الديمقراطية بين عقلنة السياسة والانتخابات الغرائزية
مرتضى معاش
2025-10-28 04:09
هناك تناقض بين السياسة والحرب، فالسياسة هي تعبير عن إدارة المصالح والحقوق والحريات، أمّا الحرب، فهي ليست سياسة، بل تدمير للسياسة، فالحرب تعبير عن الانفعالات والصراعات والصدامات، والتناقض بينهما تناقض بين العقل والغريزة، فكلما يرتفع مستوى التعقل عند الانسان تصبح قدرته على تقبل وتطبيق الديمقراطية بشكل أوسع.
فالسياسة تعبّر عن عقل الإنسان في إدارة شؤونه، وإيصال المجتمعات إلى الأمان والاستقرار والسلام، بينما الحرب تعبّر عن غريزة الإنسان المنفلتة عن العقلانية التي تقوده نحو الصراع والعنف وتلبية العواطف المتغيرة والانفعالات الهائجة.
ومن هنا يظهر التناقض بين العقل والغريزة، أي بين السياسة والحرب. فكلّما ارتفع مستوى التعقّل عند الإنسان، زادت قدرته على إدارة السياسة بالعقل والحكمة، وكلّما انخفض هذا المستوى، اتجه نحو الصراع والدمار.
ولهذا نرى أنّ الأنظمة الديمقراطية تعيش في بيئة أكثر أمنًا واستقرارًا، لأنها تقوم على عقلنة السياسة، بينما الأنظمة التي تفتقد إلى هذا التعقّل، تسقط في التصارع والتحارب والاستبداد، فالديمقراطية المؤطرة في اطار التنافس والتعددية والتداول السلمي للسلطة وفصل السلطات، هي الاقدر على تحقيق الامن والاستقرار والسلم الاجتماعي، اما الانظمة التي لا تمتلك تعقل ديمقراطي ستذهب نحو اشعال النزاعات والحروب والاستبداد وتدمير السلم الاجتماعي.
عقلنة السياسة
لذا جاءت الديمقراطية كطريق من اجل عقلنة السياسة وتأطير التنافس في اطار التعاون، والتعدد في إطار النظام، وعدم تحولها الى تصارع وتصادم، او استخدام الغلبة وقوة السلاح والمال السياسي والسيطرة للهيمنة على الآخر المعارض او المنافس، فعملية التنافس السليم وتكافؤ الفرص عملية ايجابية من اجل تحقيق الهدف السياسي في بناء الاستقرار.
فالديمقراطية، في جوهرها، هي نظام لعقلنة السياسة، أي جعلها وسيلة لإدارة الخلاف لا لتفجيره، ومنعها من التحول إلى صراع قهري قد يؤدي الى حروب اهلية.
التنافس السليم وتكافؤ الفرص عنصران أساسيان في تحقيق أهداف السياسة، أما أيّ خروج عن التنافس والتعددية السلمية، فيؤدي إلى هيمنة طرف على آخر، وما يتبع ذلك من انهيارات وصراعات صفرية داخل المجتمع.
فالحروب الأهلية، على سبيل المثال، تنشأ من محاولة طرف احتكار العملية السياسية، سواء أكان ذلك بشكل علني عبر انقلاب عسكري، أو بشكل خفيّ عبر التلاعب بالدستور والقوانين. وفي الحالتين، تكون النتيجة واحدة: فقدان السياسة العاقلة ومخرجاتها السليمة، أي التداول السلمي للسلطة، الذي يضمن التنافس الحقيقي والتعددية الرشيدة.
الصراع الصفري بين السلطة والمعارضة
اما الانظمة السياسية غير العقلانية فيكون تحاورها في ادنى مستوياته، ويكون قريب جدا من الصراع الصفري الذي تنعدم فيه لغة الحوار والتفاهم، ان العملية السياسية العراقية تعد اليوم فاقدة لحوار حقيقي فيما بين المجموعات بأشكالها المختلفة، وهذا الغياب للحوار يشمل الطرفين: السلطة والمعارضة. فالسلطة الحاكمة تمارس احتكارًا واستئثارًا بالسلطة، والمعارضة بدورها صفرية التفكير، لا تسعى إلى بناء إطار ديمقراطي حقيقي، بل تكتفي بمحاولة إسقاط السلطة دون تقديم بدائل. ولهذا تفشل المعارضة في تحقيق التداول السلمي للسلطة.
ونتيجة لفشل الحوار تبرز هنالك نوع من حالة الشعبوية والطائفية باستثمارها من اجل الغلبة على الطرف الاخر بتحشيد العواطف والانفعالات، وسط غياب واضح للمعارضة الحقيقية التي يكون دورها فعالا وجوهريا في عملية بناء الاطار الديمقراطي، ولذلك لا تصل الى ذلك الهدف المطلوب في التغيير والاصلاح بسبب سيطرة الكتل التقليدية المهيمنة على مفاصل الدولة، لذا نلاحظ صياغة قوانين وآليات ونظم حسب مقاسات مصالحهم مثل قانون الانتخابات، فالأحزاب تريد السلطة مطلقا وترفض فكرة التنازل عن السلطة، والمعارضة أيضا تريد اسقاط الاحزاب الحاكمة بكافة اشكالها.
