حين يصبح الاختلاف مصدر قوة في العلاقة الزوجية
صباح الصافي
2025-08-27 03:57
إذا كان التَّعامل مع الأجهزة الدَّقيقة يتطلَّب إلمامًا تامًا بآلية عملها، خشيَّة إتلافها أو التَّسبُّب في أذى لمستخدمها، فإنَّ التَّعامل مع الإنسان أكثر تعقيدًا؛ لأنَّه كيان حيٌّ ينبض بتجارب ومشاعر وذكريات، لا تُرى بالعين؛ لكنَّها تتشابك في داخله وتصنع جوهره.
فالإنسان عالم قائم بذاته، لا يُفهم من ظاهره، وإنَّما يحتاج في الاقتراب منه إلى وعيٍ عميق، وإدراك متأنٍ. وحين يُفتقد هذا الفهم، ونتعامل معه بسطحيَّة أو قسوة أو تجاهل لخصوصيته، قد يُمس جوهره، وتُفتح جراح قد يصعب التئامها.
وكما أنَّ الإهمال في صيانة آلة دقيقة قد ينتهي إلى خلل كبير، فإنَّ الجهل بالنَّفس البشريَّة قد يُربك مشاعرها، ويشوّه نظرتها إلى ذاتها أو إلى الآخرين؛ لهذا، فإنَّ من الأولى أن نحسن التَّعامل مع الإنسان برفق وأمانة؛ لأنَّه يحمل في داخله عالمًا من المشاعر والمعاني لا تُرى بالعين، ولا تُقاس بالمعايير الماديَّة؛ لكنها تُحَسّ بصدق، وتؤثِّر فيمن حولها، وتتأثَّر بما يحيط بها.
وقد عبَّر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن هذه الحقيقة بعبارة خالدة حين قال:
أتحسبُ أنَّك جرمٌ صغيرٌ * وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ (1).
فكل إنسان عالمٌ قائم بذاته، له مفاتيحه الخاصَّة، لا تنكشف إلَّا لمن أنصت بقلبه، لا بعقله وحده، وتعامل معه برحمة لا بقسوة، وبفهم لا بسطوة.
وإذا أردنا مجتمعات أكثر وعيًا، وعلاقات أكثر نضجًا، فإنَّ البداية تكون من احترام تعقيد الإنسان، والاقتراب منه برؤية تتجاوز المظاهر إلى الأعماق.
وحين نُدرك هذا، ندرك أيضًا أنَّ الكثير من المشكلات –خصوصًا بين الزَّوجين– تنبع من غياب الفهم الحقيقي لطبيعة كلِّ طرف، وعدم الوعي بالفروق العميقة التي فُطر عليها كلٌّ من الرَّجل والمرأة؛ تلك الفروق التي تحتاج إلى فهم واحتواء.
وقد بيَّن الخالق (سبحانه وتعالى) هذه الحقيقة في كتابه العزيز، حين قال: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) (2). مؤكِّدًا بذلك اختلاف الفطرة التي خلق عليها كلٌّ من الرَّجل والمرأة.
ومن هذا المنطلق، جاءت الشَّريعة المقدَّسة لتفرض لكلٍّ منهما أحكامًا خاصَّة، تراعي الفروق بينهما، وتضمن نظامًا متكاملًا يحفظ لكلٍّ حقوقه ويُحقق له استقرارًا في حياته الزَّوجيَّة والاجتماعيَّة.
لذلك، ندعو الزَّوجين إلى خوض رحلة من الفهم المشترك، يقتربان فيها من أعماق بعضهما البعض، ويتعرَّف كلٌّ منهما على طبيعة شريكه، وعن طريق هذا الوعي، تُبنى علاقة متينة تقوم على التَّفاهم والتَّعامل الحكيم؛ فينمو الاحترام، ويثمر التَّعاون.
إنَّ الحجر الأساسي الذي تبنى عليه العائلة السَّعيدة هو معرفة أنَّ طبيعة الرَّجل تختلف عن طبيعة المرأة في طريقة التَّفكير والتَّصرفات؛ فكلٌّ منهما يعيش في عالم مختلف عن الآخر؛ ومن هذا الفهم ينبثق الحلُّ الحقيقي لأيِّ مشكلة، ويتَّضح السَّبيل الأمثل لتفادي وقوعها، وهو أن يدرك الزَّوجان خصائص الآخر وطبيعته، ليبنيا علاقة تقوم على التَّفاهم والاحترام المتبادل.
المحور الأوَّل: معرفة الاختلاف بداية الفهم.
