صيانة المشاريع العامة واستدامتها: بين الإهمال والرؤية المستقبلية
مصطفى ملا هذال
2025-10-30 03:32
صيانة المشاريع العامة واحدة من أهم ركائز التنمية المستدامة؛ ذلك انها مطلب من مطالب البقاء الحقيقي للبنى التحتية والخدمات العامة في حالة فعالة تخدم المواطن والمجتمع.
لكن ومع الأسف الشديد هذا المفهوم (الصيانة)، تم اختزاله وحصره في الاعمال السطحية التي لا تتعدى عمليات التنظيف أو إصلاح الأعطال الطارئة، في حين أنها في جوهرها عملية تخطيطية دقيقة تتطلب رؤية شاملة وإدارة واعية للموارد.
وأحيانا تكون عمليات الصيانة كردة فعل على التلف الآني او الخروج عن العمل، بينما يجب ان تكون بمثابة نظام استباقي يستند إلى مبدأ الوقاية قبل العلاج، فالمباني الحكومية، بما فيها الجسور وشبكات المياه والكهرباء، وحتى الحدائق العامة، جميعها كيانات حية تحتاج إلى رعاية مستمرة تضمن استدامتها وتمنع انهيارها التدريجي.
والمجتمعات التي تعي هذه الحقيقة تُخصص ميزانيات مستقرة لبرامج الصيانة، وتُنشئ وحدات فنية متخصصة لمتابعة المشروعات بعد إنجازها، في مقابل مجتمعات أخرى تعتبر الصيانة ترفا أو عبئا ماليا يمكن تأجيله إلى أجل غير مسمى.
في العراق على سبيل المثال، يُلاحظ أن العديد من المشاريع التي كلفت الدولة مبالغ ضخمة سرعان ما تتهالك بعد سنوات قليلة من افتتاحها، والسبب لا يكمن في ضعف التنفيذ فحسب، بل في غياب خطة صيانة واضحة منذ مرحلة التصميم.
فحين يُسلم المشروع دون جدول زمني دوري للفحص والإصلاح، ودون نظام لتدريب الكوادر المحلية على التعامل مع الأعطال، يصبح عُرضة للتدهور السريع، وتتحول أمواله إلى خسارة مستمرة.
فهل تحتاج الصيانة الى ركائز أساسية لتكون ناجحة؟
للإجابة على هذا التساؤل نقول، ان الصيانة الناجحة تقوم على ثلاثة أركان رئيسية، وهي التخطيط، والمتابعة، والاستدامة.
فالتخطيط يعني إدراج الصيانة ضمن مراحل المشروع منذ البداية، لا بعد وقوع الأعطال، وهو العنصر الذي تفتقده اغلب المشروعات العراقية، بل ربما تكون عملية الصيانة جزءا من الترف، فطالما يعمل المشروع، فالصيانة ليس في الحسبان ولا في الأولويات.
اما الركن الآخر والذي لا يقل أهمية عن الأول هو المتابعة، اذ يتطلب وجود جهة رقابية تمتلك أدوات القياس والتقييم، بحيث لا يُترك المشروع لمصيره بعد الافتتاح الرسمي.
بينما تتجلى الاستدامة في إشراك المجتمع المحلي في الحفاظ على المرافق العامة، من خلال حملات توعية أو مبادرات تطوعية تزرع الشعور بالمسؤولية الجماعية.
وعلى صعيد الإدارة، يجب أن تتحلى الشخصيات الإدارية بثقافة الصيانة الدورية وليس ممارسة موسمية، تعتمد على قواعد بيانات دقيقة تُسجل فيها حالة كل مشروع، وتُحدث باستمرار، كما ينبغي أن تعتمد المؤسسات الحكومية على التقنيات الحديثة، مثل أنظمة المراقبة الذكية والاستشعار عن بُعد، لرصد التغيرات التي تطرأ على المنشآت قبل أن تتفاقم.
ولعل الجانب الأكثر أهمية هو تغيير النظرة العامة إلى الصيانة، فحين يُنظر إليها كفن متكامل، وليست عملا ثانويا تصبح جزءا من عملية البناء نفسها.
وهذا التحول -إن حصل- في الفكر الإداري يعني أن المهندس والمخطط والممول والجهة المنفذة جميعهم يتحملون مسؤولية مشتركة في ضمان استدامة المشروع، لا في مجرد إنجازه.
باختصار فإن الصيانة ليست عملية فنية فحسب، بل رؤية حضارية تعكس مستوى النضج الإداري والمسؤولية الاجتماعية، ومن دونها تتحول التنمية إلى مجرد واجهة لواقع هش، سرعان ما ينكشف عند أول اختبار.
وفي النهاية، فإن التنمية الحقيقية لا تقف عند إنجاز المشاريع وافتتاحها، بل تمتد إلى ضمان استمراريتها على مر السنين، والتحديات التي نواجهها في صيانة مرافقنا العامة قد تكون تذكيرا مفيدا بأهمية التفكير في مرحلة ما بعد الافتتاح، وبضرورة وضع خطط صيانة واضحة ومستدامة لكل مشروع.