لماذا نريد حكما رشيدا؟
جميل عودة ابراهيم
2015-02-08 09:00
تؤكد التجربة أن الدول التي تتمتع بحكم رشيد أقل عرضة للعنف وأقل عرضة للفقر. فما هو مفهوم الحكم الرشيد؟ وما هي معاييره ومقوماته؟ ولماذا يُطبق الحكم الرشيد في بعض الدول ولا يُطبق في دول أخرى؟ ومن هو المسئول عن تطبيقه وضمانه استمراره؟.
الحكم الرشيد أو الصالح أو الجيد مفهوم اصطلاحي حديث، برز استخدامه في العقود الثلاثة الأخيرة من قبل مؤسسات الأمم المتحدة، وبخاصة أجهزة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لإعطاء حكم قيمي على ممارسة السلطة السياسية لإدارة شؤون المجتمع باتجاه تطويري وتنموي ونقدي.
عرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الحكم الرشيد بأنه: "هو ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية والإدارية لإدارة شؤون الدولة على كافة المستويات، ويشمل الآليات والعمليات والمؤسسات التي من خلالها يعبّر المواطنون والمجموعات عن مصالحهم ويمارسون حقوقهم القانونية ويوفون بالتزاماتهم ويقبلون الوساطة لحل خلافاتهم."
وعرف البنك الدولي مفهوم "الحكم الصالح"، أو "الحكم الرشيد"، بأنه "الحكم المعتمد على تقاليد ومؤسسات تتم من خلالها ممارسة السلطة في الدولة بهدف خدمة الصالح العام، ويشمل هذا التعريف، عملية اختيار القائمين على السلطة ورصدهم واستبدالهم، وقدرة الحكومة على إدارة الموارد وتنفيذ السياسات السليمة بفاعلية، واحترام كل من المواطنين والدولة للمؤسسات التي تحكم التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية فيما بينها."
أما الدكتور"عبد المجيد محمد الغيلي" فيرى أن مصطلح "الحكم الرشيد" هو مصطلح قديم ومتداول إلى حد ما منذ أمد بعيد، ولكن لم يتم تبنيه، واعتماده بديلا للمصطلحات الشائعة. والمصطلح ينتمي إلى تراثنا، وليس مستوردا، ومفهومه ينطلق من تراثنا اللغوي والفكري من جذره العربي "رشد"، واستخدامه مقترنا بالحكم مألوف في العربية، بل قد استخدمه القرآن الكريم، ويستخدم في الأدبيات الغربية المعاصرة، بمعنى الحكم الجيد، مقابل "Bad Governance": الحكم الفاسد.
ويقدم الدكتور الغيلي أربع ركائز مفهومية لمصطلح الحكم الرشيد، حيث يرى أن الرشاد – كمصطلح ذي مفهوم عربي - نقيض الضلال، ونقيض الفساد، ونقيض الشر، ونقيض الضرر... وكلها مستخدمة في القرآن الكريم. وكلها معاني وأوصاف تناسب الحكم الذي يريده الناس. فالحكم الرشيد له أربع ركائز مفهومية، (حكم هدائي، صلاحي، خيري، نفعي).
الأولى: الركيزة الهدائية، تتعلق بالقائمين عليه، فهو حكم يقوم على الهداية والعلم والمعرفة وليس على الجهل والضلال والسفه، فالقائمون عليه هم من ذوي الكفاءة، والخبرة، والعلم، والأمانة، والقوة. أصحاب القوة فيفعلون، والأمانة فيحفظون. ليسوا بجهلة أو سفهاء أو أغرار.
والثانية: الركيزة الصلاحية: تتعلق بطبيعته، فهو حكم ذو طبيعة صلاحية (نسبة إلى الصلاح)، يسعى إلى تجفيف منابع الفساد وتأسيس بنيان الصلاح.
والثالثة: الركيزة الخيرية: تتعلق بهدفه، فهو يسعى إلى إقامة الخير بين الناس، كل الناس، ودفع الشر عنهم.
والرابعة: الركيزة النفعية: تتعلق بثمرته، فثمرته أن يتحقق للناس النفع، فينتفعون في حياتهم بثمار تطبيق هذا الحكم، فهو ينفع ولا يضر. (الحكم الرشيد-ويكببيديا/ الموسوعة الحرة).
والحقيقة أن مفهوم الحكم الرشيد ارتبط ارتباطا كبيرا بتطوير مفاهيم التنمية، فبعد أن كانت التنمية تركز على النمو الاقتصادي، تطور مفهومها لتركز على مفهوم التنمية البشرية، ثم تطور إلى مفهوم أوسع أطلق عليه مفهوم التنمية البشرية المستدامة، وغدا هذا المفهوم مشتملاً على عملية مترابطة لكل مستويات النشاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والبيئي... وتستند هذه العملية إلى منهاج تكاملي يقوم على العدالة في التوزيع، وعلى اعتماد المشاركة، وعلى التخطيط الطويل المدى ليس للموارد الاقتصادية فحسب، بل وللتعليم والسكن والبيئة، والثقافة السياسية، والتركيب الاجتماعي أيضاً.