ديمقراطية شعبوية هشة
والشعب من جهته لا يفكر بالديمقراطية كأمن اجتماعي مستدام بل يريد فحسب ان يحصل فقط على الامن الاقتصادي بأية وسيلة كانت حتى لو كان النظام استبداديا، لذلك تحاول القوى المهيمنة كسب الولاء الشعبي بتلبية الحالة الشعبية آنيا وشكليا لإسقاط المعارضة والاستفراد بالسلطة، ليتسبب ذلك بعملية استنزاف الموارد واستهلاك الموازنات دون التفكير في العواقب المستقبلية.
لذلك فإن تصاعد الشعبويات هي نتيجة تحول النظام الديمقراطي من نظام بنيوي عميق الى ديمقراطية شعبوية هشة قائمة على تلبية رغبات المواطنين والناخبين وغرائزهم وحاجاتهم المستعجلة على حساب المستقبل، فالناس يريدون الإشباع الفوري مهما كان الثمن، ولو على حساب المستقبل والبيئة والأجيال القادمة، حتى يأتي يوم ويجدوا أوطانهم على حافة الهاوية. فقد تحوّلت الديمقراطية إلى مجرد ديمقراطية شعبوية قائمة على تلبية رغبات الناس وغرائزهم، لا على حكمة الإدارة وبناء المستقبل.
العدالة الانتخابية
ومن النقاط السلبية عدم الشعور بالعدالة الانتخابية، فبقاء نفس الكتل الحاكمة وعودتها مرة اخرى للسلطة تجعل الشعب يفقد ثقته بنزاهة الانتخابات وجدوائيتها في الإصلاح والتغيير ووجود تداول سلمي للسلطة، فيصبح عند الشعب الامر سيان سواء كان نظام ديمقراطيا شكليا او نظام استبداديا، ما دام لا يوجد فرق بين النظامين في المدخلات والمخرجات، لان الشعب ما يزال يشعر بالظلم ويشهد حالة تغييب العقلاء والخبراء من العلماء والمفكرين والمثقفين وتهميش المراكز البحثية ومنظمات المجتمع المدني، وهذا التغييب الاعمى والمتهور يؤدي الى ازدياد حالة الجهل والجهالة والتجهيل، وكلما تزداد حالة الجهل تزداد المخاطر الكبيرة من الاستبداد والفساد والترهيب والعسكرة بما يؤدي الى تضخم الكتل السياسية المهيمنة في اساليبها السيئة لضمان بقائها في السلطة.
الديمقراطية البنيوية
لذلك لايمكن الاعتماد على السلطة لتحقيق الديمقراطية البنيوية، ولكن يمكن للمراكز والمنظمات المستقلة ان تسلط الضوء على مخاطر المستقبل، والتعريف بإيجابيات وسلبيات الانظمة السياسية سواء الديمقراطية كانت او الاستبدادية الشمولية من خلال تحليل التجارب التاريخية، كما حصل للشعب التونسي الذي ضحى بالديمقراطية من اجل التخلص من الفقر ولكنه استبدل الفقر بشيء افقر منه، وصار هنالك نظام استبدادي يتجه نحو الشمولية بسبب تحكم نخبة مسيطرة مهيمنة على الاقتصاد.
وايضا للمراكز البحثية دور مهم في ذلك من خلال التركيز على الثقافة الديمقراطية وحوار النخب الايجابي القائم على حسن الاستماع، الذي يضع الانسان في حالة فهم (ماذا يريد، وماذا سيحصل، وماذا سيحقق من الأهداف)، وايضا رفع المستوى الثقافي وتكثيف العمل التثقيفي عند الناس، فـ العمل الثقافي هو الأساس في بناء الوعي الديمقراطي الحقيقي، وهو الطريق لتجذير الديمقراطية كقيمة ووعي، لا كشعار.
والابتعاد عن الصراع الصفري والاساليب الصفرية في التنافس، لأن إدارة الصراعات بأسلوب التنافس الإيجابي هو الاساس لعملية بناء الديمقراطية الحقيقية، فالابتعاد عن الشعبوية المتطرفة التي تمارسها بعض النخب لإثبات وجودها، ضرورة قصوى، لأنّ هذه الشعبوية خطر داهم، ولا بدّ من مواجهتها بالتثقيف والتنوير، دون انتظار مردود مادي أو سياسي، بل بدافع الواجب والمسؤولية تجاه المستقبل والمجتمع.