الدلالة الضمنية في القرآن الكريم.. قراءة في النقد الأدبي الحديث
م.م. سارة علي هادي العبودي
2025-11-18 04:25
المقدمة
تُعدّ الدلالة الضمنية من أبرز المفاهيم التي أثارت اهتمام الدارسين في النقد الأدبي الحديث، لما تمثّله من بُعد خفي في بناء النص الأدبي. فهي تكشف عمّا وراء القول الظاهر، وتفتح المجال أمام تعدد التأويلات والمعاني. فالنص الأدبي لا يُقرأ فقط من خلال ألفاظه الصريحة، بل من خلال ما يوحي به وما يُخفيه من دلالات غير مباشرة تتكوّن عبر البنية اللغوية، والسياق، والتجربة الشعورية للكاتب والمتلقي معًا.
تطور النظر إلى الدلالة الضمنية مع ظهور المناهج النقدية الحديثة كاللسانية، والسيميائية، والتداولية، إذ لم يعد المعنى ثابتًا أو منغلقًا داخل النص، بل أصبح متحرّكًا يتشكّل في ضوء التفاعل بين النص والقارئ والخطاب الثقافي المحيط به. وتعتبر الدلالة الضمنية في هذا السياق جزءًا جوهريًا من عملية التواصل الأدبي، حيث يتجاوز المتلقي المعنى الصريح للوصول إلى الرسائل المضمرة، سواء أكانت فكرية، جمالية أو أخلاقية.
أولاً: الدلالة الضمنية (Implied Meaning) هي المعاني التي لا تُصرّح بها الألفاظ مباشرة، لكنها تُستنتج من خلال القرائن والسياقات ونبرة الخطاب. وتعرف أحيانًا بالمعنى الإيحائي أو المسكوت عنه أو المعنى الموارب.
يرى جون سيرل (John Searle) أنّ الدلالة الضمنية تنشأ من قدرة اللغة على الإيحاء بما يتجاوز ظاهر الكلام، قائلاً: "إن المتكلم لا يقول كل ما يقصد، ولكنه يقصد أكثر مما يقول".
وفي السياق العربي، تناول صلاح فضل هذا المفهوم حين تحدّث عن “الطاقة الإيحائية للنص الأدبي”، مؤكدًا أنّ النص لا يُختزل في معناه المباشر، بل في ما يوحي به من رموز واستعارات وانزياحات لغوية.
تتضمن الدلالة الضمنية دراسة البُنى المختلفة للنصوص الأدبية، من القرائن النصية مثل اختيار اللفظ وترتيب الألفاظ والسياق، إلى القرائن غير النصية مثل الإيماء، الإشارة، ونبرة الصوت. كما أنّ التضمين يعد جزءًا مهمًا في الدلالة الضمنية، حيث يتم إخفاء معنى أو رسالة داخل النص بطريقة لا يفهمها الجميع، ويكون فهمها مرتبطًا بقدرة القارئ على التفسير والتأويل.
ثانياً: الدلالة الضمنية في ضوء النقد الأدبي الحديث: تنوّعت المقاربات النقدية التي درست الدلالة الضمنية، وتباينت في رؤيتها لكيفية تولّد المعنى الخفي في النصوص الأدبية:
1. المقاربة البنيوية والسيميائية: ترى البنيوية أنّ الدلالة الضمنية تتكوّن داخل النظام اللغوي ذاته، أي في العلاقات بين العلامات، وليس خارجها. فالمعنى الخفي ينتج من انزياح اللغة عن معيارها التداولي، مما يجعل النص فضاءً مفتوحًا للتأويل.
وأشار رولان بارت إلى أنّ: "النص شبكة من الإشارات، والمعنى لا يكمن في الكلمة، بل في علاقتها بما يحيطها"
أما السيميائية فتنظر إلى الدلالة الضمنية بوصفها تفاعلًا بين مستويات العلامة: الدال والمدلول والمرجع، بحيث يصبح كل رمز حاملًا لمعنى ظاهر وآخر باطني يتكشف عبر القراءة.
2. المقاربة التداولية: يركّز النقد التداولي على العلاقة بين المتكلم والسياق والمتلقي، إذ لا يُفهم المعنى الضمني إلا ضمن ظرف القول. وقد استفاد النقاد العرب المعاصرون من أفكار غرايس (H. P. Grice) حول "المعنى التضميني" (implicature) القائم على مبدأ التعاون في التواصل، حيث يُستدل على المقصود من خلال ما يُقال وما لا يُقال معًا.
ويؤكد الناقد عبد الملك مرتاض أنّ:
“المعنى في النص الأدبي ليس ما يصرّح به الكاتب، بل ما يُستنبط من مقاصده الإيحائية”.