لا أريد الخوض في الاختلافات العضويَّة بين الرَّجل والمرأة، مثل حجم العظام أو التَّركيب الجسدي، على الرغم أنَّ هذه الفروق الجسديَّة أصلٌ لعديد من الاختلافات النَّفسيَّة والسُّلوكيَّة؛ ولكن هدفنا هو فهم طبيعة التَّفكير والتَّصرف، والتَّواصل بين الزَّوجين، بعيدًا عن التَّفاصيل الجسديَّة، لنصل إلى فهم أعمق وأشمل يفتح لنا أبواب التَّفاهم المثمر. وسنذكرها على شكل نقاط مختصرة لتكون واضحة وسهلة الاستيعاب:
أوَّلًا: لغة العقل مقابل لغة القلب.
تمتاز النِّساء بقدرة حدسيَّة عالية تفوق تلك الموجودة عند الرِّجال، وهو ما يجعلهن أكثر حساسيَّة اتِّجاه التَّفاصيل الدَّقيقة والمشاعر غير المعلنة في المحيط من حولهن. وهذه القابليَّة للحدس تمنح المرأة قدرة فريدة على استشعار نوايا الآخرين بسرعة، والتَّنبؤ بما قد يحدث قبل وقوعه، ممَّا يجعل تواصلها مع من حولها أكثر عمقًا واحتواءً؛ ولذلك، كثيرًا ما تعتمد بعض النِّساء على هذا الإحساس في اتِّخاذ القرارات اليوميَّة وفي إدارة علاقاتهن الاجتماعيَّة والعائليَّة؛ فالحدس أداة بالغة الأهميَّة لفهم ما يختبئ خلف الكلمات والأفعال الظَّاهرة؛ إذ يمكِّن صاحبه من إدراك المعاني غير المُعلنة والمشاعر التي لا تُقال (3).
وفي القرآن الكريم إشارات إلى هذه الحقائق؛ منها قوله (تعالى): (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (4). فعلى الرَّغم أنَّ الطفل كان من بني إسرائيل، وهم قوم مضطهدون في نظر أهل القصر، إلَّا أنَّ قلبها استقبلَه بحنان منذ اللحظة الأولى، وكأنَّ هناك شيئًا خفيًا ينبض في فطرتها؛ لذلك، جاءت كلماتها تحمل إحساسًا يتجاوز ظاهر الواقع، ويكشف عن حدس عميق استشعر في هذا الرَّضيع مكانة استثنائيَّة.
لذلك، لا يليق بالرَّجل أن يواجه زوجته بالغموض أو الإخفاء؛ لأنَّ قلبها سرعان ما يلتقط الإشارات الخفيَّة فيسوء ظنُّها أو يضطرب وجدانها. كما أنَّ عقل الرَّجل بما يمتاز به من تفكير منظَّم ورؤية تحليليَّة، يقتضي من المرأة ألَّا تجادله في المسائل العقليَّة المعقَّدة إلَّا إذا بدا الخطأ جليًّا، فذلك أحفظ للودِّ وأدعى للانسجام. وبهذا التَّوازن، يتلاقى حدس القلب مع صفاء العقل، فيغدو الحوار بين الزَّوجين أكثر صفاءً، ويظل البيت قائمًا على الاحترام المتبادل والتَّكامل الجميل.
ثانيًا: عالم التَّنافس وعالم العاطفة.
يجد دماغ الرَّجل صعوبة في التَّنقل السَّريع بين التَّفكير المركَّز والعواطف، فهو يميل إلى التَّركيز على مهمَّة واحدة في كلِّ مرَّة، ممَّا يمنحه قدرة أكبر على التَّحكم في العمليات العقليَّة والمنطقيَّة. في المقابل، يتميَّز دماغ المرأة بسهولة التَّحول بين التَّفكير والإحساس؛ إذ تتفاعل مع المشاعر والعواطف بكفاءة عالية، ممَّا يرفع قدرتها على التَّواصل العاطفي وفهم الآخرين بشكل أفضل.
والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنَّ الاختلاف لا يقتصر على الأداء فقط؛ وإنَّما يشمل التَّركيب الدَّماغي ذاته؛ إذ يُقال: إنَّ دماغ الرَّجل يعمل عبر "غرفتين" منفصلتين، حيث تتركَّز المهام المختلفة في مناطق متباعدة، بينما يعمل دماغ المرأة عبر "غرفة واحدة" متكاملة، تجمع بين الوظائف المتنوعة، ممَّا يمنحها قدرة فريدة على الدَّمج بين التَّفكير والعاطفة في آن واحد(5). وهذا الاختلاف في طريقة نظر الرَّجل والمرأة إلى المواقف والمشاعر هو سرُّ الجمال في العلاقة. فكما يحتاج العقل إلى دفء القلب ليبقى نشطًا، تحتاج العاطفة إلى حكمة الفكر لتستقيم. وحين يدرك كلٌّ منهما هذا التَّباين بوعي ومحبَّة، يتحوَّل الاختلاف إلى جسر للتكامل، وتزهر العلاقة بعمقٍ أكبر وتفاهمٍ أوسع، فيغدو البيت واحةً يسكنها الانسجام والمحبَّة.
إنَّ فهمنا أنَّ الرَّجل يركِّز غالبًا على مهمَّة واحدة في كلِّ مرَّة، بينما تتمتع المرأة بقدرة أكبر على الدَّمج بين التَّفكير والعاطفة، يساعدنا على تفسير اختلاف ردود الأفعال بدون إطلاق أحكام مسبقة أو افتراض سوء النيَّة.
فعلى سبيل المثال، قد يبدو الرَّجل أحيانًا غير متفاعل عاطفيًا؛ لكنه في الحقيقة يكون في "وضع تفكير" أو "حل مشكلة"، وليس بسبب عدم اهتمامه. وهذا الفهم يمنح الزَّوجة مساحةً من الرَّحابة والصَّبر للتعامل مع الموقف بهدوء، بعيدًا عن التَّسرع في الحكم أو التَّذمُّر.
ثالثًا: حديث الخارج وحديث الداخل.
يتحرك الرَّجل في عالم عادةً يتَّسم بالمنافسة ووجود العقبات، وهذا يجعله يبذل جهدًا كبيرًا في سعيه لتحقيق أهدافه والتَّفوق في ميادين الحياة المختلفة. وهذا الصِّراع المستمر يستهلك جزءًا كبيرًا من طاقته الذِّهنيَّة والجسديَّة، وعندما يعود إلى بيته، يكون بحاجة ماسَّة إلى فترة من الرَّاحة والهدوء ليستعيد نشاطه ويستعيد توازنه.
وخلال هذه الفترة من الاسترخاء، يُتاح له الوقت لتصفية الذهن وتخفيف الضُّغوط، ممَّا يساعده على تجديد قواه ليواجه يومًا جديدًا. كما أنَّ هذه اللحظات الهادئة تُمكِّنه من التَّفاعل مع أفراد الأسرة بصورة إيجابيَّة، بعكس ما قد يكون عليه حاله أثناء انهماكه في عالم المنافسة والجهد المستمر.
أمَّا عالم المرأة فهو عالم مختلف، بعيد عن الصِّراع والمنافسة؛ فهو ينبض بالعاطفة والحنان والودَّ والرَّحمة والتَّفاني في تقديم المساعدة والاهتمام لمن حولها، خاصَّة لأولئك الذين يحتاجون إلى الدَّعم والمساندة. وممَّا يلاحظ في عالم المرأة التَّعامل بعناية فائقة مع العالم المحيط بها، وحرصها على بناء روابط قويَّة تقوم على التَّعاون والعطاء، ممَّا يجعلها قلب البيت النَّابض والعامل الأساسي في توازن الأسرة واستقرارها.
وهذا الفهم يحمل فوائد مهمَّة جدًا على مستوى العلاقات الأسريَّة والزَّوجيَّة، وحتَّى المهنيَّة. وإليك ما يمكن الاستفادة منه عمليًّا:
1. فهم الدَّوافع والسلوكيات المختلفة.
حين نفهم أنَّ عالم الرَّجل تحكمه روح المنافسة والسَّعي إلى الإنجاز، بينما يميل عالم المرأة إلى العطاء والارتباط العاطفي، نصبح أقدر على قراءة سلوكهما اليومي بوعيٍ أعمق؛ فعلى سبيل المثال، حين يلوذ الرَّجل بالصَّمت بعد يوم عملٍ شاق، فإنَّ صمته هو لحظة استراحة يستعيد من خلالها توازنه ويعيد شحن طاقته، وليس علامة على التَّجاهل أو الانسحاب.
2. تقدير حاجة الرجل للاسترخاء.
بعد انخراطه في صراعات الحياة، يعود الرَّجل محتاجًا للهدوء. وإدراك هذه الحاجة يمنع سوء الفهم، خاصَّة من قبل الزَّوجة التي قد تفسر انسحابه بأنَّه فتور أو عدم اهتمام. لذلك، على المرأة في هذه الحالة منحه مساحة هادئة بعد عودته للبيت، وهذا السُّلوك يُسهم في استقرار الجو الأسري ويُحسِّن تواصله لاحقًا.
