الخلل في الوعي السياسي العام: حين تنفصل السلطة عن الإرادة الشعبية

محمد عبد الجبار الشبوط

2025-12-01 02:22

يشكّل قبول الناس بمشاركة أشخاص غير منتخبين في صنع القرارات العليا للدولة، وقبول ترشيح أشخاص فشلوا في الانتخابات لرئاسة الحكومة، مؤشرًا خطيرًا على خلل بنيوي في الوعي السياسي العام، لا يمكن اختزاله في سوء أداء طبقة سياسية معينة أو في ثغرة قانونية هنا أو هناك، بل هو تعبير عن أزمة أعمق تتعلق بفهم الناس لمعنى الشرعية، ولموقعهم هم بوصفهم مصدر هذه الشرعية، ولمفهوم الدولة الحديثة التي تقوم على الإرادة الحرة للمواطن لا على ما فوقها أو خارجها.

أولًا: انفصال الشرعية عن صناديق الاقتراع

المبدأ البسيط في أي نظام ديمقراطي هو أن السلطة السياسية تستمد شرعيتها من الإرادة العامة كما تتجلى في الانتخابات الحرة النزيهة، وأن من يفوز بثقة الناخبين يتولى الحكم، ومن يخسر يعود إلى المعارضة أو إلى صفوف المجتمع، منتظرًا دورة أخرى أو فرصة أخرى تحتكم فيها الأمة إلى صناديق الاقتراع من جديد، لكن الخلل في الوعي السياسي يجعل هذا المبدأ البسيط قابلًا للتلاعب والتأويل والتجاوز، بحيث يُسمح لأشخاص لم يحصلوا على ثقة الناخبين، أو فشلوا في الانتخابات، أن يتصدروا المشهد من جديد بوصفهم مرشحين لرئاسة الحكومة أو شركاء في اتخاذ القرار، تحت عناوين شتى: التوافق، الضرورة، الظروف الاستثنائية، التوازنات، الاستحقاقات، أو غيرها من المفردات التي تُستخدم لتبرير الانفصال بين الإرادة الشعبية وبين من يمارس السلطة باسمها.

هذا الانفصال لا يحدث دفعة واحدة، بل يتراكم عبر الزمن، ومع كل مرة يتم فيها تمرير شخص غير منتخب إلى موقع القرار، أو القفز على نتائج الانتخابات بترتيبات قد تبدو قانونية من الخارج لكنها تفتقر إلى روح الديمقراطية من الداخل، يتكرس نمط جديد في الوعي: أن الانتخابات مجرد مرحلة شكلية يمكن الالتفاف عليها في لحظة التفاوض السياسي، وأن الشرعية ليست مرتبطة حصريًا بصوت المواطن، بل يمكن استعاضتها بتوازنات القوى أو التدخلات الخارجية أو صفقات النخب أو تفاهمات الغرف المغلقة.

ثانيًا: تهميش دور المواطن وتحويله إلى متفرّج

قبول الناس أن يشارك أشخاص غير منتخبين في اتخاذ القرارات العليا يدل على تراجع الإحساس بكرامة المواطن السياسية؛ أي شعوره بأنه صاحب الحق الأول في اختيار من يحكمه، وصاحب الحق الأول في الاعتراض على من يتصدر المشهد من دون تفويض منه، فحين يتحول المواطن إلى متفرج يراقب ما يحدث من فوقه، دون أن يشعر أن له الحق أو القدرة على الاعتراض، فإن العملية السياسية تفقد معناها الحضاري، وتتحول من فعل جماعي تشاركي إلى لعبة نخب تقرر باسم الناس، وربما ضد مصالحهم.

في هذه الحالة، لا يعود المواطن يرى نفسه فاعلًا في إنتاج السلطة، بل متلقيًا لها، تمامًا كما كان يحدث في النظم التقليدية قبل نشوء الدولة الحديثة؛ حيث تُمنح السلطة من أعلى، لا من أسفل، وتُقبل بوصفها قدرًا مفروضًا لا بوصفها عقدًا اجتماعيًا يمكن مراجعته وتعديله وتجديده، ويتحول صندوق الاقتراع إلى طقس رمزي، لا إلى آلية حقيقية ملزمة تحكم مسار تداول السلطة، وتتحول الانتخابات إلى مناسبة لإعادة توزيع المقاعد ضمن قواعد لعبة مغلقة، لا إلى مناسبة لإعادة إنتاج الشرعية من الجذور.

