اصلاح القضاء وبناء الشرعية الدستورية

في مرحلة ما بعد الحكم الشمولي

الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي

2025-08-28 04:51

تُعرف المجتمعات قريبة العهد بالحكم الاستبدادي الشمولي بأنها مجتمعات ضعيفة وغير متماسكة، وتعاني الكثير من الندوب، وكلما كانت مدة الاستبداد طويلة، كلما كانت ندوبها غائرة وراسخة اكثر في الذاكرة والسلوك السائد، ويجري التعبير عنها بطرق مختلفة: كالشعور بالكراهية المتبادلة بين الافراد والجماعات، وفساد العادات والتقاليد الناجم من فساد منظومة الاخلاق؛ فالأنظمة المستبدة لا تهتم بتطوير هذه المنظومة بقدر اهتمامها بفرض الانصياع والطاعة على الناس عبر نشر الخوف وحكم الإرهاب، وتوظيف المؤسسات الرسمية لتحقيق اهداف الطغمة الحاكمة.

وعليه يكون مسار التحول الديمقراطية في مرحلة ما بعد الحكم الشمولي ليس مسارا مفروشا بالورود؛ بسبب الإرث السيء للاستبداد، وفقدان ثقة الناس بالمؤسسات الدستورية، والقيادات السياسية، والدولة وحكم القانون، وهذا أمر طبيعي، فهم لم يسبق لهم ان شعروا بالعدالة، والانصاف، والرحمة، واحترام الحقوق والحريات من قبل السلطة ورموزها، ولا يمكن تغيير مشاعرهم بين ليلة وضحاها، لأن تغييرها يتطلب إنجازا ملموسا على أرض الواقع، لا تكرارا لشعارات ألفتها النفوس، وحكمت على زيفها. 

وهنا يبرز دور القضاء كحجر زاوية لا غنى عنه في تغيير تصورات الافراد، وتعزيز الشرعية الدستورية، واستعادة الدور الإيجابي للحكومة في بناء الدولة والمجتمع. ولابد من الإشارة الى نقطة مهمة للغاية وهي لا يكفي وجود دستور ترتكز بنوده على مبادئ الديمقراطية كالفصل بين السلطات، واحترام الحقوق والحريات، واستقلالية القضاء، وغيرها لنجاح عملية التحول الديمقراطي، فقد تبقى جميع هذه البنود مجرد حبر على ورق، ولا يلمس الافراد نتائجها بدون وجود سلطة قضائية مستقلة وقوية وغير قابلة للتسييس، فاذا كان الدكتاتور هو قطب الرحى في ظهور واستمرار الحكم المستبد، فان القضاء هو قطب الرحى في تشييد عرش الديمقراطية، وترسيخ قيمها، وتعزيز بنيتها المؤسساتية، وتخليص المجتمع من المظالم والاحزان وسوء الظن الموروثة من سلطة الاستبداد.

 فالقضاء يلعب هذا الدور في مرحلتين مهمتين من مراحل التحول الديمقراطي، هما: مرحلة العدالة الانتقالية، وما تقتضيه من نزع أسباب الكراهية بين الافراد من خلال الاخذ لهم بحقوقهم من ظالميهم بحكم القانون، ومنعهم من الاقدام على أخذها بأيديهم كي لا يتحولوا من مظلومين الى ظالمين بشكل أو آخر، فمعروف ان الانسان بدون حكم القانون من السهل استفزازه واغرائه بالظلم والتعدي على الاخرين. فضلا على ما يسهم به القضاء في هذه المرحلة من دور مهم في تحسين صورة المؤسسات الدستورية من خلال فرض امتثالها الكامل لبنود الدستور، وعدم خروجها عن حدود الصلاحيات المحددة لها، وتفسير هذه البنود بما ينسجم مع غاياتها وأهدافها بعيدا عن التسييس والتسويف، كما يعزز القضاء آليات المحاسبة والمساءلة في الحكومة من رأس هرم السلطة الى قاعدته بتعزيز سلطات انفاذ القانون، ومنع الإفلات من العقاب، مما يهيئ النفوس والمؤسسات لتقبل الخيار الديمقراطي، وتحمل مسؤوليته الاخلاقية لا بعده خيارا مفروضا من الأعلى، وانما بعده خيارا شعبيا مقبولا من الجميع.