3. تقدير الدور العاطفي للمرأة.
تقوم الحياة العاطفيَّة في الأسرة إلى حدٍّ كبير على قلب المرأة، الذي ينبض حبًّا وعطاءً بلا انقطاع؛ فهي تشكِّل المحور العاطفي الذي يُعيد التَّوازن حين تختل المشاعر. وإدراك هذا الدَّور يكشف عن جهودها الصَّامتة التي تُبقي الأسرة متماسكة. وحين تُقدَّر هذه الجهود، تُمنَح المرأة الدَّعم الذي تحتاجه لتستمر في عطائها بثقة وطمأنينة.
4. تجنُّب الاصطدام الناتج عن توقعات غير واقعية.
عندما نتوقع من الرَّجل أن يُظهر تفاعلًا عاطفيًا فور عودته من العمل، أو نطالب المرأة بأن تفصِّل مشاعرها وتتصرَّف بعقلانيَّة جافَّة مثل الرَّجل، فإننا نحمِّل الطَّرفين ما لا يتناسب مع طبيعتهما الفطريَّة، ممَّا يخلق جوًّا من التَّوتر والضَّغط النَّفسي. والفهم الواعي لاختلاف طبيعة كلٍّ منهما يخلق بيئة أسريَّة أكثر هدوءًا واستقرارًا.
5. تحقيق توازن أسري أفضل.
لا يقوم التَّوازن الأسري على التَّشابه بين الرَّجل والمرأة؛ وإنَّما على التَّكامل بين طبيعتيهما؛ فالرَّجل غالبًا ما يُجيد التَّفكير التَّحليلي واتِّخاذ القرار، بينما تمتلك المرأة القدرة على الاحتواء العاطفي والرِّعاية. وعندما يدرك كلُّ طرف أنَّ نقاط قوَّته تُكمل نقاط ضعف الآخر، ينشأ بين الزَّوجين جوّ من التَّعاون لا التَّنافس، والتَّكامل لا الَّتصادم. ويصبح من الممكن بناء علاقة قائمة على الاحترام المتبادل، يتقاسم فيها الطَّرفان الأدوار بطريقة تحقق التَّوازن الأسري، وبناء بيت يسوده التَّفاهم والطَّمأنينة، وتُنجز فيه المهام بعقل، وتُدار فيه العلاقات بقلب، وينمو فيه الأبناء في بيئة متوازنة تجمع بين الحزم والحنان.
رابعًا: التفكير المتسلسل والتفكير الشمولي.
يتميَّز أسلوب التَّفكير عند الرَّجل بأنَّه يربط الأمور بشكل متسلسل، ويسير من نقطة إلى أخرى عبر حلقات متواصلة حتَّى تكتمل لديه صورة الموضوع بالكامل. وهذا النَّهج يتيح له التَّركيز على التَّفاصيل خطوة بخطوة، ممَّا يزيد دقَّته في التَّحليل والتَّركيز على الجوانب الأساسيَّة.
أمَّا المرأة، فأسلوب تفكيرها يتسم بالتَّوسع والشُّموليَّة، وتبدأ برسم صورة شاملة وكاملة للموضوع في ذهنها، ثمَّ تنطلق لاكتشاف كافَّة الأجزاء المرتبطة به. وبعد ذلك، تسعى لربط هذه الأجزاء معًا، لتكوّن فهمًا معمقًا ومتعدد الأبعاد للموضوع بأكمله. وهذا الأسلوب يتيح لها رؤية الصُّورة الكبرى مع الحفاظ على تفاصيل دقيقة، ويمنحها مرونة في التَّفكير والتَّعامل مع التَّعقيدات، والتقاط التَّفاصيل الدَّقيقة وربطها بشكل شامل.
ولتوضيح هذا الاختلاف بشكل ملموس، يمكننا النَّظر إلى الفارق بين حقيبة المرأة ومحفظة الرَّجل؛ فمحفظة الرَّجل عادةً ما تكون صغيرة الحجم، ذات لونينِ أساسيينِ، الأسود أو البني، وتحمل بداخلها ما يكفي من بطاقات التَّعريف والمال. وأمَّا حقيبة المرأة، فهي أكبر حجمًا، وألوانها متعدِّدة ومتنوعة، وغالبًا ما تكون مليئة بالأشياء التي تخصُّها، وحاجات أولادها، وأحيانًا أمورًا تتعلَّق بزوجها أيضًا.
