تركيا وإيران وتقلبات أحوال المنطقة

عبد الامير المجر

2025-10-25 04:16

حدثان بارزان شهدتهما منطقتنا منذ قرن واكثر وغيرا وجهها إلى اليوم. من الضروري جدا أن نعرفهما جميعا ونقرأ تداعياتهما الاستراتيجية، لكي نعرف خلفية ما يحصل لنا اليوم. لا شك أن هناك احداثا كبرى اخرى وقعت مطلع القرن الماضي، وتداعياتها مستمرة بيننا إلى اليوم ايضا، لكننا بصدد الحدثين اللذين سنتوقف عندهما بشكل سريع لندخل في حاضرنا الملتهب، لان كلا من إيران وتركيا باتتا معنيتين بهذا الحاضر كثيرا ومؤثرتين فيه بشكل كبير، لاسيما في العقود الاخيرة.

في شباط من العام 1921 شهدت ايران (بلاد فارس) وقتذاك، انقلابا عسكريا اطاح حكومة (فتح الله خان اكبر) رئيس الوزراء في العهد القاجاري. الانقلاب قاده عسكريا الجنرال رضان خان، بالتعاون مع شخصية مدنية مرموقة وقتذاك، هو المثقف والصحفي ضياء الدين طبطبائي الذي أصبح رئيسا للوزراء، فيما بات رضا خان القائد العام للقوات المسلحة.

 لم يمض على الانقلاب سوى بضعة شهور حتى دب الخلاف بين الرجلين، لان رضا خان كان يخطط ليكون امبراطورا، فعمل على اقامة نظام مركزي ليمهد طريقه إلى العرش، فيما كان طبطبائي، يريد اقامة اصلاحات مدنية، فقدم الاخير استقالته وغادر أو هرب إلى العراق ولم يعد اليها الّا بعد الاطاحة برضا بهلوي الذي بات امبراطورا لإيران في العام 1925، حيث اجتاحت قوات (الحلفاء) السوفييت والبريطانيين خلال الحملة الشهيرة على ايران في العام1941 اثناء الحرب العالمية الثانية بسبب تقارب بهلوي مع المانيا النازية. 

لكن السبب الرئيس الذي اسقط طبطبائي، ظل غير معروف للكثيرين، فالرجل الذي وجد البلاد وقتذاك واهنة اقتصاديا وتكاد تكون مفككة بسبب التدخلات الخارجية التي لامجال لذكرها الان، أراد أن يرمم وضعها، وكان هناك خطر يتهدد وحدتها بسبب الحرب الاهلية السوفييتية، بين حكومة البلاشفة (الشيوعيين) وبين البيض (الاشتراكيين الديمقراطيين)، التي جعلت شمالي ايران وقتذاك ميدانا لمناورات عسكرية يستخدمها البيض المدعومين من بريطانيا والغرب ضد البلاشفة، فعقد طبطبائي اتفاقية مع حكومة البلاشفة يتعهد خلالها بمنع البيض من استخدام الاراضي الايرانية، مقابل حصوله على دعم اقتصادي وغيره، كانت ايران بحاجة اليه، ولكنه من حيث يدري أو لا يدري أغضب الغرب في مرحلة حاسمة بالنسبة لهم، ليجد المنفى مكانا له، وكان بإمكانه ان يكون براغماتيا ويتفاهم مع البريطانيين المنتصرين في الحرب والذين بيدهم مع الفرنسيين القرار الدولي حينذاك، ليعالج مشكلات بلاده.

شيء جدير بالذكر هو ان هناك مشكلة خطيرة في بلاده تمثلت بقيام حكومة شيوعية في منطقة جيلان المطلة على بحر قزوين شمالي ايران، وانتهت هذه الحكومة (المتمردة) بعد توقيع الاتفاقية مع البلاشفة وعادت المنطقة لسيطرة الدولة، أي أن طبطبائي تعامل بموضوعية مع المشكلات ولم يكن براغماتيا أو يقرأ خارطة التوازنات الدولية المؤثرة وقتذاك ليتجنب ردود الفعل.

قريبا من ايران كانت تركيا (الدولة العثمانية) تشهد وضعا صعبا جدا، اذ الزمتها معاهدة سيفر العام 1920 بان تقام في جنوبيها دولتان، (كردية وارمنية)، وقد كلّف السلطان العثماني (محمد السادس) الجنرال اتاتورك ليهيكل القوات العسكرية هناك ويهيئ الامور لتنفيذ المعاهدة التي رآها اتاتورك مجحفة بحق بلاده المهزومة في الحرب العالمية الاولى، فلم ينفذ امر السلطان فقط، وانما تمرد عليه واقام (الحركة الوطنية) في جنوبي البلاد وحشد لها جماهيريا ونخبويا، وقاد حملة عسكرية اخذت تسقط المدن التركية واحدة تلو الاخرى ليصل العاصمة استانبول (الاستانة) وينهي عهد الخلافة ويبدأ عهدٌ جديدٌ دخله الاتراك فعليا منذ العام 1923 باسم (جمهورية تركيا) وانتهى عهد الخلافة أو السلطنة رسميا في العام 1924.