3. المقاربة الثقافية وما بعد البنيوية: مع التحولات الثقافية لما بعد الحداثة، لم تعد الدلالة الضمنية مجرد وظيفة لغوية، بل أصبحت أداة لكشف البنية العميقة للخطاب، أي ما يخفيه النص من أيديولوجيا أو رؤية للعالم.
في الخطاب الروائي، تُستخدم الإشارات الضمنية لتفكيك السلطة أو التعبير عن الهامش الاجتماعي. وقد أشار إدوارد سعيد إلى أنّ: “المعاني غير المعلنة في النصوص غالبًا ما تُعبّر عن توترات حضارية وثقافية”
الدلالة الضمنية في القرآن الكريم: الدلالة الضمنية في القرآن الكريم هي الوصول إلى المعاني الباطنة في كلام الله عز وجل، وفهم الرسائل الخفية أو المصاحبة في النص الجليل من خلال تفسير وتأويل الأئمة عليهم السلام. فالنص القرآني لا يقتصر على المعاني الظاهرة فحسب، بل يحمل طبقات من المعاني العميقة التي قد لا يلمسها القارئ العادي إلا بالاعتماد على القرائن التي تساعد في كشف هذه البواطن.
يمكن تصنيف هذه القرائن في القرآن الكريم إلى ثلاثة أنواع رئيسية:
1. قرائن المداراة: تتعلق بإظهار الحقائق والباطن على قدر فهم العقول. فالآيات قد تُصاغ بأسلوب يوازن بين البيان والستر، بحيث تصل المعاني العميقة إلى من يستطيع فهمها دون إرباك الآخرين. الهدف من ذلك هو أن تكون الرسائل موجهة للمتلقي المناسب وفق مستوى إدراكه وفهمه.
2. قرائن التقية: ترتبط بكيفية عرض المعنى من قبل الإمام عليه السلام وأتباعه، بحيث يكون البيان مراعيًا للحفاظ على سلامة الرسالة وعدم كشفها بشكل كامل لمن لا يستطيع تقبلها أو التعامل معها. وهذه القرائن تسمح بنقل المفاهيم الحساسة تدريجيًا، بما يحمي النص والرسالة من سوء الفهم أو التحريف.
3. قرائن التكثيف النصي: تهدف إلى إيصال معانٍ متعددة في آية واحدة أو جملة قصيرة. فالقرآن غالبًا ما يستخدم الإيجاز والتكثيف لتضمين معانٍ غنية ومتشابكة في كلمات محدودة، بحيث يحتاج المتلقي إلى التأمل والتدبر للوصول إلى هذه المعاني.
هذه القرائن تجعل فهم الدلالة الضمنية في القرآن عملية تتطلب التدبر والتأمل، والاستعانة بالتفسير المعتبر ونصوص الأئمة عليهم السلام. فهي تساعد على كشف الرسائل الباطنة، وتوضح العلاقة بين الظاهر والباطن في النص الجليل، وتفتح آفاقًا واسعة لفهم الحكمة والعمق القرآني بطريقة تراعي مستوى فهم المتلقي وقدرته على استيعاب المعاني الخفية.
الخاتمة
إنّ الدلالة الضمنية تمثّل جوهر الإبداع الأدبي، لأنها تمنح النص عمقه وجماله، وتفتح أمام المتلقي أفقًا رحبًا للتأويل. وقد أثبت النقد الأدبي الحديث أنّ المعنى في الأدب ليس جاهزًا أو منغلقًا، بل يُبنى في ضوء العلاقة بين النص والقارئ والسياق الثقافي.
وبذلك، يصبح فهم الدلالة الضمنية مفتاحًا لفهم النص الأدبي ذاته، إذ تكمن قيمته في ما لا يُقال بقدر ما يُقال، وفي قدرة النص على إثارة المعنى من وراء الكلمات، سواء في الأدب الشعري أو الروائي، أو حتى النصوص الدينية والثقافية.
الدلالة الضمنية: دراسة للمفهوم المتحصل من النص الأدبي وتأثيره في المتلقي عبر العلاقات والقرائن المختلفة.
بذلك يمكن القول تعد الدلالة الضمنية فرع من فروع علم الدلالة الأدبية والتي نعني بها المفهوم المتحصل اجمالا من النص أو العبارة ولا تتعلق بمفردة واحدة فهي دراسة علم الدلالة وفق الاتجاه الأدبي المعني بالحمولة المعرفية والأدبية للنص والكلام للتأثير في المتلقي ترغيبا وترهيبا وهذا الاتجاه يدرس النص الأدبي من عدة جوانب منها الفنية والذاتية والتعبيرية والجمالية لمعرفة معاني النص الصريحة والضمنية غير الصريحة.