القضاء العسكري في العراق: قراءة دستورية تتجاوز ثنائية الإلغاء والإبقاء

أنور مؤيد الجبوري

2025-12-22 04:05

يثير الجدل المتجدد حول دستورية المحاكم العسكرية في العراق إشكالية تتجاوز الخلاف القانوني العابر، ليكشف عن أزمة في فهم النص الدستوري وطبيعة تطور الأنظمة القضائية الحديثة. فالاعتراض على هذه المحاكم بوصفها «محاكم خاصة» يصطدم بحقيقة دستورية ثابتة، مفادها أن الدستور العراقي ذاته أقرّ بوجود القضاء العسكري ونظّمه ضمن إطار قانوني محدد.

فالمادة (99) من الدستور حسمت أصل المشروعية، وقيدت اختصاص المحاكم العسكرية بحدود واضحة تمنع تحولها إلى قضاء استثنائي أو موازٍ للقضاء العادي. ويعكس هذا القيد فلسفة دستورية تقوم على التخصص لا الاستثناء، وعلى التنظيم لا الإلغاء، بما يضمن بقاء هذا القضاء ضمن حدوده الوظيفية الدقيقة.

غير أن جوهر الاعتراض المجتمعي لا يرتبط بالنص الدستوري بقدر ما يتصل بفجوة التطبيق ومخاوف التوسع في الاختصاص. فالتجربة العراقية مع المحاكم الاستثنائية في العهود السابقة خلّفت حساسية مشروعة تجاه أي قضاء خارج الإطار المدني التقليدي، وهي مخاوف لا يمكن تجاهلها. إلا أن معالجتها لا تكون عبر إنكار المشروعية الدستورية أو الدعوة إلى الإلغاء، بل عبر تحصين القضاء العسكري قانونيًا ومنع أي انزلاق عملي يحوّله إلى أداة سلطوية أو مسار بديل عن القضاء العادي، ولا سيما في ما يتعلق بحقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة. فالدستور حين أقرّ هذا القضاء لم يمنحه تفويضًا مفتوحًا، بل أخضعه لقيود صارمة في الاختصاص والأشخاص، وجعل احترام العدالة الإجرائية شرطًا لبقائه ضمن الشرعية الدستورية.

ويُعدّ الخلط بين المحاكم الخاصة والمحاكم المتخصصة أحد أبرز أسباب هذا الجدل. فالمحاكم الخاصة تُنشأ خارج البنيان القضائي وتفتقر إلى الضمانات، بينما يقوم القضاء المتخصص – ومنه القضاء العسكري – على أساس دستوري ويخضع، من حيث المبدأ، لمعايير المحاكمة العادلة. كما أن الاستقلال القضائي لا يُقاس بجهة التعيين، بل بطبيعة الوظيفة القضائية والضمانات التي تحيط بها. فالدستور، في المادتين (87) و(88)، قرر استقلال السلطة القضائية دون استثناء، وجعل القاضي – مدنيًا كان أم عسكريًا – خاضعًا في قضائه للقانون وحده.

ومن هذا المنطلق، فإن الإصلاح الحقيقي لا يكون عبر توصيفات دستورية قاطعة أو خطاب إلغاء مؤسسي، بل عبر مراجعة القوانين النافذة وتطويرها بما يعزز ثقة المجتمع بالقضاء، ويمنع أي تجاوز على حقوق الدفاع، ويكرّس مبدأ العدالة المتخصصة ضمن دولة القانون. فالنقاش الرشيد لا ينحصر في سؤال الإلغاء أو الإبقاء، بل في كيفية تطوير الإطار القانوني الناظم للقضاء العسكري بما ينسجم مع الدستور ويطمئن الرأي العام.

وفي هذا السياق، تبرز جملة مقترحات إصلاحية، في مقدمتها تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة بنصوص صريحة لا تقبل التأويل، تكفل حق الدفاع وحضور المحامي في جميع مراحل الدعوى، ووضع آلية قانونية دقيقة لاختيار القضاة العاملين في المحاكم العسكرية على أساس الكفاءة والخبرة والاستقلال، مع تحديد مؤهلاتهم وعددهم في القانون. كما يقتضي الإصلاح توسيع نطاق الرقابة القضائية على أحكام القضاء العسكري من خلال محكمة التمييز المختصة، بما يحقق وحدة المعايير القضائية ويعزز مبدأ الأمن القانوني، فضلًا عن مراجعة التشريعات النافذة بصورة دورية لضمان بقائها ضمن الحدود التي رسمتها المادة (99) من الدستور.

إن النقاش حول القضاء العسكري في العراق ليس اختبارًا لنصوص الدستور بقدر ما هو اختبار لجدّية الدولة في تطبيقه. فالدساتير لا تُصان بالشعارات ولا تُفرَّغ بالإلغاء، بل تُحترم حين تُخضع جميع مؤسساتها لسيادة القانون. وعندها فقط، يتحول الجدل من ساحة تشكيك وانقسام إلى مشروع إصلاح قانوني متكامل، يوازن بين مقتضيات الأمن وضمانات العدالة، ويؤكد أن دولة القانون لا تخشى التنظيم، بل تخشى الاستثناء.

ذات صلة

الكتاب والمكتبة مناهل التوعية والتثقيفجلسة حوارية ناقشت.. التدين السائل والاغتراب الديني في زمن ما بعد الحداثةالإمام محمد الباقر (ع): درس الحياة الذي نتجاهله اليومالبطالة ومتطلبات التشغيل المنتج للقوى العاملة في العراقالحكومة العراقية القادمة بين صراع التجاذبات وآمال التغيير