ممر داود: بين أسطورة التوراة وصراع الغاز والفراغ السوري
مهيمن الأغا
2025-10-01 05:20
في قلب الشرق الأوسط، حيث يلتقي الخطاب المقدس بتضاريس المصالح، تبرز مشاريع لا تقف عند حدود الجغرافيا التقليدية، بل تعيد رسمها وفق رؤى لاهوتية وواقعية في آن. هكذا يطل علينا “ممر داود” كمفهوم يتجاوز مجرد خط على الخريطة، ليغدو تعبيراً عن تحولات عميقة في الاستراتيجيات الإسرائيلية، وصدى لمعارك جديدة تُدار فوق رقعة شطرنج إقليمية متحركة.
لم تعد الحدود هنا مجرّد خطوط فاصلة بين دول، بل صارت أدوات بيد قوى تبحث عن إعادة تعريف النفوذ، وتسيير دفة الاقتصاد والسياسة وفق خرائط تتبدل مع كل موجة تغير إقليمي أو دولي. وبين الطموح الإسرائيلي، والانكشاف السوري، وتوجسات الجوار العربي، يتشكل “ممر داوود” كعنوان لعصر جديد من الصراع الناعم على الجغرافيا والعقول.
أولاًـ “ممر داوود” من خيال العهد القديم إلى واقعية المصالح:
1- الأسطورة التوراتية: حين تعانق الجغرافيا الميثولوجيا يستمد المشروع اسمه من إرث توراتي عن “مملكة داوود الكبرى” الممتدة من النيل إلى الفرات، وهي فكرة وظّفت مراراً في الأدبيات الصهيونية كدافع نفسي وسياسي، وأعاد إحياؤها قادة إسرائيليون معاصرون كمنطلق لرسم حدود طموحهم الإقليمي. هنا، تتحول النبوءة إلى منصة للضغط السياسي، وتغدو الجغرافيا مسرحاً لتجسيد الأحلام القديمة في ثوب استراتيجي حديث.
2- الممر كأداة جيوسياسية واقتصادية: في صيغته المعاصرة، يتجاوز “ممر داود” كونه مجرد شريان بري أو لوجستي، إنه مشروع متشعب يربط البحر الأحمر بالمتوسط عبر إيلات والأراضي الأردنية أو السورية، ويستهدف: تكامل جغرافي يوسع الفضاء الحيوي الإسرائيلي. هيمنة على الطاقة بربط خطوط الغاز والكهرباء من الخليج لأوروبا. إعادة تشكيل النفوذ لمواجهة التغلغل الإيراني وتقييد حزب الله.
الجغرافيا هنا لم تعد قدراً، بل أداة ضغط وبراغماتية في يد من يعرف استثمار الفجوات على الأرض.
ثانياًـ سوريا - من خاصرة رخوة إلى معبر استراتيجي:
1- سوريا كمساحة فراغ وتطويع: مع الانهاك الذي أصاب سوريا بفعل الحرب الأهلية وتقاطع التدخلات الدولية، باتت أراضيها مرشحة لتكون الممر الأقل مقاومة للمشاريع العابرة للحدود. لم تعد المعركة حول إسقاط النظام أو ترسيخه فقط، بل حول توظيف الجغرافيا السورية كمسار آمن لإسرائيل، بعيداً عن ضوضاء المواجهة المباشرة.
2- سيناريو الفدرلة: تفكيك المركزية لصالح الممرات: يُطرح سيناريو “الممر الآمن” الممتد من الجنوب السوري حتى الساحل (اللاذقية أو طرطوس)، عبر: إعادة صياغة الإدارة المحلية بفدرلة المناطق المحاذية للممر وإبعادها عن سلطة دمشق المركزية. توظيف الأقليات، خصوصاً الدروز والعلويين، لبناء ولاءات محلية تضمن أمن الممر. تغليف الهيمنة الاقتصادية بمشاريع مثل “خط الغاز العربي”، ليصبح الاقتصاد غطاءً للتمكين السياسي.
هكذا تُحوّل سوريا من لاعب إلى ممر، وتغدو الجغرافيا ميداناً لتصفية الحسابات الإقليمية.