ثالثًا: ثقافة الزعيم الضرورة والخبير المنقِذ

أحد الجذور العميقة لهذا الخلل هو الإيمان الضمني بفكرة “الزعيم الضرورة” أو “الخبير المنقذ”، أي الاعتقاد بأن هناك أشخاصًا، بحكم تاريخهم أو خلفيتهم أو علاقاتهم أو خبراتهم، يمتلكون حقًا شبه مقدس في أن يتصدروا القرار حتى لو لم يمنحهم الشعب ثقته في صندوق الاقتراع، وفي المقابل، يُنظر إلى الناخبين باعتبارهم غير مؤهلين دائمًا لاختيار الأصلح، أو باعتبارهم مُسيّرين بالعواطف والانتماءات الأولية، ومن ثم يمكن “تصحيح خياراتهم” بعد الانتخابات عبر ترتيبات سياسية تعيد إنتاج النخبة ذاتها في قمة السلطة، ولو من بوابة أخرى.

في ظل هذه الثقافة، يصبح طبيعيًا أن يُقال إن فلانًا “أكبر من الانتخابات”، أو أن “الظروف لا تحتمل المغامرة” بشخص جديد لا ينتمي إلى النخبة القديمة، أو أن “التوازنات الإقليمية والدولية” تفرض اختيار شخص محدد، حتى لو كان قد فشل في الحصول على التفويض الشعبي، ومع تكرار هذا الخطاب يترسخ في وعي الناس أن معيار تولي السلطة ليس هو ثقة المواطن، بل معايير أخرى غامضة لا يمكنهم هم التحكم فيها ولا مساءلتها، فينكفئ الوعي السياسي عن جوهر الديمقراطية، ويتعايش مع وجود شخصيات فوق — أو خارج — منطق الاقتراع.

رابعًا: الخلل المؤسسي كمرآة للخلل في الوعي

لا يمكن تحميل الوعي الشعبي وحده مسؤولية هذا الانحراف؛ فالمؤسسات السياسية والقانونية التي تسمح بمشاركة غير المنتخبين في صنع القرار، أو تفتح الباب أمام ترشيح الفاشلين في الانتخابات لمواقع قيادية، تعكس هي الأخرى مستوىً معينًا من القبول بهذا الواقع، أو مستوى من العجز عن مواجهته، ففي البلدان التي ترسخ فيها.

الوعي الديمقراطي المؤسسي، جرى تطوير نظم دستورية وقانونية واضحة تمنع أو تقيد بشدة تولي المواقع العليا إلا لمن يملك تفويضًا انتخابيًا مباشرًا أو غير مباشر، وتحول دون اتخاذ القرارات المصيرية من قبل أشخاص لا يمتلكون أي صلة تعاقدية مع الشعب.

أما حين تكون القواعد الدستورية والقانونية نفسها فضفاضة، أو خاضعة للتأويل بما يسمح بإعادة تدوير الأشخاص أنفسهم في كل الأدوار، أو حين تُنشأ مراكز قرار موازية وغير خاضعة للمحاسبة، فإن ذلك يشجع على تعميق حالة الازدواجية: انتخابات من جهة، وممارسة فعلية للسلطة خارج منطق الانتخابات من جهة أخرى، وفي هذه الحال، يميل المواطن إلى التكيف مع الواقع القائم بدلًا من مقاومته، ويتكون وعي سياسي مشوّه يعتبر هذا الانفصام أمرًا طبيعيًا، لأن “القانون يسمح بذلك” أو “الدستور لا يمنع ذلك”، مع أن جوهر الديمقراطية أوسع من مجرد نصوص يمكن ليّها، وأعمق من حرفية قوانين يمكن تفسيرها بما يخدم مصالح القوى المتنفذة.

خامسًا: الإعلام والتعليم وإعادة إنتاج الوعي الناقص

يلعب الإعلام والتعليم دورًا حاسمًا في تشكيل وعي الناس بمعنى الشرعية السياسية، فإذا كانت المناهج التعليمية لا ترسخ بوضوح فكرة أن السلطة عقد بين المجتمع والدولة، وأن هذا العقد يتجدد عبر انتخابات حرة، وأن احترام نتائج الانتخابات — بما في ذلك قبول فشل الأشخاص أو القوى في الوصول إلى السلطة — هو شرط أساسي للاستقرار الحضاري، فإن الأجيال الجديدة ستتعلم ديمقراطية منقوصة، تقبل فيها بالشعارات الانتخابية، لكنها لا تربط بين صندوق الاقتراع وبين من يملك حق اتخاذ القرار.

