البنادق مقابل اللوبستر البحري
مقاربة في الاقتصاد السياسي لما بعد الاستعمار في إفريقيا الجنوبية
د. مظهر محمد صالح
2025-10-02 01:27
في عالم الصراعات، كثيرًا ما تتجسد المعادلات القاسية في صور رمزية تختزل مسارات التاريخ. فحين التقيتُ رجلًا من موزمبيق على شاطئ المحيط الهندي في سبعينيات القرن الماضي وبعد سنوات قليلة من استقلال بلاده، كان حديثه عن وطنه وهو يختصر مأساة بلدان الجنوب الأفريقي التي خرجت من الاستعمار مثقلة بالجراح.
لقد لخّص معادلته الوجودية بكلمات بسيطة “حصلنا على البنادق مقابل أن نخسر غذاءنا من البحر”. هذه المقولة تعكس جوهر التحولات السياسية والاقتصادية في إفريقيا خلال حقبة الحرب الباردة، حيث لم يكن التحرر الوطني نهاية الصراع، بل بداية معركة جديدة بين الاستنزاف الخارجي والتفكك الداخلي.
إرث الاستعمار والاستنزاف البنيوي
فالاستعمار البرتغالي، شأنه شأن القوى الاستعمارية الأخرى، لم يترك لموزمبيق بعد رحيله سوى فراغ اقتصادي ومجتمع مفكك. فقد جُردت البلاد من البنية التحتية، وافتقرت حتى إلى الحرفيين البسطاء. إن هذه الحالة تمثل مثالًا على “الاستعمار المفرغ”، حيث يتم نقل المهارات والموارد إلى المركز وترك الأطراف عاجزة عن النهوض الذاتي.
الحرب الباردة ومعادلة البنادق مقابل الغذاء
ومع ظهور التهديدات من الجماعات المدعومة من نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، لم يكن أمام موزمبيق إلا الارتماء في أحضان الاتحاد السوفييتي ، إلا أن المساعدة لم تكن مجانية..
حيث حصلت البلاد على البنادق لتأسيس الجيش الوطني.
ولكن في المقابل، مُنحت السفن السوفييتية حق استغلال ثروة البحر من السرطان البحري (اللوبستر) كرهْنٍ للمساعدة العسكرية في خليج موزمبيقية الاستراتيجي.
هذه المقايضة تختزل طبيعة الحرب الباردة في إفريقيا الأمن مقابل الاقتصاد، والبنادق مقابل الغذاء .
الثروة المزدوجة المستنزفة: الكاجو والبحر
وفي الوقت نفسه، تعرضت ثروة الكاجو، أحد أعمدة الاقتصاد الزراعي للتدمير من قبل العصابات المرتبطة بالقوى العنصرية البيضاء التي كانت تتحرك من بريتوريا العنصرية وقتها . وهكذا وجدت موزمبيق نفسها أمام مأساة مزدوجة:
• على اليابسة: خراب محاصيل الكاجو.
• في البحر: استنزاف السرطان البحري.
وبذلك، ضاع غذاء الشعب بين “العدو” الذي يدمّر، و”الصديق” الذي يستنزف، في نموذج يعكس مأساة دول الجنوب الأفريقي التي لم تجد في الحرب الباردة إلا صراعًا على مواردها.
من منطق الحرب إلى منطق المصالحة
انتهت الحرب الأهلية في موزمبيق، ورحل الزعيم سامورا ميشيل في حادث مأساوي ، بينما شهدت المنطقة تحولات كبرى بزوال نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وكان مشهد زواج الزعيم الافريقي نيلسون مانديلا من أرملة سامورا ميشيل أكثر من واقعة شخصية ، اذ كان رمزًا لتحول العلاقة من مقايضات القوة والموارد إلى تلاقي إنساني قائم على المصالحة والحب..! يوم تزوج نيسلون مانديلا من غراسا ماشيل ، ارملة الزعيم الموزمبيقي الراحل سامورا ميشيل ، في 18 تموز 1998 ، وذلك في عيد ميلاده الثمانين.
الخاتمة
إن حكاية “البنادق مقابل السرطان البحري” ليست مجرد واقعة موزمبيقية، بل نموذج لفهم العلاقة غير المتكافئة بين دول الجنوب وقوى الحرب الباردة. فهي تكشف أن الاستقلال السياسي، لا يعني بالضرورة الاستقلال الاقتصادي، وأن الثروات الطبيعية قد تتحول من مورد للسيادة إلى رهينة للهيمنة.
وفي المقابل، يقدّم التاريخ درسًا آخر: أن التحولات الكبرى نحو السلم والاستقرار تحتاج إلى مصالحات إنسانية عميقة، لا إلى مقايضات ظرفية بين البنادق والموارد.