تداعيات المخالفات الانتخابية على الشرعية السياسية

د. جمانة جاسم الاسدي

2025-12-01 02:13

تُعدّ الانتخابات إحدى الركائز الأساسية في البناء الديمقراطي للدول الحديثة، إذ تمثل الآلية التي تُجسّد من خلالها الإرادة الشعبية، وتُحدد عبرها ملامح السلطة السياسية وتوازناتها، غير أنّ الانتخابات لا تحقق وظيفتها ما لم تُجرَ في بيئة نزيهة خالية من الضغوط والتلاعبات، وعليه فإن أيّ مخالفة انتخابية مهما بدت بسيطة في ظاهرها تؤثر بشكل مباشر على الشرعية السياسية للسلطة المنبثقة عنها، وتنعكس سلباً على استقرار النظام السياسي وثقة المواطنين.

تعتبر الشرعية السياسية هي الحالة التي يتقبل فيها المواطنون السلطة ويتعاملون معها بوصفها سلطة مستحقة وممثّلة لإرادتهم، ويقوم هذا القبول على ثلاثة مرتكزات رئيسة أولها مشروعية الوصول إلى السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة، وثانيها مشروعية ممارسة السلطة وفق الدستور والقانون، وثالثها مشروعية الإنجاز وقدرة الحكومة على تلبية حاجات المجتمع.

يرتكز النظام الدستوري العراقي على مبدأ السيادة للشعب الذي يمارسها عبر الانتخابات الدورية وفق الدستور وبالتالي، فإن أي عملية انتخابية يشوبها التلاعب أو التزوير تُعد انتقاصاً من مبدأ السيادة ذاته، وتُفرغ النص الدستوري من قيمته العملية، وتتباين المخالفات الانتخابية بين مخالفات بسيطة كالدعاية غير المنضبطة، ومخالفات جسيمة كشراء الأصوات، تزوير البطاقات، تهديد الناخبين، استغلال النفوذ، أو التلاعب بالعدّ والفرز.

وتنعكس خطورة هذه المخالفات في كونها تُغيّر إرادة الناخب، وتُعطي فرصاً غير عادلة لمرشحين على حساب آخرين، وتُحوّل العملية الانتخابية من تنافس ديمقراطي إلى سباق نفوذ، تُعرّض النتائج للطعن القضائي، وتُهدد شرعيتها، والقانون الانتخابي العراقي يجرّم العديد من هذه المخالفات، لكن مشكلة التطبيق وضعف الردع تبقى من أكبر التحديات.

تتمثل تداعيات المخالفات الانتخابية على الشرعية السياسية في تآكل الثقة العامة بالنظام السياسية، فالثقة هي الركيزة الأساسية لاستقرار الدولة، وعندما تتكرّر المخالفات الانتخابية، يشعر المواطن بأنه غير ممثَّل وأن صوته لا قيمة له، ما يؤدي إلى عزوف انتخابي متزايد، ازدياد الاحتجاجات، وانعدام الثقة بالمؤسسات المنتخبة، وتشير تجارب ديمقراطيات ناشئة كثيرة إلى أن فقدان الثقة قد يؤدي على المدى الطويل إلى انهيار الشرعية بالكامل، كذلك في إضعاف شرعية البرلمان والحكومة، فالمجالس المنتخبة عبر مخالفات أو شبهات تزوير تُعاني من شرعية ناقصة، فيصبح التشريع محل شكّ وطعن، والرقابة البرلمانية ضعيفة وغير فاعلة، والحكومة المنبثقة عن البرلمان غير قوية، وغير قادرة على تطبيق برنامج إصلاحي وبالتالي، فإن الشرعية السياسية تتضرر من لحظة تشكيل السلطة، مما ينعكس على طبيعة أدائها.

بالإضافة إلى تعميق الانقسامات السياسية وبروز الهويات الفرعية، فحين يشعر فاعلون سياسيون أو اجتماعيون بأنهم خسروا الانتخابات بفعل التلاعب، فإنهم يلجؤون إلى الخطاب الهوياتي، والتشكيك بالدولة، وخلق تحالفات مضادة، وربما الانسحاب من العملية السياسية، هذه التداعيات تُعرّض الوحدة الوطنية للخطر، وتجعل نتائج الانتخابات سبباً للانقسام وليس للاستقرار.