وبالمثل، إذا كان الإعلام يبرر باستمرار صعود شخصيات غير منتخبة أو فاشلة انتخابيًا إلى مواقع القرار، ويقدّم ذلك بوصفه أمرًا طبيعيًا أو حتميًا، فإنه يساهم في تخدير الحس الديمقراطي لدى الناس، ويحرمهم من اللغة النقدية التي يحتاجونها للاعتراض، فبدل أن يُقال: “هذا خرق لروح الديمقراطية”، يُقال: “هذا حل توافقي”، وبدل أن يُقال: “إن تولي شخص غير منتخب لرئاسة الحكومة يهدر مبدأ المسؤولية أمام الشعب”، يُقال: “إن المرحلة تحتاج إلى خبرة خاصة لا تتوفر في الوجوه الجديدة”، ومع تراكم هذه الرسائل، يُعاد تشكيل الوعي السياسي بحيث لا يعود يرى في هذه الوقائع مشكلة أصلًا.

سادسًا: ثقافة المحاصصة والولاءات الأولية

في البيئات التي تهيمن عليها الانتماءات الطائفية أو القومية أو العشائرية أو الحزبية الضيقة، يميل الناس إلى تقييم الشخصيات السياسية لا بناءً على مدى تمثيلها للإرادة العامة، بل بناءً على مدى قربها من “الهويّة الفرعية” التي ينتمون إليها، وفي هذه الحالة، يمكن أن يقبلوا بسهولة أن يتولى شخص غير منتخب موقعًا قياديًا، ما دام من “حصتهم” أو “مكوّنهم”، ويمكن أن يتسامحوا مع ترشيح شخص فشل في الانتخابات لرئاسة الحكومة، ما دام محسوبًا على جماعتهم، حتى لو كان فشله ذاته نتيجة رفض شرائح واسعة من المجتمع له، وهنا يتعرض مفهوم المواطنة لعملية تهميش لصالح مفهوم “الغنيمة السياسية”، ويتعرض معنى الشرعية الوطنية للتآكل لصالح شرعيات فرعية متنازعة.

ثقافة المحاصصة تسمح بخلق مراكز قوة لا تحتاج إلى التفويض الشعبي، بل إلى توزيع الحصص بين القوى المتنفذة، وبذلك يصبح الشخص غير المنتخب ممثلًا لحصّة معينة، لا لكتلة مواطنين اختاروه فعلًا، وهذا ينسجم مع منطق الصفقات بين النخب، لا مع منطق العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع.

سابعًا: النتائج السياسية لاستمرار الخلل

استمرار هذا الخلل في الوعي السياسي لا يمر بلا ثمن؛ فهو يؤدي إلى سلسلة من النتائج الخطيرة على المدى المتوسط والبعيد، منها على سبيل المثال لا الحصر:

1. فقدان الثقة بالعملية الانتخابية: حين يرى المواطن أن نتائج الانتخابات لا تُحترم عمليًا، أو أن الأشخاص الفاشلين في الاقتراع يمكن أن يعودوا من النوافذ بعد خروجهم من الأبواب، يترسخ لديه شعور بأن صوته لا قيمة فعلية له، وأن العملية برمتها لا تعدو كونها مسرحًا شكليًا، وهذا يدفعه إلى العزوف عن المشاركة، ويضعف تمثيل الإرادة الشعبية تدريجيًا.

2. تشوه مبدأ المسؤولية والمحاسبة: من لا يملك تفويضًا شعبيًا، لا يشعر بالضرورة أنه مسؤول أمام المواطنين، ومن يصل إلى السلطة عبر الصفقات لا عبر الصندوق، يتعامل غالبًا مع القوى التي جاءت به إلى الحكم بوصفها مصدر الشرعية الحقيقي، فيخضع لمصالحها أكثر مما يخضع لمصالح المجتمع، وبذلك تُعطَّل آليات المحاسبة الديمقراطية، أو تتحول إلى إجراءات شكلية لا تمس جوهر السلطة.

3. إضعاف مسار الدولة الحضارية الحديثة: الدولة الحضارية الحديثة تقوم على ربط السلطة بالقيم العليا: الحرية، العدالة، المساواة، المسؤولية، الإتقان، الثقة، الإبداع، وغيرها، وحين تنفصل السلطة عن الإرادة الشعبية وعن مبدأ الاختيار الحر، يتعذر عمليًا بناء منظومة قيم حضارية تحكم الفضاء العام؛ لأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تظل مبنية على منطق القوة أو المحاصصة أو النفوذ، لا على

منطق التعاقد الحضاري القائم على الاحترام المتبادل والمساءلة المتبادلة.