أما معايير الحكم الرشيد، فهي بحسب المختصين عديدة ومتنوعة، وقد تختلف بأولوية التطبيق من بلد إلى بلد آخر.. وتتوزع المعايير بين سياسية واقتصادية واجتماعية وإدارية، وهي لا تقتصر على أداء الدولة ومؤسساتها المركزية واللامركزية فحسب، بل تشمل كذلك الإدارة العامة ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، وحتى المواطنين أنفسهم بصفاتهم كأفراد وكناشطين اجتماعيين أيضاً.
وقد تختلف الأولويات والمعايير كذلك باختلاف الجهات ومصالحها، فالمعايير التي يستخدمها البنك الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تستند إلى تحفيز النمو الاقتصادي، والإنتاج الاقتصادي وحرية التجارة والخصخصة.
فعلى سبيل المثال نجد أنَّ دراسة البنك الدولي عن الحكم الرشيد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد استندت إلى معيارين أساسيين هما:(1- التضمينية: ويشمل حكم القانون والمعاملة بالمساواة، والمشاركة بالمساواة، وتأمين فرص متساوية للاستفادة من الخدمات التي توفرها الدولة. 2- التمثيل والمشاركة والتنافسية -سياسياً واقتصادياً- والشفافية والمساءلة، والمحاسبة).
وفي بعض الدراسات الأخرى تم التركيز على ستة معايير للحكم الرشيد هي (المحاسبة والمساءلة، الاستقرار السياسي، فعالية الحكومة، نوعية تنظيم الاقتصاد، حكم القانون والتحكم بالفساد) بينما كانت الدراسات الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أكثر شمولاً، وتضمنت تسعة معايير هي:
1- المشاركة: وتعني حق المرأة والرجل بالتصويت، وإبداء الرأي مباشرة أو عبر المجالس التمثيلية المنتخبة ديمقراطياً بالبرامج والسياسيات والقرارات.
2- حكم القانون: ويعني مرجعية القانون وسيادته على الجميع من دون استثناء، انطلاقاً من حقوق الإنسان بشكل أساسي، وهو الإطار الذي ينظم العلاقات بين المواطنين من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة ثانية، كما أنه ينظم العلاقات بين مؤسسات الدولة، ويحترم فصل السلطات واستقلالية القضاء.. وتؤمَّن هذه القواعد الحقوقية العدالة، والمساواة بين المواطنين. الأمر الذي يتطلب وضوح القوانين وشفافيتها، وانسجامها في التطبيق.
3- الشفافية: وتعني توفر المعلومات الدقيقة في مواقيتها، وإفساح المجال أمام الجميع للإطلاع على المعلومات الضرورية والموثوقة، مما يساعد في اتخاذ القرارات الرشيدة، في مجال السياسات العامة، ويجب أن تنشرها الجهات المعنية بعلنية ودورية من أجل توسيع دائرة المشاركة والرقابة والمحاسبة من جهة، ومن أجل التخفيف من الهدر ومحاصرة الفساد من جهة أخرى.
4- حسن الاستجابة: ويعني قدرة المؤسسات والآليات على خدمة الجميع، وتلبية الجميع دون استثناء.
5- التوافق: ويرمز إلى القدرة على التوسط والتحكيم بين المصالح المتضاربة من أجل الوصول إلى إجماع واسع حول مصلحة المصالح المتضاربة من أجل الوصول إلى إجماع واسع حول مصلحة الجميع، وإنْ أمكن حول المصلحة العامة، والسياسات العامة.
6- المساواة وخاصة في تكافؤ الفرص: وتهدف إلى إعطاء حقَّ لجميع النساء والرجال في الحصول على الفرص المتساوية في الارتقاء الاجتماعي من أجل تحسين أوضاعهم.
7- الفعالية: وتهدف إلى توفر القدرة على تنفيذ المشاريع بنتائج تستجيب إلى احتياجات المواطنين وتطلعاتهم على أساس إدارة عقلانية وراشدة للموارد.
8- المحاسبة: وتعني وجود نظام متكامل من المحاسبة، والمساءلة السياسية والإدارية المسؤولين في وظائفهم العامة ولمؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، والقدرة على محاسبة المسئولين عن إدارتهم للموارد العامة، وخصوصاً تطبيق مبدأ فصل الخاص عن العام، وحماية الصالح العام من تعسف واستغلال السياسيين.
9- الرؤية الإستراتيجية: وهي الرؤية المنطلقة من المعطيات الثقافية والاجتماعية الهادفة إلى تحسين شؤون الناس، وتنمية المجتمع والقدرات البشرية (د.أحمد محمد الأصبحي، مفهوم الحكم الرشيد ومضامينه).
خلاصة القول: إن مفهوم الحكم الرشيد مفهوم إنساني وحضاري وديني، وهو ليس مفهوما حديثا وإنما راج استخدامه في العصر الحديث، وهو الممارسات الفضلى في السياسية والاقتصادي والإدارة والاجتماع والحقوق، وهو مفهوم يوفر حياة كريمة ومستقبل زاهر للشعوب والأمم، وهو قابل للتطبيق، إذا ما تم الأخذ به وتوفير أسبابه.
ولكن نجاح الحكم الرشيد في أية دولة من الدول، وفي أي مجتمع من المجتمعات ليس من مسؤولية الحكومة بمفردها، بل هو من مسؤولية الجميع في مختلف مستويات المسؤولية في الدولة والأحزاب والتنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وأن تلبية معايير الحكم الرشيد تتطلب جهوداً مكثفة ومنظمة ومستمرة واصطفافاً وطنياً للتغلب على الجهل والأمية والفقر والفساد.