لماذا نكتب؟
حيدر الجراح
2016-10-19 05:21
في لحظة ما وعندما تتحول الكتابة إلى ثرثرة بلا طائل، يتوجب عليك أن تطوي أوراقك وتعيد دوزنة العلاقة بين العبارة ومعناها والجدوى من ورائها....
يكتب احد الأصدقاء في بوست على صفحته في الفيس بوك.. ربما يشعر وقتها بالإحباط وربما بالخيبة، او كلاهما معا.. وهو الذي لديه اكثر من كتاب.. ربما لم يجد حتى اللحظة اثرا لما كتبه ويكتبه في عقول القراء المفترضين، وحتى لم يجد ذلك في عقول الذين يعرفهم ولديه تماس مباشر معهم..
هل يجب ام يفترض ان تترك كتاباتنا تأثيرا على الاخرين؟ ومن هم هؤلاء الاخرين تحديدا؟ قراء مفترضين.. لكن هل يتوجهون عن قصدية مباشرة الى ما نكتبه، ام انها الصدفة، محض صدفة، تجعلهم يقرأون ما نكتب؟
وسؤال اخر يرتبط بتلك الأسئلة وهو لماذا نكتب، ونعيش هذا القلق والارهاق حتى نكتب ما نكتبه ثم لا يقرأه احد، واذا قرأه لا يترك اثرا في عقله، او هكذا نتصور؟
منذ اختراع الكتابة قبل ثلاثة الاف سنة قبل الميلاد، وهاجس الانسان هو حفظ إنتاجه الفكري وميراثه الثقافي والعلمي من الاندثار ولتتوارثه الأجيال اللاحقة. وقد نجح في ذلك..
لكن الفيلسوف سقراط اعترض على الكتابة بشكل كبير، وفي معرِض اعتراضه يقدم لنا سقراط -كما نقل لنا أفلاطون– أقوى وأعمق الدروس التي أحوج ما نكون لها اليوم حيث التمييز بين المعلومات والمعرفة. سقراط كان يعتقد بأن الاعتماد على الكتابة سوف يُجهز على الذاكرة والنقطة الأهم كان يرى بأن القراءة ستدفع الطلاب للتفكير بأنهم حازوا على المعرفة، في حين أنهم حازوا على المعلومات فقط. فهد الحازمي / لماذا اعترض سقراط على الكتابة ؟ رسالة سقراط إلى جيل الانترنت.
بتطور الكتابة ووظائفها وأهدافها، وتنوع الأفكار وولادة أفكار جديدة، برز سؤال لماذا نكتب على السنة جميع من يتخذ الكتابة مهنة له..
الروائي المغربي بنسالم حميش، يقول عن الكتابة “ملجأي هو الكتابة وقاعدتي الخلفية الأبقى، إنها كترياق استشفائيّ يهب متعةً وأيَّ متعة! فإن وجدتْ في القراء من يقطف قسطًا منها فأهلًا وسهلًا، وإلا فإنها وحيدتي وأنا وحيدها، المتعة التي أجلبها لنفسي من الكتابة هي ميزاني الأوحد وبوصلتي الأمثل، آخرون سواي قد يشاركونني إياها، ولو بدرجة أقل، أما المتخلون عنّي فلا أستطيع لهم شيئًا، إذ لا وجهتي وجهتهم، ولا سكرتي سكرتُهم”.
اما باتريك دروفيه في مقالته (عزلة الكاتب.. الأجر المرّ للمجد) فهو يقرن الكتابة بتجربة العزلة: (ليس من الضّروريّ أن نكتب كيما نتعرّف على العزلة، ولكن الحركة التي تحفز على الكتابة تأتي دائماً كامتداد لتجربة قوامها العزلة؛ والكتابة تقود، لا محالة وفي كلّ الأحوال، إلى تلك العزلة، ولأنّها بيّنة وتجسّد توقاً مشتركاً، فإنّ عزلة الكاتب تغدو رمزاً استعاريّاً في خيالنا، فكلّ منّا يمضي حالماً بغابة، بأرض تيهاء، بصحراء، أو ببرج عاجيّ ينحشر فيه ليكتشف جرحه السريّ الذي هو حياته).
والكتابة وفقا لهذا التفسير للعزلة، هي أن ننقل رؤيتنا للعزلة المطلقة التي تتشكّل لدينا، عن العزلة المطلقة للآخرين. إنّها محاولة التّعبير عن تلك العلاقة الخاصّة التي تربطنا بالعالم، من حيث إنّه انخطافيّ، بلا مثال، وعصيّ على الوصف.
ميلان كونديرا له رأي اخر بالعزلة وعلاقتها بالكتابة:
العزلة العامة قد تولد الهوس بالكتابة، وهوس الكتابة المعمّم بدوره يقوّي العزلة ويفاقمها. ذلك أن اختراع الآلة الطابعة مكّن الناس قديمًا من أن يفهم بعضهم بعضًا. أما في عصر هوس الكتابة الكوني، فقد اكتسب تأليف الكتب معنىً مناقضًا : كل واحد يحيط نفسه بكلماته الخاصة كما لو كان يحتمي بجدار من المرايا لا ينفذ منه أي صوت من الخارج.