ثامنًا: نحو إعادة تأسيس الوعي السياسي على أسس حضارية

معالجة هذا الخلل لا تتم عبر خطاب أخلاقي أو وعظي فقط، بل تحتاج إلى مشروع متكامل لإعادة تأسيس الوعي السياسي على أسس حضارية حديثة، يشارك فيه التعليم والإعلام والنخب الفكرية والقوى السياسية المؤمنة فعلًا بالديمقراطية، ويمكن أن يتضمن هذا المشروع جملة من المسارات، من بينها:

4. ترسيخ مبدأ الربط الحتمي بين الشرعية والانتخاب: يجب أن يُبنى الوعي العام على أن تولي مواقع القرار العليا — وخاصة رئاسة الحكومة أو القيادة التنفيذية — لا يكون إلا عبر تفويض شعبي واضح، مباشر أو غير مباشر، وأن ترشيح شخص فشل في الانتخابات لهذه المواقع هو انتقاص من حق المواطن واعتداء على معنى الاختيار الحر، حتى لو كان ذلك قانونيًا من حيث الشكل.

5. تطوير الثقافة الدستورية لدى المواطنين: من المهم أن يعرف المواطن الفرق بين الشرعية القانونية والشرعية الديمقراطية الحضارية، وأن يدرك أن القواعد القانونية نفسها يمكن أن تكون ناقصة أو مجيرة لصالح نخب معينة، وبالتالي لا ينبغي القبول بأي ممارسة لمجرد أنها “لا تخالف الدستور”، بل ينبغي قياسها دائمًا بميزان القيم: الحرية، العدالة، المساواة، المسؤولية، وأن يُطالب الناس باستمرار بتطوير القواعد الدستورية بما يمنع الالتفاف على إرادتهم.

6. إعادة الاعتبار للمواطنة فوق كل الانتماءات الفرعية: عندما يدرك المواطن أنه مواطن أولًا، وأن صوته متساوٍ مع أصوات الآخرين بغض النظر عن هوياتهم الفرعية، يتراجع وزن المحاصصة لصالح معيار الكفاءة والبرنامج الانتخابي، وحين تتراجع المحاصصة، يتقلص تدريجيًا المجال الذي يسمح بظهور أشخاص غير منتخبين في مراكز القرار بحجة تمثيل هذه الحصّة أو تلك.

7. إشاعة ثقافة الفشل الديمقراطي الإيجابي: أي الاعتراف بأن الفشل في الانتخابات ليس نهاية الدور السياسي للفرد أو الحزب، لكنه يعني ببساطة العودة إلى المجتمع والمعارضة والتحضير لدورة جديدة، وأن القبول بهذا الفشل شرط لبناء حياة سياسية صحية، بينما الإصرار على الوصول إلى السلطة رغم الفشل الانتخابي هو تعبير عن رفض مبدأ التداول واحتقار ضمني لإرادة الناخبين.

8. نقد خطاب “الزعيم الضرورة” و”الخبير المنقذ”: ينبغي تفكيك هذا الخطاب على المستويين الفكري والإعلامي، وبيان أن الدولة الحضارية الحديثة لا تقوم على الأشخاص الاستثنائيين الذين يقفون فوق المجتمع، بل على مؤسسات قوية وقواعد واضحة ومشاركة واسعة من المواطنين، وأن أي “خبرة” أو “كفاءة” لا تكتسب معناها السياسي إلا حين تقترن بثقة الناس واختيارهم الحر.

بهذا المعنى، يمكن القول إن الخلل في الوعي السياسي العام، كما يتجلى في قبول مشاركة غير المنتخبين في اتخاذ القرار وقبول ترشيح الفاشلين انتخابيًا لقيادة السلطة، ليس عرضًا جانبيًا يمكن تجاوزه ببعض الإصلاحات الإجرائية، بل هو أحد العوائق الأساسية أمام انتقال المجتمع إلى مرحلة الدولة الحضارية الحديثة، تلك الدولة التي تجعل من الإنسان الحر، المواطن المسؤول، نقطة البداية في كل شرعية، ومن صندوق الاقتراع التعبير المؤسسي عن هذه الشرعية، ومن قيم الحرية والعدالة والمساواة والمسؤولية الإطار الأخلاقي الناظم للسياسة والسلطة معًا.

ذات صلة

الجُبْن وإعاقة عملية التكامل الإنسانيالأمن الأسري في العصر الرقمي.. تحديات ومخاطرالعودة المستدامة للعراقيين من مخيمي الهول وروج: تقييم السياسات، التحديات، واستراتيجيات الاندماجالإطار التنسيقي ومرشح التسوية.. تكتيك سياسي أم عجز في الحسم؟‏اقتصاد المولات والمجمعات السكنية.. كيف يغتال العراق مستقبله الإنتاجي؟