أحلام السوريين وصدمة كيري
محمد علي جواد تقي
2016-10-04 02:25
من الصعب تصوّر حجم الضغط النفسي على أولئك الخارجين من لقاء وزير الخارجية الاميركي جون كيري على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو يصارحهم، ويصارح جميع المحسوبين على "المعارضة السورية"، ويكشف لهم عن حقيقة الموقف الاميركي إزاء سوريا، وأنه ليس في برنامج الادارة الاميركية تكرار سيناريو صدام في العراق، بخلاف التوقعات والآمال العريضة بوقوف واشنطن بقوة وراء مشروع الاطاحة بنظام بشار الأسد.
وبصرف النظر عن المبررات التي ساقها الوزير الاميركي في خذلانه المريع هذا، فان النتيجة الاولية لهذا المآل، هو استشعار المعارضين للأسد بخطأهم التاريخي والمدمر عندما اعتمدوا على الوعود الشفهية للرئيس الاميركي باراك أوباما بالمساعدة على تحقيق آمالهم، كما فعل الشيء نفسه؛ مع اختلاف اللهجة والاسلوب؛ الرئيس التركي أردوغان صاحب المقولة الشهيرة في الأيام الاولى من اندلاع التظاهرات الاحتجاجية في سوريا، بأن "أيام قلائل تفصلنا عن الصلاة في الجامع الأموي..."!.
إنها خيبة ذات طابع معنوي على هذا السياسي او ذاك من المتنقلين بين العواصم المعنية، بينما الخيبة الحقيقية ما أصابت الملايين من النازحين عن مدنهم المدمرة وذوي الضحايا من الاطفال والنساء، والمتضررين نفسياً ومادياً في مختلف جوانب الحياة، فخلال الخمس سنوات الماضية كانت الارامل والايتام والمفجوعين والمشردين يتابعون أخبار التحركات العسكرية باتجاه الاطاحة بالنظام الحاكم في دمشق، ولسان الحال كان؛ إن تحقيق هدف كبير كهذا يتطلب "بذل المزيد من التضحيات والصبر..."، وهو الصبر الذي قطعه الاميركيون باليأس الكامل.
وربما لا يكون من السهل على الشعوب قراءة التجارب الفاشلة لشعوب نثرت بذور التغيير فحصدت الدمار والانقاض والخسائر الفادحة، بيد إن المتوقع من الشريحة المثقفة والواعية أن تستفيد من رصيدها المعرفي في توجيه الناس نحو الخيارات الصحيحة، فهل قرأت في تاريخ السياسة الاميركية انها انتصرت لقضايا اثنية وقدمت للشعوب طموحاتها واراداتها على طبق من ذهب؟ نعم؛ بلغت الشعوب مناها بتحركها الذاتي وتضحياتها، و قبل ذلك؛ برؤيتها الواضحة للمستقبل وبرنامجها المتكامل بعيداً عن مصالح الآخرين.
يكفي أن نأتي بمثالين؛ الاول عن شعب حقق ذاته بقوة ارادته، وهو الشعب الفرنسي في ظل الاحتلال الالماني الهتلري، فقال الزعيم الراحل شارل ديغول في الايام الاولى من تحرير بلاده والبدء بأعمال إعادة البناء، موجهاً كلامه لمن تحدث من بالفضل الاميركي في تحرير فرنسا: "من الافضل لاميركا احتساب ما انفقته خلال الحرب ليصار الى تسديد الديون"، أما المثال الثاني: فهو قريب ومن العراق، عندما علّقت شريحة واسعة من المجتمع العراقي آمالها بمصالح اقليمية بغية الحصول على ما تعده "حقوقاً ضائعة"، فكانت النتيجة استباحة الدماء والاعراض والممتلكات ثم تعرض المجتمع السنّي في العراق الى أبشع حالات التمزق في تاريخه، وتدمير هائل في بنيته التحتية، حتى شوهدت المباني المشيدة حديثاً وبأموال العملية السياسية التي شارك فيها الساسة السنّة، وقد دمرت بالكامل.
لقد بلغ عدد ضحايا الحرب في سوريا حوالي نصف مليون انسان وخسائر مادية تقدر بأكثر من مائتي مليار دولار ودمار هائل في البنية التحتية وأضرار نفسية واسعة الابعاد من الصعب ترميمها، بما يعني تحمل الجماهير القسط الآخر من المسؤولية فهي من تتحرك على الارض، فمنها تنطلق شرارة التظاهرات الاحتجاجية، ومن بيوتها وحقولها تنطلق الجماعات المسلحة، فكان لابد من تطابق "حساب الحقل مع حساب البيدر" ولابد من إجابات عن جدوائية "الحراك الجماهيري السوري" مقابل الوضع الاقتصادي الذي بلغته سوريا حتى عام 2010.
من المفيد التطرق سريعاً الى بعض ملامح الاقتصاد السوري في تلك الفترة حسب تقرير شبكة (سي أن بي سي) المختصة بالاخبار الاقتصادية، حيث كانت سوريا تصنف من البلاد التي كانت تخطو بثبات في مسيرة التنمية في مختلف القطاعات، فقد تجاوز الناتج المحلي عام 2010، الـ 64 مليار دولار، ووصلت مساهمة الحكومة من الناتج الإجمالي إلى 22٪، فيما حل القطاع النفطي السوري في المرتبة 27 عالميا من حيث الإنتاج، وتجاوز الـ 400 ألف برميل يوميا، فيما بلغت الإيرادات النفطية 7 ٪ من الناتج الإجمالي.
وقبل آذار من عام 2011 كان قطاع الأدوية السوري يغطي 90٪ من الحاجة المحلية ويصدر الى 54 دولة حول العالم، كما ان نسبة الأمية اقتصرت على 5٪ قبل ان تهدم الحرب اكثر من 7000 مدرسة، كما جاءت محافظة حلب في الترتيب الأول من حيث تشغيل القوى العاملة ووصول هذه النسبة الى 94٪، هي بعض الإحصاءات التي نشرتها الشبكة الاقتصادية.
أما الإنتاج الكهربائي في سورية فقد بلغ الـ 46 مليار كيلو واط ساعي، كان في عام 2010 كفيلآ، ليس فقط بتغطية الحاجة المحلية، وإنما كانت الدولة السورية تقوم بتصدير الفائض الى لبنان.
كل هذا وغيره من المعطيات الاقتصادية ذات التأثير المباشر على الوضع الاجتماعي وحتى السياسي، يستدعي وجود مخطط كبير وبرنامج عمل متكامل لتحقيق ما هو أفضل من هذا الواقع الذي كان سائداً قبل اندلاع الاحداث في سوريا، وإلا لا يعقل – بأي حال من الاحوال- استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، حتى ما يتعلق بالملف السياسي والحديث عن المشاركة السياسية وتطوير النظام الديمقراطي وسن قانون الاحزاب وإطلاق الحريات السياسية وغير ذلك، فانه يتطلب بالدرجة الاولى توفير الارضية الاجتماعية الملائمة لنمو هكذا كيانات و وجودات تحقق التفاعل مع الفرد على غرار تفاعله مع البرامج الاقتصادية التي كانت تنفذها الحكومة السورية خلال السنوات الماضية.
وعندما يحصل الانسلاخ من الواقع والتطلع نحو فرسان الاحلام، فان النتيجة لن تكون سوى ضياع هذا الواقع – مهما كان متواضعاً- وضياع الاحلام والاهداف مهما كانت عظيمة ومطلوبة.