اما المرحلة الثانية فهي مرحلة تعزيز الديمقراطية، وهي المرحلة التي تعقب المرحلة الانتقالية حيث يكون الناس قد التئمت جروحهم، وخفت مشاعر الكراهية المتبادلة فيما بينهم، وبدأوا بالانتقال التدريجي من ثقافة الاستبداد الى ثقافة جديدة داعمة للديمقراطية، وهنا يبرز دور القضاء في ترسيخ حكم القانون، وفرض سيادته على الجميع، ومنع وقوع مظالم جديدة بين الناس ناجمة عن تحيزات غير عادلة لهذا الطرف او ذاك داخل السلطة وخارجها، فضلا عن منع تحول الحكم الديمقراطي الى شكل من أشكال الفوضى والانفلات القيمي الذي يتسبب بضعف المؤسسات الدستورية، وعدم الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي، حتى لا يقع الناس في فخ الاختيار بين أمنهم وحريتهم، فمعظم الديمقراطيات الناشئة فشلت وانهارت عندما دفع فشل قياداتها السياسية وضعف مؤسساتها الدستورية الشعب الى هذا الاختيار الصعب، أي الاختيار بين العودة الى دكتاتورية تسلبهم حريتهم ولكنها تعطيهم الامن الزائف او البقاء في ظل ديمقراطية تسلبهم أمنهم مقابل اعطائهم حرية تعشعش فيها الفوضى والفساد وضعف مؤسسات الدولة، وللأسف غالبا ما يختار الناس الخيار الأول لقرب عهدهم بالاستبداد وتغلغل منظومته الأخلاقية في الثقافة السائدة.

يعد دور القضاء دورا محوريا في ضمان انتقال آمن للمجتمع من مرحلة الدكتاتورية الى مرحلة الديمقراطية، ولكن للأسف لا يقوم القضاء غالبا بمثل هذا الدور لأسباب كثيرة، منها: قوة الإرث الاستبدادي، وعدم القدرة في التخلص منه على مستوى الافراد والقيادات السياسية؛ لمصالح ضيقة قصيرة النظر او لعدم فهم ما يقتضيه هذا الامر من استحقاقات ثقافية ومؤسساتية. ناهيك عن التدخلات السياسية في شؤون القضاء من خلال التأثير السيء عليه في مسالة تعيين القضاة، واتخاذ القرارات.

 كما ان وجود الفساد المالي والإداري، وانهيار القيم الأخلاقية قد يحول القضاء من أداة للعدل، وحفظ الحقوق والحريات الى أداة مساومة وابتزاز، يضاف الى ذلك مدى قوة الانقسامات المجتمعية حسب الولاءات الفرعية، حيث يدفع التطرف في هذه الانقسامات القضاء -أحيانا- الى الخروج عن حياده، مما يسقطه في دوامة التسييس للقضايا وفقا لخريطة هذه الولاءات وقوة تأثيرها.

صفوة القول: اذا كان القضاء في الدول الخارجة من الحكم الشمولي هو المرتكز الاساس لمشروع التحول الديمقراطي، فان هذا يتطلب تأسيس سلطة قضائية قوية، ومستقلة، وفاعلة، ولا يمكن تحقيق ذلك الا بالعناية التامة بأعداد القضاة لاختيار الأصلح والأفضل من افراد المجتمع لتولي مسؤولية القضاء، ممن لا تثنيهم التحديات عن الالتزام بمعايير العدالة التامة، ولا تغريهم الامتيازات بالوقوع في مشكلة التسييس والانحياز الخاطئ في القرارات، وممن يؤمنون بشكل حاسم بالحكم الديمقراطي القائم على العدل، واحترام ثقة الافراد، وسيادة القانون.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2025

www.fcdrs.com

ذات صلة

الاختبار الصعب بين مرارة الدنيا وحلاوة الآخرةفي ذكرى وفاة السيدة سَكينة بنت الإمام الحسين: البطولة في العفّة والكَلِمةالإنسان المعاصر بين بناء الحضارة والبحث عن الذاتما وراء الفصل العنصري والإبادة الجماعية في فلسطينمن أين لك هذا امام صندوق الاقتراع؟