خطاب الصمت في الفضاء الرقمي السائل
د. مظهر محمد صالح
2025-11-05 04:34
(حين يصبح الامتناع عن الكلام فعلًا من أفعال الوعي)
في نصف قرنٍ ونيف من التجربة الانسانية في الفضاء المدني، تعلّمتُ لغةً ربما لا تُدرَّس في الاكاديميات، انها لغة الصمت، محورها رفض فكرة الثبات، وهي اقرب الى لغة المدارس اللابنيوية .فبين نظامٍ قهريٍّ كان يُملي السكوت حفاظًا على البقاء، وآخر فضاء معلوماتي مفتوح (رقميّ) يغرق في فائض الكلام الذي نعيشه اليوم، اكتشفت أن الصمت لا يقل شأنًا عن القول، بل يفوقه عمقًا حين تغيب الحكمة.
انه زمان تتناسل فيه الضوضاء حتى يصير الإصغاء ضربًا من المشقة، ويصبح الصمت موقفًا فلسفيًا لا انسحابًا. وحين تغرق المعرفة في بحر الجهل الناطق، يعود الصمت ليكون بلاغةً مضادّة وملاذًا للمعنى من التبديد. فالصمت حكمةٌ في زمن الكلام المفرط، ولم يكن استسلامًا أمام الضجيج، بل قوة ناعمة ضد الاستهلاك المعرفي.
في عالمٍ تتكاثر فيه الظواهر الصوتية كالعواصف، يتراجع المعنى خلف حائطٍ من الكلمات المكررة والمستهلكة. الكلمة في عصر السرعة باتت عملةً تفقد قيمتها كلما ازدادت طباعتها. ما يراه ميشيل فوكو (Michel Foucault) في منطق (القول) يثير الاهتمام قبل تناول منطق (الصمت)، الا وهو فيلسوف ومؤرخ فرنسي (1926–1984)، ويُعد من أهم مفكري القرن العشرين ومن أبرز رموز الفكر ما بعد البنيوي في فرنسا، كرّس أعماله لتحليل العلاقة بين المعرفة والسلطة والخطاب، وكيف تُنتج المجتمعات أنظمتها الفكرية ومؤسساتها بما يخدم أشكالًا معينة من السيطرة، فيرى في منطق (القول) "ان القول لا يُعرّف بالحقيقة، بل بما يُسمح أن يُقال". وهنا اسميته (شبه الصمت) في فضاء الكلام عند فوكو ، كما اراه…!
وعلى الرغم من ذلك، ففي العالم الرقمي الراهن، انقلبت المعادلة، إذ يُقال كل شيء حتى تضيع الحقيقة، هكذا غدا الصمت نوعًا من الترف الفكري، أو ممارسة للفرز تحفظ للمعنى نُدرته وللحقيقة مقامها، في الفضاء الرقمي.
حين يتكلّم الجهل بثقة العارف، يصبح الصمت أبلغ من أي خطاب. فالجهل اليوم لم يعد صامتًا، بل صار يتكلم، يلبس ثياب المعرفة، يكتب وينشر ويتفاعل، حتى صار له جمهورٌ ومريدون. في هذا الزحام، تتحوّل الحقيقة إلى خبرٍ عابر، ويتحوّل الرأي إلى سلعةٍ في سوق الانتباه. الكل يتكلم، والقليل يفكر.
وهنا، يغدو الصمت أكثر حضورًا، لأنه لا ينافس في السوق، بل ينسحب ليحمي جوهر الفكرة من الابتذال، فالصمت هو الذي يفرّق بين من يريد أن يفهم، ومن يريد أن يُرى فقط . وما أكثر أولئك ، في عصرٍ صار فيه الكلام وسيلةَ حضورٍ لا وسيلةَ فكر.
ففي زمنٍ يُقاس فيه الوجود بضجيج الكلام، يصبح الصمت تمرينًا على الوجود الحقيقي. إنه موقفٌ وجوديٌّ يعيد للإنسان صلته بذاته وسط ضجيج العالم. حين تصمت، لا تهرب من الحوار، بل تعيد تعريفه. تستعيد حقّك في أن تختار متى وأين وكيف تقول الحقيقة، أو تصونها في أعماقك.
