الأمل في الشروق غاية المواطن المسروق

د. جمانة جاسم الاسدي

2025-12-21 03:03

في بلدٍ كالعراق، تعاقبت عليه الحروب والاضطرابات والفساد والانقسامات، يصبح الأمل ليس مجرد شعور عابر، بل فلسفة بقاء ومرتكزًا نفسيًا يحول المواطن رغم كل ما سُلِب منه إلى إنسان يؤمن بأن الشروق قادم مهما طال ليل الخيبات.

وإذا كان العراقي يصف نفسه اليوم بأنّه مواطن مسروق، فذلك ليس توصيفًا رمزيًا، بل تعبيرًا عن مصادرة حقيقية لإرادته، وصوته، وخيراته، ومستقبل أبنائه، ومع هذا كلّه، يظل الأمل بالشروق هو الغاية الكبرى، والسعي نحو برلمانٍ جديد يناسب العراق أرضًا وشعبًا وتاريخًا ليس مجرد مطلب سياسي، بل صار مطلبًا وجوديًا.

حين يقول العراقي إنه مسروق، فهو يعبّر عن أربعة مستويات من الفقد أولها سرقة الإرادة السياسية، فحين تتحوّل الانتخابات إلى صراع نفوذ، ويختلط المال السياسي بشراء الذمم، ويشعر الإنسان أن صوته لا قيمة له، فإن أسوأ أنواع السرقة هو سرقة القدرة على التأثير، وثانيها سرقة الخيرات الوطنية، فكما هو معلوم للقاصي والداني ان العراق بلدٌ غني، لكن المواطنين لا يرون انعكاس هذا الغنى على حياة الناس فيه، لا بنى تحتية مستقرة، ولا خدمات محترمة، ولا نهضة اقتصاد، ولا أمن اجتماعي يطمئن إليه المواطن.

وثالث المسروقات هو سرقة الحلم، لكون جيل كامل نشأ وهو يرى المستقبل يُؤجَّل باستمرار، والفرص تُهدر، والطموحات تُكسر، ورابع السرقات هو سرقة الثقة، الثقة بالمؤسسات، بالقانون، بالمسؤول، بل وحتى بالعملية السياسية نفسها، التي تعرضت لاهتزازات عميقة.

ومع كل ذلك، يبقى العراقي بطبيعته التاريخية الاستثنائية متمسكًا بفكرة الشروق بعد الظلام، لأن الانكسار الكامل ليس خيارًا موجودًا في جيناته الحضارية.

فعلى الرغم من الصدمات، تبقى هناك طاقات داخلية تدفع العراقي نحو التفكير بمرحلة جديدة، وأبرز أسباب ذلك ان العراق بلد لا يموت وان احتظر، وتاريخه الممتد من بابل إلى العباسيين، ومن سومر إلى النجف والموصل والبصرة، علّم أبناءه أن الأرض التي أنجبت حضارات الإنسانية قادرة على استعادة عافيتها مهما تعرضت للنكبات.

ولان الوعي المجتمعي يتنامى، فلم يعد المواطن ساذجًا أمام الوعود، ولا أمام المال السياسي، ولا أمام الخطابات الطائفية والانقسامية، هناك طبقة شبابية واسعة تحمل رؤية مختلفة، وتطالب بدولة حقيقية، ومؤسسات فاعلة، وبرلمانٍ نزيه.

كذلك فأن الإرهاق من الفوضى وصل بالمجتمع إلى مرحلة يدرك فيها أن استمرار الأزمات يعني ضياع المستقبل، ولذلك بات التغيير ضرورة لا ترفًا، والإيمان بأن السياسة يمكن إصلاحها لأن التجربة أثبتت أن الإرادة الشعبية حين تتوحد تفرض واقعًا جديدًا، وأن الشعوب قادرة على فرض قواعد اللعبة إذا آمنت بذاتها.

المواطن العراقي غني النفس بسيط الامال، لا يطلب المستحيل، بل يطلب برلمان يعكس إرادته الحقيقية لا نتائج تُنتج خارج صناديق الاقتراع، وممثلين نزيهين لا يدخلون الانتخابات بمال سياسي أو نفوذ حزبي، وتشريعات تحمي الثروات الوطنية بدل أن تسمح بتسربها، ورقابة فعلية حقيقية على الحكومة لا مجرد تنافس سياسي، ويريد صوتًا وطنيًا موحدًا يقدّم مصلحة العراق على المصالح الضيقة، يريد برلمانًا يحترم تاريخ الدولة، حضارة الأرض، معاناة الناس، أحلام الشباب، دماء الشهداء، وثروات الوطن.

نرى ان ارتباط الشروق بالبرلمان يأتي من كون البرلمان هو مصدر التشريع وبيت الرقابة، ومرجعية القرار السياسي وممثل الإرادة الشعبية، فإذا صلحت المؤسسة التشريعية، صلحت الدولة، وإذا فسدت، فسد كل شيء، وعليه الشروق السياسي يبدأ من إصلاح البرلمان، لأنه البوابة التي يُعاد من خلالها رسم علاقة المواطن بالدولة.

ولكن الشروق لا يأتي بقرار، لكنه يولد من ثلاثة عوامل، على رأسها وعي شعبي يرفض إعادة تدوير الفشل، ومن ثم ضغط وطني على المؤسسات لضمان انتخابات نظيفة، وأخيرًا في ظهور طبقة سياسية جديدة تؤمن بالإصلاح الحقيقي لا الشكلي، ولان العراق اليوم يمر بمرحلة مفصلية فإما أن يُفتح الباب للمستقبل، أو يُعاد إنتاج الماضي.

ختامًا- في كل مواسم الإحباط، يبقى العراقي يتمسك بأمل الشروق، لأنه يدرك أن الليل الدامس مهما طال ظلامه وظلمه فلابد أن يتراجع وينحسر أمام الضوء، وعلى الرغم من أن المواطن يشعر بأنه مسروق من حقوقه وخيراته وإرادته، إلا أن غايته الكبرى تبقى واحدة وصامدة في انه سيرى فجرًا سياسيًا جديدًا ينصف الوطن ويعيد للعراقي مكانته وكرامته، فالأمل ليس رفاهية، أنما هو السلاح الوحيد الذي لم يستطع الفساد سرقته حتى الآن.

د. جمانة جاسم الاسدي، عضو ملتقى النبأ للحوار، تدريسية بجامعة كربلاء

ذات صلة

من الاستنباط إلى التربيةهندسة البنية الاجتماعية والاقتصاديةهل تشكّل الطبقة الاستهلاكية الجديدة في العراق طبقة وسطى حقيقية؟رسالة من العراق.. التحدي الأكبر الذي ينتظر رئيس الوزراء المقبلتفكيك الاستبداد بين عبد الرحمن الكواكبي وجورج أورويل