كانت المخابرات البريطانية والفرنسية تراقب بدهشة انتصارات اتاتورك وقد عرفت انها كانت بدعم من (روسيا القيصرية) التي باتت بعد ثورة اكتوبر تعرف بـ (الاتحاد السوفييتي)، وروسيا التي خسرت الحرب ظلت في داخلها نقمة، ضاعفها امل عند القيادة السوفييتية الجديدة في ضم تركيا لمحورهم بعد أن يحولها اتاتورك إلى دولة علمانية، ولكونها المفتاح الجيوسياسي نحو الشرق وقتذاك. اتصل الفرنسيون والبريطانيون بأتاتورك وطلبوا منه ان يعرض طلباته عليهم، وكم كانت بالنسبة لهم سهلة وغير مكلفة، قياسا بما سيحصلون عليه خدمة لمشروعهم في الشرق الاوسط! 

لقد كانت شروط اتاتورك هي تعديل (معاهدة سيفر) وإلغاء قيام الدولتين (الكردية والارمنية) في جنوبي تركيا، وهكذا جاءت (معاهدة لوزان الثالثة)، التي انهت هذا المشروع الذي دفعنا ثمنه غاليا فيما بعد، حيث استثمرت كل من بريطانيا وفرنسا رغبة الكرد في اقامة دولتهم المستقلة، وجعلت جهدهم المسلح في سياق مشاريع اخذتنا جميعا عربا وكردا وفرسا واتراكا إلى كوارث كان من الممكن ان لا تحصل. 

لقد شهدت منطقتنا في العقود الاخيرة حفلة دموية مرعبة، كان رأس النفيضة المفتعلة فيها هو (الاسلام السياسي)، لا سيما التكفيري منه، وقد دفعت خلخلة الاوضاع في اكثر من بلد عربي كل من ايران وتركيا للعمل على ايجاد مناطق نفوذ لهما في هذه البلدان، وعلى الرغم من ان دخول تركيا (الاخوانية) جاء متأخرا نسبيا قياسا إلى ايران. 

لكنه كان مؤثرا وفي اكثر من بلد، ابرزها سوريا ومصر وليبيا، الّا انها ظلت تتعامل بحذر وتنفتح في الوقت نفسه على اميركا والغرب وكذلك لها علاقة طبيعية مع اسرائيل، لتحصل في النتيجة على شيء من الكعكة التي منّت نفسها بالحصول عليها بعد ادراكها أن اللعبة كبيرة جدا وان عليها ان لا تندفع كثيرا بما يجعلها في تصادم مع اميركا والغرب، وايضا لتبدو وكأنها تعمل كفاعل عسكري في سياق المشروع الاميركي في المنطقة ووسيط سياسي ايضا! 

وقد اعطت هذه المهمة المركّبة لتركيا دورا أكثر تاثيرا وجعلها حليفا غير معلن مع الاميركان والغرب، لينتهي المشهد بجلوس اردوغان إلى جانب الرئيس الاميركي ترامب في حفل توقيع اتفاق انهاء حرب غزة في (شرم الشيخ) بوصفها عنصرا فاعلا في تحقيقه إلى جانب مصر وقطر! وكان هذا كله على حساب مشروع ايران التي وجدت نفسها في مواجهة استراتيجية صعبة ومكشوفة. ربما لم تكن تتصور أن الامور تصل اليها، كونها انطلقت من رؤية عقائدية اسست لها محورا واسعا، ظن كثيرون أن من الصعب تفكيكه، ولعلها ما زالت إلى اليوم تتحدث بهذه اللغة التي يرى اغلب المحللين ان فيها جنبة تصادمية، كان اتاتورك قد تجنبها من قبل ليحولها إلى فرصة لبلاده، بينما كان طبطبائي وان كانت رؤيته صحيحة لكنها لم تراع لعبة التوازنات الدولية حينذاك فدفعته إلى مواجهة كان ثمنها باهظا! ويبقى التاريخ دروسا وعبرا.

ذات صلة

كيف تغير نفسك نحو الأفضل.. وكيف تسيطر على اعصابك؟الانتخابات القادمة وجدل المشاركة والمقاطعةأدباء البلاط ظاهرة متجددة واستثناءات فريدةألا تعد الأموال المتحصلة بالكسب غير المشروع سوء سلوك؟هشاشة السلام العالمي وارتباطه بالرفاهية النفسية والصحة العاطفية