مكيافيلي في بغداد: كيف تُدار السلطة خارج المشهد وتُصنع بعيدًا عن صناديق الاقتراع؟

أنور مؤيد الجبوري

2025-11-18 04:16

لو عاد نيكولو مكيافيلي إلى الحياة ووقف على ضفاف دجلة، لوجد أمامه نموذجًا سياسيًا يكاد يكون التجسيد العملي لما كتبه قبل خمسة قرون: سلطة تُبنى على موازين القوة أكثر مما تُبنى على موازين الشرعية، وحكمٌ يتشكّل خلف الواجهة أكثر مما يُصاغ أمام الجمهور، ودولة تتقدّم ديمقراطيًا بالشكل لكنها تتراجع في الجوهر بفعل تعدد مراكز القرار وتشابك القوى، وانشغال الفاعلين بإعادة هندسة السلطة بدل إعادة بناء الدولة. فالعراق، رغم نظامه البرلماني والدستور القائم على التداول السلمي، ما يزال يعيش داخل فلسفة سياسية أخرى: فلسفة الدولة الموزعة، والشرعية المتعددة، والتوازنات التي تُقدَّم كبديل عن القواعد.

وما إن يُقبل المواطن العراقي على صناديق الاقتراع بحثًا عن تغيير، حتى تبدأ اللعبة الحقيقية خارج تلك الصناديق. هنا بالتحديد تتجلى المكيافيلية في أوضح صورها: السلطة لا تُكتسب بمجرد الأصوات، بل بقدرة الفاعلين على حماية نفوذهم، واستثمار تحالفاتهم، واستخدام اللحظة السياسية لتأمين موقع داخل معادلة الحكم. فالفائز في الانتخابات ليس بالضرورة من يحكم، والخاسر ليس بالضرورة من يغادر، لأن هندسة السلطة تُنجز في الكواليس لا في المراكز الانتخابية، وفي اجتماعات “ما بعد النتائج” أكثر مما تُنجز في يوم الاقتراع نفسه.

هذا الواقع ليس جديدًا في العراق. فمنذ أول انتخابات بعد 2003، ترسّخت معادلة واضحة: الديمقراطية تُمارس من خلال الأدوات، لا من خلال الفلسفة. والكتلة الأكبر لا تعكس بالضرورة إرادة الناخب، بل إرادة اللاعبين القادرين على إعادة جمع الأوراق وتشكيل تحالفات تتجاوز نتائج الصناديق. هكذا تُصنع أغلبية سياسية على الورق، لكنها ليست أغلبية تمثيلية، وتُبنى حكومات هدفها الأساسي الحفاظ على توازن القوى، لا ترجمة برامج انتخابية. ومع مرور الوقت، لم تعد العملية السياسية مساحة للتنافس على القيادة، بل مساحة للتفاوض على النفوذ.

وعندما يبدأ تشكيل الحكومة، تتعمق المكيافيلية السياسية أكثر. ففي الديمقراطيات المستقرة، تُشكّل الحكومات وفق منطق الأغلبية البرلمانية وبرامج العمل. أما في العراق، فتتشكّل وفق منطق “الأغلبية الممكنة” لا “الأغلبية الحقيقية”، أي تلك التي تُرضي القوى السياسية أكثر مما تُرضي الناخب. وبدل أن تتنافس الكتل على صياغة مشروع وطني، تتنافس على الوزارات باعتبارها أدوات نفوذ لا أدوات خدمة، وتصبح الحقائب الوزارية امتدادات للكتل داخل الدولة، لا امتدادات للدولة داخل المجتمع. ولأن قواعد اللعبة تُبنى على الطمأنة لا على الأداء، تصبح الحكومة قابلة للاستمرار شكليًا، لكنها عاجزة عن الحكم فعليًا؛ جهاز تنفيذي بواجهات متفقة ونوايا متعارضة، وقرارات تحتاج إلى إجماع القوى قبل أن تحتاج إلى المصلحة العامة.

وتاريخيًا، كان مكيافيلي يدرك أن قوة الأمير لا تُقاس بقدرته على السيطرة بقدر ما تُقاس بقدرته على ضبط مراكز القوة داخل دولته ومنعها من التحول إلى بديل عن سيادته. وفي العراق، تبدو هذه المعادلة منقلبة: الدولة تبحث عن توازن داخل القوى، بدل أن تبحث القوى عن توازن داخل الدولة. وهذه المفارقة تجعل القرار الوطني موزعًا على مراكز عديدة؛ بعضها حزبي، بعضها اقتصادي، وبعضها مسلح، وبعضها مرتبط بامتدادات إقليمية. ومع الوقت، تتحول الدولة إلى مساحة مشتركة بين اللاعبين لا إلى مركز قرار يحتضنهم جميعًا.

ويتعقّد المشهد أكثر حين يدخل العامل الخارجي كجزء ثابت من معادلة الحكم. فالعراق، بما يملكه من وزن جيوسياسي، لا يستطيع الانفصال عن تأثير القوى الإقليمية والدولية التي تنظر إليه كمساحة نفوذ لا كدولة ذات سيادة مكتملة. هذا التأثير لا يُمارس دائمًا بطريقة مباشرة، لكنه يفرض نفسه على شكل “فيتو ناعم” يُمنع عبره مرور بعض الخيارات، أو يُدفع عبره باتجاه خيارات أخرى، أو يُضبط عبره سقف التحالفات وحدود الاستقلال. القوى الخارجية لا تعيّن رئيس حكومة، لكنها تستطيع منع رئيس آخر، ولا تكتب برنامجًا وزاريًا، لكنها ترسم حدود البرنامج القابل للتمرير. وهكذا يجد القرار الوطني نفسه دائمًا بين مطرقة الحسابات الداخلية وسندان التوازنات الخارجية، بين السيادة التي يريدها الداخل والواقع الذي تفرضه الجغرافيا السياسية.