الروائي جورج اورويل لخص دوافعه للكتابة في أربع نقاط قال إن أهميتها تتفاوت من كاتب لآخر وأولها هو حب الذات ورغبة الكاتب في أن يبدو ذكيا أمام الآخرين وفي كسب اهتمامهم وجعلهم يتحدثون عنه وتحقيق نوع من الخلود بعد الموت إضافة إلى الرغبة في الانتقام من كبار كانوا يسيئون معاملة الكاتب في صغره.
الدافع الثاني في نظر اورويل هو ما أسماه بالحماس الجمالي إذ تحدث عن "إدراك الجمال في العالم الخارجي، أو من ناحية أخرى في الكلمات وترتيبها الصحيح" وعن "الرغبة في مشاركة تجربة يشعر المرء أنها قيمة".
دافع اورويل الثالث للكتابة يتعلق بما أسماه "الحافز التاريخي" متحدثا عن رغبة في رؤية الأشياء كما هي بهدف "اكتشاف حقائق صحيحة وحفظها من أجل استخدام الأجيال القادمة".
أما الدافع الرابع فهو الهدف السياسي. ويقول اورويل إنه يستخدم هنا "كلمة سياسي بأشمل معنى ممكن، الرغبة في دفع العالم في اتجاه معين لتغيير أفكار الآخرين حول نوع المجتمع الذي ينبغي عليهم السعي إليه".
أما (أميرة صليبيخ) فتحثك على الكتابة كلما كان وجعك أكبر فتقول:
اكتب .. اكتب .. اكتب ..
حتى تلهيك الكتابة من أن تموت مبكراً بعد الذي شهدته و عاصرته.
فكلما حاول العالم أن يتجاهل أوجاعك، اعلم أن آثار الجريمة ستكون أكثر وضوحاً، و أن من يملك قلماً يصبح هو سيد الساحة!
و تقول:
في الوقت الذي كنت أرى اتساع الجرح أكبر من العالم، كان القلم يرتق الجراح كلما تمادت في النزف، و حاولت الثورة على الشفاء.
ويتحدث (سلطان العميمي) عن الكتابة كطوق نجاة فيقول:
الكتابة أوكسجين الحياة، لذلك عندما سألوني لماذا تكتب؟ أجبتهم: كي أتنفّس و أعيش، و أمد غيري بالفرصة نفسها.
و يقول في موضع آخر :
اكتب، و تذكر أنك تخلق عالمك الخاص، الذي تدعو القراء للدخول فيه من أوسع أبوابه، فتسمج لهم بالجلوس و الاسترخاء، مسلماً إياهم مفاتيح أبواب التفكير و النقاش.
اكتب كي تلون حياة البشر، كي تلوّن ضحكات الكبار و الصغار، كي تجعل لحظاتهم أكثر إشراقاً.
بكلماتك يمكنك أن تبني جسوراً تعبر بها نحو الآخر لإنقاذه، أو يعبر الآخر من خلالها نحوك و نحو العالم ليعيش بشكل أجمل.
اما إدوارد الخراط في اجابته عن سؤال لماذا اكتب؟ يقول: اكتب لأنني لا أعرف لماذا أكتب! أمدفوعًا إلى الكتابة بقوة قاهرة؟
أعرف انني لا أملك إلا الكتابة سلاحاً للتغيير .. تغيير الذات وتغيير الآخر إلى أفضل ربما .. أو أجمل .. أو أدفأ في برد الوحشة والوحدة .. أو أروح في حر العنف والتعصب والإختناق .. لأنني أتمنى أن أقتحم ولو مقدارِ خطوة في ساحة الحقيقة التي لاحدود لها .. لأنني أتمنى أن ترتفع معرفتي ومعرفتكم بالذات والعالم ولو كان ذلك مقدار قامة .. لأنني لا أُطيق أن أتحمل في صمت جمال العالم وأهواله .. فلابد أن أقول .. لأنني أريد أيضا أن تظل العدالة حلماً حياً لايموت .. وصرخةٍ لا تطفئها قبضة القهر .. لأنني أتمنى أن يكون في كلمة من تلك التي أكتب أو في مجمل ما أكتب شيء يدفع ولو قارئاً واحداً أن يرفع رأسه وأن يحس معي أن العالم – في النهاية – ليس أرض الخراب واللا معنى.
اختم هذه السطور بما قالته الروائية المصرية رضوى عاشور: قلت إني أحب الكتابة لأني أحبها وأيضاً لأن الموت قريب، قلت إن الواقع يشعرني بالوحشة وإن الصمت يزيد وحشتي والبوح يفتح بابي فأذهب إلى الآخرين. أو يأتون إلي، وألمحت أنني أكتب لأنني منحازة (أعي العنصر الأيديولوجي فيما أكتب وأعتقد أنه دائما هناك في أية كتابة) ولكن لو سألتموني الآن هل تكتبين لكسب الآخرين إلى رؤيتك؟ سأجيب بلا تردد: ليس هذا سوى جزء من دوافعي، أكتب لأني أحب الكتابة وأحب الكتابة لأن الحياة تستوقفني، تدهشني، تشغلني، تستوعبني، تربكني، وتخيفني، وأنا مولعة بها.