ما لم يستطع المال السياسي شراءه

د. جمانة جاسم الاسدي

2025-12-08 01:38

في لحظات الاحتدام الانتخابي، يبرز المال السياسي كأخطر سلاح يُستخدم للتأثير على خيارات الناخبين، وتوجيهها بعيدًا عن إرادتها الحرة، وقد بدا جليًا كيف أن المال قادر على شراء الأصوات، التحالفات، الولاءات، بل وحتى الصمت المطبق، لكن المال على قوته ليس مطلق القدرة، فهناك أشياء بقيت عصيّة عليه، لا يستطيع شراءها ولا تعويض غيابها، وقد أثبتت التجارب أن الشعوب مهما تعرضت للضغط والإغراء، تبقى محتفظة بمناطق صلبة داخل وعيها لا تُباع ولا تُشترى.

في هذا المقال نحاول أن نضيء على ما لم يستطع المال السياسي شراءه، وما الذي يجعل الشعوب قادرة على مقاومته مهما كانت سطوة المال.

يمكن للمال السياسي أن يشتري الحاجة، وأن يستغل الفقر، لكنه لا يستطيع شراء الضمير، فالناس الذين يملكون وعيًا أخلاقيًا راسخًا، أو ارتباطًا حقيقيًا بوطنهم، لا يبيعون أصواتهم مهما كانت المغريات، وهذه الفئة قد لا تكون الأغلبية الدامغة دائمًا، لكنّها تشكّل القلب النابض لأي عملية تغيير، لأنها تمثل قوة الوعي، قوة القيم، وقوة الإصرار على أن يكون الوطن فوق الأهواء.

والتجارب الديمقراطية تثبت أن هذه الفئة مهما صغرت، قادرة على قلب المعادلات السياسية.

كما ان المال السياسي قد يشتري بعض الأصوات المرتزقة، لكنّه لا يستطيع شراء التحولات الشعبية الكبرى، فتاريخ الشعوب يثبت أن التغيير الحقيقي يحدث عندما تتجاوز الإرادة الجمعية حدود الصفقات الفردية، ففي لحظات معينة، يتجاوز الناس إغراء المال لأنهم يشعرون بأن مستقبلهم أصبح على المحك، وهذه الإرادة لا تُشترى، لأنها نابعة من إحساس جمعي بالحاجة إلى الإصلاح، العدالة، وبوادر الدولة العصرية، ومن هنا تأتي قوة الشعوب في وجه النفوذ المالي مهما كان كبيرًا.

لا يستطيع المال السياسي مهما تعاظم ان يشتري الكفاءات الحقيقية فهي لا تباع ولا تُشترى، قد يشتري المال السياسي وصول بعض الأشخاص إلى المواقع العليا، لكنه لا يستطيع أن يصنع قائدًا حقيقيًا أو كفاءة وطنية من العدم.

فالقائد الذي لا يمتلك رؤية، ولا خبرة، ولا قدرة على إدارة الدولة، لن تتحول حقيبته المالية إلى مشروع سياسي، لأنه يفتقد إلى الشرعية الحقيقية، والقدرة على الإقناع، والإيمان الوطني العميق، والبرنامج السياسي السليم، أما القادة الذين يصنعون الفرق، فهم ثمرة وعي وتجربة وتاريخ، وهذه عناصر لا يمكن شراؤها لا بالدينار ولا حتى بالدولار.

رابعًا: الذاكرة الجمعية للشعوب

ومما لا يخفى على القارئ الفطن، دور الذاكرة الجمعية للشعوب فالمال السياسي قد يشتري اللحظة، لكنه لا يستطيع شراء الذاكرة، فالناخبون يتذكرون من خدمهم ومن خذلهم، من وقف معهم ومن استغلّهم، من عمل لصالح الوطن ومن عمل لصالح نفسه وحزبه فقط.

ولهذا، فإن تأثير المال السياسي غالبًا ما يكون قصير المدى، بينما تأثير الذاكرة الشعبية طويل وعميق، فقد يحقق المال مكاسب مؤقتة، لكنه يعجز عن محو الحقائق من ذاكرة الناخبين الناقدين الناقمين.

وبالتأكيد فالنزاهة هي الاخرى عصية البيع والشراء، فالنزاهة ليست شعارًا ولا إعلانًا، بل ممارسة يومية تتجسد في المرشح أو السياسي، والمال السياسي يمكنه شراء الحضور الإعلامي والدعاية والتثقيف، لكنه لا يستطيع شراء السيرة الطيبة، أو السمعة النظيفة، ولا تاريخ الشخص النزيه في دائرته المهنية أو الاجتماعية، وهذه العناصر حتمًا هي التي تمنح السياسي احترام المجتمع، وهي عناصر لا تُباع ولا تُشترى.

وأخيرًا فالمال السياسي يمكنه التأثير والتغيير، لكنه لا يستطيع قتل الأمل، فالأمل هو أغلى ما يملكه المواطن الناخب الطامح للإصلاح، لأنه يمثل حقه في التغيير، وتطلعه إلى مستقبل أفضل، وإصراره على ألا تكون السياسة مرهونة لمن يملك المال والاعوان فقط، وهذا الأمل هو حجر الأساس لأي نهضة سياسية، وهو ما يجعل المواطن يقاوم كل محاولات الإغراء والشراء.

ختامًا- بالرغم من خطورة المال السياسي وقدرته على تشويه العملية الانتخابية، يبقى عاجزًا أمام أشياء أساسية لا يمكنه شراؤها، أبرزها الضمير، والوعي، والكفاءة، والذاكرة، والنزاهة، والأمل، وهذه العناصر هي التي تبقي العملية السياسية حيّة، وهي التي تجعل الشعوب قادرة على مقاومة كل ما يُحاك ضد إرادتها، فالمال قد يغوي البعض من ضعاف النفوس أو فقراء القوت أو مرتزقة الاصوات، لكنه لا يستطيع شراء الوطن والمواطنة.

فالوطن في النهاية لا يُبنى بالمال، بل يُبنى بالناس الذين لا تُشترى قناعاتهم العصية، ولا تتبدّل مواقفهم الجلية، ولا تُباع أصواتهم المدوية، لأنهم القلة الواعين، النخبة المخلصين.

د. جمانة جاسم الاسدي، عضو ملتقى النبأ للحوار، تدريسية بجامعة كربلاء

ذات صلة

الكتابة والارتقاء بالحياةالعمل المؤسسي في العراق بعد 2003.. مرتكزات التشكيل ومنهج الاختيارمقومات النهضة وعناصر الإصلاح في مشروع الشهيد السيد حسن الشيرازيسيناريوهات صعبة لتشكيل الحكومةالحق في الكرامة والهوية المغلقة