أكل عاطفي
د. جليل وادي
2025-09-22 04:33
لا مجتمع في العالم على حد علمي يخلو من الفقر، لكن نسبته تتباين من مجتمع لآخر، ففي الدول الفاشلة تصل بعض الشرائح الى ما دون خط الفقر، اما المتحضرة فبعض مواطنيها يعيشون في مرحلة ما بعد الرفاهية والمتمثلة في قلة ساعات العمل وازدياد ساعات الراحة والمتعة، مع مستوى من الأجور يحافظ على استقرار رفاهيتهم، فالفقر والغنى ثنائية أزلية كالخير والشر والليل والنهار.
هكذا خُلقت البشرية، وهذا ما أعطى للحياة معانيها، بما تشكل فيها من قيم معنوية كالتكافل والتعاون والتسامح، وبضمنها أيضا القيم السلبية كالتظاهر والتكبر والتباهي، فلا معنى لفوزك، ولن تفرح وتتمتع به عندما لا يكون هناك مَنْ يعرفونك، وترتبط معهم بعلاقات اجتماعية، فهم كالمرآة ترى فيها نفسك، فالقيم: السلبي منها والايجابي هي التي تدفعك للعمل ومنافسة الآخرين وتحسين حالك، والمحافظة على مكانتك، والتطلع لمستقبل يتناسب مع طموحاتك.
لذلك نطلق على المجتمعات التقليدية بالمجتمعات القيمية، ذلك ان القيم هي الحاكمة والضابطة للسلوك، بينما تراجعت في المجتمعات المتقدمة القيم المعنوية وسادت بديلا عنها قيم مادية، ما أفقد الحياة مغزاها وأصابها بالجفاف، وجعل أفرادها يعيشون في غربة قاتلة، فلا تكافل بين جارين لا يعرف أحدهما الآخر، ولا مظاهر شكلية للتباهي، أمام مَنْ تتباهى والكل لا تعرفهم او يعرفونك؟، نلحظ في مجتمعاتنا مثلا اهتماما مبالغا به من المرأة بالحُلي الذهبية، وتتقصد في استعراضها بمناسبات الأفراح واللقاءات الاجتماعية، بينما يكاد لا يُذكر هذا الاهتمام لدى الأوربية، والسبب يكمن في طبيعة القيم السائدة في كل مجتمع .
ولا تختلف بلادنا في قضية الفقر عن غيرها، فتزداد نسبتها تارة وتنخفض أخرى، لكن لا أظن وجودا للجوع كما هي الحال في بلدان أخرى، فبمجرد النظر الى وجوه مواطنيها ترى الجوع بائنا عليها. نِعَمَنا كثيرة وتُشبع البطون حتى في الحالات التي تكون فيها حكوماتنا غير عارفة بحسن تيسير الأمور، او مغامرة في زجنا بالحروب والصراعات والأزمات.
ومع ان لا جوع حقيقي يتعرض له العراقي بما في ذلك الواقعون تحت خط الفقر، وان كانوا قد حرموا من بعض الطعام اللذيذ وجميع الكماليات، اما كبطون خاوية تُشد الأحزمة لتلافي آلامها، فلا أظن لها وجودا، فالعراقيون يأبون رؤية بطون جائعة دون اقتسام رغيف الخبز معها، لكن يؤشر على غالبيتنا الشراهة في الأكل، ولا يستهوينا منه الا الدسم، حتى وُصف البعض بالحاملين بطونهم على أكتافهم، فاذا أردت التأثير في أحدهم ما عليك الا اقامة وليمة له، مرة قال الكاتب داود الفرحان في عموده (بين الناس) في الصفحة الأخيرة من جريدة الجمهورية ناصحا المرأة العراقية: ان بطن الرجل هي المدخل الى عقله، ولعل مثلنا الذي يقول ( اطعم البطون تستحي العيون) خير دليل.
واستعدادا للانتخابات يولم المرشحون الآن ولائم ضخمة يسيل دسمها من (العكوس)، فالبعض لا يستجيب لدعوة مرشح دون أن تكون الموائد مغطاة بالشحم واللحم، فالجلسات توصف بالقرعاء ان لم تكن الطاولة مكتظة بما لذ وطاب . ولأن أصحاب رؤوس الأموال أكثر ادراكا منا لهذه الشراهة، لذا فان مشاريع المطاعم هي الأبرز نموا في مدننا، حتى تفوقنا بها على أعتى الدول السياحية التي تعرفون، فمن أين أتتنا هذه الشراهة ؟، طبعا أسباب هذه الظاهرة عديدة.
لكن ما لفتني في هذا الموضوع تقرير طبي بثته اذاعتنا الرسمية يفيد ان كثرة التفكير وما يفرزه من قلق يؤدي الى الاقبال على الطعام بشراهة لافتة، او الامتناع عنه لانعدام الشهية، ولا أحدثكم عن القلق الذي خيم على عقولنا وقلوبنا منذ عقود، ومن حقنا أن نقلق، فلا نعرف عن حاضرنا ومستقبلنا شيئا، وربما من المضحكات ان ينصحك الطبيب بعدم التفكير، فكيف لا يفكر الانسان في واقع يكاد أن يكون مجهولا ؟، لذلك يأتي اقبالنا الشره على الطعام والذي أسماه الأطباء في تقريرهم بالأكل العاطفي .