هنا يحدثنا زيغمونت باومان (Zygmunt Bauman) وهو فيلسوف وعالم اجتماع بولندي–بريطاني (1925–2017)، ويعد من أبرز مفكري ما بعد الحداثة في أوروبا، وعُرف بمفهومه الشهير «الحداثة السائلة» الذي وصف به تحوّل العالم المعاصر من الثبات إلى السيولة، حيث تنهار الأشكال الاجتماعية والقيمية التقليدية، وتتبدّل المعاني بوتيرة متسارعة تحت ضغط التكنولوجيا والعولمة. مبيناً أن الإنسان في هذا العصر يعيش حالة لايقينٍ دائم، وأن العلاقات والمعرفة والهوية نفسها أصبحت مؤقتة وعابرة.
اذ يصبح (الصمت) لدى باومان شكلًا من أشكال المقاومة والقوة الفكرية في زمنٍ تذوب فيه الحقيقة وسط طوفان الكلام الرقمي وسيولته. انه عصر شبه ”بالحداثة السائلة”، امست المعاني تنزلق كما تنزلق المياه من بين الأصابع، وتصبح مواجهة ذلك الانزلاق (بالصمت) شكلًا من أشكال الثبات ومقاومةً هادئة لانحلال الكلمة في تيارٍ بلا ضفاف.
اذ يأتي تحليل بومان “للحداثة السائلة”، توصيفاً دقيقا للعصر الحديث بعد تفكك الصيغ الاجتماعية والسياسية الثابتة. فالمجتمعات الحديثة لم تعد “صلبة” كما كانت في القرن العشرين (مستقرة، منظمة، ذات قيم واضحة)، بل أصبحت “سائلة تماما .
ففي عالمٍ يغرق اليوم بالمعلومات، يغدو (الصمت) لحظة تفكيرٍ ما بعد معرفي. إنه وعي بالحدود التي تفصل بين المعرفة والثرثرة، بين الفكر والتفاعل اللحظي. الصمت لا يعني الانقطاع، بل التأمل فيما وراء القول، حيث يتكشف الفرق بين أن تعرف و أن تُظهر أنك تعرف. الصمت، بهذا المعنى، ليس فراغًا بل حضورٌ مؤجل. فهو المسافة التي تتيح للعقل أن يرى الصورة كاملة قبل أن يجيب. ومن دون هذه المسافة، يتحول الفكر إلى ردّ فعلٍ آني، ويتحوّل الإنسان إلى ظلٍّ لصدى الآخرين. وحين يكون الصمت فعلًا من أفعال الوعي، لا يمكن رؤيته كعزلة، بل كاختيارٍ للزمن المناسب للقول. فالكلمة التي تولد في غير أوانها تموت قبل أن تُفهم. (الصمت) إذاً ليس انقطاعًا عن العالم، بل إبطاءٌ مقصود لإيقاعه. فالصمت هو إدراك أن الحقيقة لا تحتاج دائمًا إلى صوتٍ مرتفع كي تُسمع، بل إلى وعي صامت يميّزها وسط الضجيج.
وبعد عقود من المراقبة الصامتة، أدركت بنفسي أن الصمت ليس غيابًا عن المعنى، بل حمايةٌ له. وحين يتساوى الفضاء في الجهل الصاخب، يصبح الامتناع عن الرد فعلًا من أفعال الوعي.
ختاماً، يبقى الصمت أصدق اللغات حين تفسد اللغة. ولاسيما فهو الوعي حين تُطفأ المصابيح، والبصيرة حين يعمى البصر بكثرة الأضواء. وحين يعجز الكلام عن حمل الحقيقة، يتكفّل الصمت بحراستها. فالصمت لا يهرب من العالم، بل يصغي إليه بعمق لا تبلغه الكلمات. وحين يغدو الضجيج هو النظام السائد، يكون الصمت فعلًا من أفعال الشجاعة ((كالذئب الصامت))…!! ذلك الفعل الذي لا يُرى، لكنه يغيّر طريقة رؤيتنا للعالم، فلغة الصمت لا تُدرّس، بل تُكتسب من الألم والوعي. انها حالة الصمت… انها بلاغة الغياب. حيث يبقى وراء كل ذئب صامت الف كلب نابح.