ احدٌ على التصدي للامر.
واليوم، فانّ ما يُنتجه الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، من ثقافة وفكر وفن واخلاقيات وكل شيء يتسّرب بهدوء إلينا لان لها اليد العليا ونحن في الحضيض، للاسف الشديد، ولذلك سيعجزُ وسيتعَبُ وسييأسُ من يحاول التصدي لنتاجهم بغلق باب منزله مثلاً او بالتجاهل او بالمنع بالقهر والقوة، خاصة في هذا العصر الذي هو عصر الاتصالات التي تتطور بشكلٍ مضطرد وبسرعة تقترب من سرعة الضوء.
انّ الغرب يعرف جيداً ما الذي يفعله اليوم عندما يُنتج كل هذا الكم الهائل من الثقافات، ولكن المشكلة هي اننا لم نعرف ما الذي ينبغي علينا ان نفعلُه لاستيعاب نتاجه بشكل إيجابي ينفعنا ولا يضرنا، او باقلّ الأضرار.
ولانهم يعرفون ماذا يريدون، لذلك سخّروا كلّ شيء من اجل تحقيق هدفهم من العولمة فجاء الانترنيت ليربط كل فرد بالاخر في هذا العالم، لدرجة انّهم قرّروا تغطية الفضاء به مجاناً ليكون في متناول كل انسان على وجه هذه البسيطة.
ومن اجل ان لا تكون اللغة عائقاً في عملية نقل الثقافات تراهم يحدّثون مواقع الترجمة الفوريّة والمحمّلة على الهاتف المحمول بشكلٍ شبه يوميٍّ تقريباً، ففي آخر تحديث لگوگل للترجمة اصبح بمقدور الانسان ان يُترجم ايّ نصّ يريده من أيّة لغةٍ في العالم الى أيّة لغةٍ أُخرى في هذا العالم، وبلا مساعدةٍ من أحدٍ ما يعني انّنا سنشهد قريباً قُدرة حتى القروي في أبعَد نقطة في هذا العالم على التفاعل مع أيّ قروي آخر في النقطة الاخرى منه، وبالصوت والكتابة وليس في الكتابة فقط، ما يعني ان الامّي الذي لا يقرأ ولا يكتب، كذلك، سيكونُ عرضة لغزو العولمة وتأثيراتها في عقر داره.
اما نحن؛ فللآن نتعامل مع العولمة وتحدّياتها بإحدى الطرق التالية؛
الف؛ التجاهل وكأنّنا لا نعيش في هذا العالم او كأننا نقدر على تحصين الذّات بالمعجزة.
باء؛ السّب واللّعن والدعاء على الكفار ليبيدهم الله تعالى فيخلّصنا من عولمتهم.
جيم؛ المنع بالقوة والقهر وبالعصا الغليظة، وكأنّنا نقدر على وضع الاسرة مثلاً او المحلةّ او الشعب في قفص حديدي نمنع عنه العولمة، ناسين او متناسين بانها باتت كالهواء نتنفّسه رغماً عنّا.
ما الحلُّ إذن؟.
لا يختلف اثنان في انّ العولمة هي سلاح ذو حدّين فاذا انفلت من عقاله دمّر واذا تم توظيفه بشكل سليم افاد، بل انها يمكن ان تكون سلاحنا في التأثير في هذا العالم وتحسين حضورنا فيه اذا ما احسنّا توظيفه.
مشكلة الكثير منّا هو انّهم لا ينظرون الا الى الجانب المظلم من العولمة، المخاطر فقط، فتراهم يُشغلون تفكيرهم في كيفيّة التصدّي لها، ولاّنهم لا يقدرون على ذلك البتّة لان أدواتها تتطور قبل ان يرتدّ اليهم طرفهم، ولذلك فسيموتون قبل ان يفعلوا شيئاً بهذا الصدد.
اخرون لا يأخذون من العولمة الا كل ما هو هابط وتافه، ولذلك تراهم مشغولون بالتّقليد من دون الانتباه الى ان هناك إمكانية للابداع والتنمية اذا ما تمّ التّفكير بصورة جديّة في الاستفادة منها.
وبين هذين النّوعين من التّفكير ضِعنا وضاعت شعوبنا ان لم يكن اليوم فغداً او بعدَ غدٍ.
فما الحلّ اذن؟.
١/ ان نتعاملَ مع تحدّيات العولمة كواقع، فلا نحاول إلغاءها، كما لا نستسلم لها ابداً.
٢/ ان نتعاملَ معها بعقليّة علميّة ومنطقيّة، لنستوعبها ونهضمها بأحسن الطّرق، بعيداً عن ردود الأفعال والانفعالات غير المحسوبة عواقبها، وبعيداً عن لغة الشعارات والصِّدام.
٣/ صناعة البدائل في المجتمع، تأخذ بنظر الاعتبار الخصوصيّة الذاتيّة الى جانب المتغيرات التي لا غنًى عنها.
٥/ اعتماد لغة الحوار والتوجيه والتوضيح والمقارنة والتنبيه بدلاً من لغة العنف في التعامل مع تحديات العولمة.
انّ ما نراه اليوم عيباً او غير ممكن الحدوث لأيٍّ سببٍ من الأسباب سيكون غداً أمراً واقعاً مقبولاً، فبدلاً من ان يُفرضُ علينا فرضاً بالضّد من ارادتنا، لماذا لا نبادر للتخطيط له لنستوعبه بما ينسجم وثقافتنا وثوابتنا؟.
انّ مسؤولية المؤسسة الدينية المتنورة التي تمتلك القدرة على هضم مختلف الثقافات وصهرها في ثوابتنا، من جانب، ومسؤولية منظمات المتجمع المدني المهتمّة بتجسير العلاقة ببن القديم والجديد، او ببن الثابت والمتحول، مع الاحتفاظ على خصوصية مجتمعاتنا، من دون تزمّت او تحدٍ كاذب او مزعوم، فان ذلك يدمّر ولا يصلح ابداً، كفيلٌ بان نُنجز المبادرات اللازمة قبل المفاجآت، ما يقلّل من الآثار السلبية المتوقعة.
انّها معركة الإرادات التي لا مفرّ منها، فمن الذي سيصرخ قبل الاخر يا ترى؟.