وخلافًا لما قد يبدو للبعض، فإن وجود العامل الخارجي لا يعبّر عن قوة الخارج بقدر ما يعبّر عن هشاشة الداخل. فالدولة التي تمتلك تماسكًا مؤسسيًا لا تحتاج إلى ضامن خارجي، والدولة التي تمتلك آليات حقيقية لإنتاج الاستقرار لا تصبح مسرحًا لتدخلات الآخرين. مكيافيلي كان يكرر دائمًا أن الدولة التي لا تضبط داخلها ستفقد قدرتها على ضبط حدودها. وهذا بالضبط ما يجعل العراق أمام معادلة مكيافيلية واضحة: السيادة لا تُستعاد بالخطاب بل ببناء منظومة سياسية قادرة على حماية نفسها بنفسها.

وفي ظل هذا التعقيد، يصبح خطاب الإصلاح أكثر المفردات حضورًا في السياسة العراقية، لكنه أكثرها غيابًا في التطبيق. الكل يتحدث عن الإصلاح، لكن أحدًا لا يريد الاقتراب من قواعد اللعبة التي تُنتج الخلل. ليس لأن القوى السياسية لا تدرك المشكلة، بل لأنها تدركها جيدًا وتدرك معها أن أي إصلاح حقيقي سيعيد توزيع النفوذ ويقلّص الامتيازات ويُخرج بعض اللاعبين من دائرة التأثير. وهنا تحديدًا يكمن الامتحان المكيافيلي: هل تمتلك الطبقة السياسية القدرة على إصلاح النظام الذي يحميها؟ أم ستنتظر أن يُفرض عليها إصلاح قسري يأتي من الشارع أو من تحول سياسي أكبر من إرادتها؟

الإصلاح في العراق لا يبدأ من تغيير الأشخاص، ولا من تجميل الواجهة السياسية، ولا من إطلاق برامج حكومية تزول مع أول أزمة. الإصلاح يبدأ من إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والكتل، بين المنصب والمصلحة، بين الشرعية والممارسة. يجب أن تتحول الأغلبية السياسية من حالة تفاوضية إلى مفهوم سياسي واضح. يجب أن تتوقف الدولة عن العمل كحاصل جمع للحصص، وأن تتحول مؤسساتها إلى مراكز قرار لا مراكز نفوذ. يجب أن تُفصل إدارة الحكومة عن إدارة الأحزاب، وأن تُعاد البيروقراطية إلى دورها الطبيعي كعمود فقري للدولة لا كمساحة للغنائم. هذه ليست شعارات بل شروط تأسيس جديدة للدولة إذا أرادت أن تنجو من دوامة التكرار السياسي التي تستهلك طاقتها منذ عقدين.

ولأن مكيافيلي كان يصرّ على أن الأنظمة لا تسقط عندما تضعف، بل عندما تفقد القدرة على رؤية ضعفها، فإن العراق اليوم يقف عند لحظة مكيافيلية صافية: لحظة يصبح فيها استمرار النظام السياسي على وضعه الحالي مخاطرة أكبر من تغييره، ولحظة يصبح فيها تأجيل الإصلاح تهديدًا أكبر من كلفته، ولحظة يصبح فيها الاعتراف بالحقيقة شرطًا للبقاء. وهذه الحقيقة واضحة لكل من يريد أن يراها: الدولة لا يمكن أن تُبنى بآليات تُرضي الجميع على حساب وظيفتها، ولا يمكن أن تُدار بمنطق “التوافق الدائم” الذي لم ينتج يومًا استقرارًا دائمًا، ولا يمكن أن تستعيد ثقة المواطن ما لم تستعد ثقتها بنفسها أولًا.

وبينما يتغير العالم من حول العراق، تتغير معه معادلات القوة والمصالح والأولويات، ويبقى النظام السياسي العراقي يكرر إنتاج ذاته كأنه يعيش خارج الزمن السياسي. لكن اللحظة التاريخية لا تنتظر أحدًا، ومعادلات القوة لا تدور حول أحد. ومن لا يبادر إلى تغيير قواعد لعبته، سيجد أن اللعبة تغيره من دون استئذان. وهذا هو درس مكيافيلي الأكبر: السياسة لا ترحم من يتجاهل قوانينها.

العراق اليوم لا يحتاج إلى مزيد من الخطابات السياسية، ولا إلى مزيد من التفاهمات المؤقتة، ولا إلى مزيد من تدوير السلطة داخل المعادلة نفسها. العراق يحتاج إلى مرآة مكيافيلية صادقة، مرآة لا تجامل الطبقة السياسية ولا تخشى غضبها، مرآة تقول الحقيقة كما هي: أن الدولة لا يمكن أن تستمر بصيغتها الحالية دون ثمن، وأن السلطة التي لا تُعاد صياغتها وفق مبدأ الدولة ستجد نفسها يومًا خارج الدولة.

المعادلة واضحة: إمّا أن يختار صانع القرار إصلاح النظام من داخله، أو سيأتي الواقع ليصلحه من خارجه. وفي كلتا الحالتين، لن يكون الغد شبيهًا بالأمس. لكن الفارق يكمن في من يمتلك شجاعة الاعتراف ومن يمتلك شجاعة الفعل.

ذات صلة

هندسة تكليف رئاسة الوزراء في العراق بعد انتخابات 2025مخاطر القوَّة الناعمة في الثقافات الغازيةالتنوير الديني وإعمال العقلالمشهد السياسي العراقي بعد الانتخاباتالدلالة الضمنية في القرآن الكريم.. قراءة في النقد الأدبي الحديث