ثالثاًـ الجوار السوري - بين القلق والمكاسب المُحتملة:
1- لبنان: خطر التهميش والحصار: لبنان يرى في “ممر داود” تهديداً مزدوجاً: اقتصادياً: تراجع مكانة موانئه لصالح مرافئ تسيطر عليها إسرائيل أو دمشق الجديدة. أمنياً: احتمال تطويق حزب الله وتقليص قدراته المناوراتية.
2. الأردن: بين بوابة الترانزيت وشبح التغيير الديموغرافي: فرصة اقتصادية: لتحويله إلى محور عبور إقليمي. هاجس أمني وديموغرافي: خشية استنزاف النسيج السكاني أو فرض وقائع جديدة بتوطين اللاجئين الفلسطينيين.
3- العراق: ساحة تنازع الممرات: الصراع مع المشروع الإيراني: إسرائيل تسعى لتعطيل ممر طهران–بغداد–الشام. الخوف من تحوّله إلى ساحة صدام جديد بين محورين متنافسين.
4- تركيا: بين الغاز وأحلام النفوذ: تخشى تراجع دورها في الشمال السوري ومشاريع الغاز المتوسطية. تعتبر الممر الإسرائيلي تهديداً لمعادلات القوة الإقليمية التي سعت لترسيخها.
رابعاًـ جدلية النجاح - عقبات الإرادة وتحديات الواقع: 1- الإرادة الدولية: مصالح متداخلة وضغوط متضادة. واشنطن: بين دعم أمن إسرائيل وتجنب تفجر جديد في سوريا. موسكو: توازن بين الحفاظ على نفوذها في الساحل السوري ومنع الوجود الإسرائيلي المباشر على المتوسط.
2- الداخل السوري: بين الرفض والاضطرار: النظام: عاجز عن فرض إرادته، لكنه يدرك أن قبول الممر سيُنظر إليه كخيانة. المعارضة: منقسمة بين حلم العودة للواجهة وهاجس التقسيم.
3- التحديات الأمنية واللوجستية: عدم الاستقرار: معظم مسار الممر يمر بمناطق نفوذ متنازع عليها (إيرانية، روسية، كُردية، جهادية). الممر هدف دائم للهجمات، ما يجعله مشروعاً محفوفاً بالمخاطر.
خامساً: “ممر داود” هندسة جديدة للمنطقة أم وهم جغرافي؟: “ممر داود” ليس مجرد مشروع لوجستي، بل هو تجسيد لمرحلة جديدة من هندسة الإقليم: الدولة لم تعد مركزية: بل مناطق نفوذ اقتصادية وأمنية. الاقتصاد أداة تطويع: مشاريع التنمية تُغلف مشاريع السيطرة والتغيير السكاني والسياسي. الخرائط تُرسم بالممرات والاتفاقيات لا بالدبابات وحدها.
مستقبل سوريا والمنطقة قد يُعاد تشكيله عبر هذه الممرات أكثر من الجبهات العسكرية التقليدية.
“ممر داود” ليس مجرد خط على الرمل، بل محاولة لإعادة تعريف الوعي والهوية في الشرق الأوسط. هو الوجه الناعم لمشاريع إعادة الهندسة الجيوسياسية، حيث تُستخدم الجغرافيا كسلاح لإعادة توزيع النفوذ، ويُطرح السؤال المحوري: هل تمتلك شعوب المنطقة القدرة على بلورة مشروع مضاد، أم ستبقى رهينة خرائط تُرسم خارج إرادتها؟.
في النهاية، “ممر داود” اختبار حقيقي لوعي النخب وقدرتها على الاستشراف، وهو جرس إنذار أن المعركة المقبلة ستكون على الجغرافيا والعقول معاً. إن الإبداع في قراءة الجغرافيا وصياغة المشاريع الوطنية لم يعد ترفاً، بل شرطاً للبقاء في زمن تتغير فيه الخريطة أسرع من أي وقت مضى.
“الجغرافيا اليوم ليست قدراً مطلقاً، بل مشروع مفتوح لمن يملك الرؤية والإرادة. من يبدع في فهمها، يملك مفاتيح المستقبل”.