أما تعزيز المال السياسي وإضعاف المنافسة الديمقراطية فهو الاخر من تداعياته الشديدة عبر المخالفات، خصوصاً شراء الأصوات، التي تُسهِم في تكريس نموذج مفاده أن الفوز يتحقق بالمال والنفوذ وليس بالكفاءة والبرامج، ما يؤدي إلى إقصاء الكفاءات والنخب الحقيقية، صعود رجال أعمال أو فاعلين مسلحين إلى السلطة، تحويل البرلمان إلى ساحة نفوذ اقتصادي بدلاً من مؤسسة تشريعية.

المخالفات من شأنها أن تزيد الطعن في النتائج وإعادة إنتاج الأزمات السياسية فكل مخالفة انتخابية تُضاعف احتمالات الطعون أمام القضاء، والتشكيك في النتائج، وتأجيل تشكيل الحكومة، وبالتالي انسداد سياسي، وهذه الأزمات تُضعف شرعية العملية السياسية بكاملها.

مما لا شك فيه ان لهذه التداعيات العديد من الآثار البعيدة المدى على بنية النظام الديمقراطي، مثل تقويض مبدأ التداول السلمي للسلطة، فعندما لا تكون الانتخابات نزيهة، تتحول العملية السياسية إلى تدوير للسلطة بين ذات القوى دون تغيير حقيقي، مما يلغي أهم ركن في الديمقراطية، كذلك تؤدي إلى انحسار المجال العام وتراجع المشاركة السياسية، فالمواطن الذي يفقد الأمل في التغيير يمكن أن ينتقل من العزوف السياسي إلى رفض النظام، وهو ما يشكل تهديداً مباشراً لاستقرار الدولة.

بالإضافة إلى الاسوء من ذلك وهو هشاشة مؤسسات الدولة وتراجع القدرة على صنع السياسات لان البرلمان الضعيف عاجز عن الرقابة، والتشريع الفعلي، وحماية المال العام، وهذه كلها تظهر النتائج في شكل حكومات غير مستدامة وسياسات غير مستقرة.

وعليه نقدم مجموعة من المقترحات لتعزيز الشرعية الانتخابية تتجسد في تجريم شامل وواضح للمخالفات الانتخابية مع عقوبات رادعة، لا مجرد غرامات رمزية، وفي تقوية استقلال المفوضية العليا للانتخابات وتحريرها من الضغوط السياسية، وتعزيز الرقابة الدولية والمحلية وتشجيع منظمات المجتمع المدني على الرصد، واعتماد التكنولوجيا الآمنة في تسجيل الناخبين والعدّ والفرز مع ضوابط لحماية البيانات، وتطوير الثقافة الانتخابية من خلال حملات توعية واسعة، كذلك في مراجعة النظام الانتخابي بما يعزز التمثيل ويحدّ من النفوذ المالي والعشائري.

ختامًا- إن المخالفات الانتخابية لا تقتصر آثارها على تغيير نتائج الانتخابات فحسب، بل تمتد لتشكّل تهديداً مباشراً للشرعية السياسية بكل أبعادها. فالشرعية ليست مجرد إعلان نتائج، بل هي علاقة ثقة بين المواطن والدولة، تقوم على الإيمان بنزاهة الانتخابات وحياد المؤسسات، وفي غياب هذه الثقة، تصبح السلطة ضعيفة والمشاركة السياسية هزيلة، وتتحول الديمقراطية إلى مجرّد واجهة شكلية، وعليه فإن حماية الشرعية السياسية تبدأ من حماية العملية الانتخابية، لأنها نقطة البداية لكل بناء سياسي سليم ومستقر.

د. جمانة جاسم الاسدي، عضو ملتقى النبأ للحوار، تدريسية بجامعة كربلاء

ذات صلة

الجُبْن وإعاقة عملية التكامل الإنسانيالأمن الأسري في العصر الرقمي.. تحديات ومخاطرالعودة المستدامة للعراقيين من مخيمي الهول وروج: تقييم السياسات، التحديات، واستراتيجيات الاندماجالإطار التنسيقي ومرشح التسوية.. تكتيك سياسي أم عجز في الحسم؟‏اقتصاد المولات والمجمعات السكنية.. كيف يغتال العراق مستقبله الإنتاجي؟