إنَّ هذا الاختلاف في الأغراض والحجم يعكس أسلوب التَّفكير والحياة لكلٍّ منهما؛ فالمرأة تميل إلى النَّظر إلى الأمور من زاوية واسعة تشمل تفاصيل متعدِّدة ومتداخلة، بينما يركِّز الرَّجل على العناصر الضروريَّة التي يحتاجها لتحقيق هدفه.
وفهم هذه النقطة يساعد على تجنب سوء التَّفاهم؛ وتوضيح ذلك: إنَّ المرأة قد تربط أكثر من موضوع في حديثها، وعلى الرَّجل في هذه الحالة أن يعرف أنَّ هذا ليس "تشتيتًا"؛ وإنَّما هو جزء من طريقتها في ربط الأمور. وهكذا المرأة عندما ترى الرَّجل يركز على نقطة واحدة من دون التَّفرّع، فهذا ليس "تجاهلًا"؛ بل أسلوبه في التَّحليل والتَّركيز.
المحور الثَّاني: التعامل الذكي مع الضغوط.
يركِّز هذا المحور على استجابات كلٍّ من الزَّوجين للتعب والضُّغوط النَّفسية والنَّقد، مع تسليط الضَّوء على الجوانب التي يجب أخذها بعين الاعتبار لتحقيق التَّواصل الإيجابي وتفادي الخلافات والصدامات المحتملة.
أوَّلًا: حين يصمت الرجل وتتكلم المرأة.
يميل الرَّجل إلى التَّحدث خارج المنزل أكثر ممَّا يفعل داخله، ويعود ذلك إلى طبيعة الحياة التي يواجهها في الخارج، حيث تسود أجواء الصراع والمنافسة المستمرة. وهذا الواقع العملي يفرض عليه الاعتماد على أدوات تؤكِّد حضوره وكفاءته، ولعلَّ الكلمة من أبرز هذه الأدوات؛ فاللسان بالنسبة للرَّجل في بيئة العمل أو المجتمع هو وسيلة للتعبير، والإقناع، والتَّفاوض، والدِّفاع عن وجهة نظره، وربما لإثبات وجوده وتحقيق مكانته؛ ولهذا تراه يستخدم الكلام خارج المنزل بكثرة؛ لأنَّه جزء من عدَّته اليوميَّة، وسلاح من أسلحته الفعَّالة في التَّعامل مع الآخرين. لكن المسألة تختلف في داخل البيت، فبما أنَّ جوَّ الصراع قد انتهى، وتمَّ الوصول إلى مساحة من الأمان والهدوء، فإنَّه يشعر بأنَّه لم يعد بحاجة ماسَّة للكلام كما كان في الخارج، ويميل إلى الصَّمت والرَّاحة.
أمَّا المرأة، ففي خارج المنزل تميل غالبًا إلى الصَّمت وقلَّة الكلام، ليس لأنَّها لا تملك القدرة على التَّعبير؛ وإنَّما لأنَّ عالمها الخارجي لا يتطلَّب منها خوض صراعات أو الدُّخول في منافسات مثل تلك التي يعيشها الرَّجل. ثمَّ إنَّ طبيعتها لا تدفعها لاستخدام الكلام بوصفه سلاحًا؛ بل تميل إلى المراقبة والهدوء، طالما لم تكن هناك حاجة تواصليَّة تدفعها للكلام.
لكن هذا المشهد يتغيَّر تمامًا في داخل المنزل؛ فالكلام عند المرأة يصبح أداة لبناء الأُلفة، وصناعة جوّ من المحبَّة؛ فدورها داخل الأسرة يتعلَّق ارتباطًا وثيقًا بخلق بيئة عاطفية متوازنة، والكلام هو الوسيلة الأقرب إلى قلبها لتحقيق ذلك. فتعبِّر، وتُشجِّع، وتُواسي، وتُشارك التَّفاصيل، وتُغني الحياة العائليَّة بحديثها، ممَّا يجعل كلامها داخل البيت أكثر كثافة وعاطفة من كلام الرَّجل.
وهذا لا يعني أنَّ المرأة تتكلَّم بلا هدف؛ وإنَّما تُوظف كلماتها لصياغة مناخ يشعر فيه الزَّوج والأبناء بالأمان والارتباط، تمامًا كما يستخدم الرَّجل كلامه خارج البيت لتحقيق أهدافه العمليَّة والاجتماعيَّة.
وإذا فُهم هذا الاختلاف بين طبيعة الرَّجل وطبيعة المرأة، فإنَّ المرأة ستدرك حينها سرَّ صمت الرَّجل أحيانًا. فبعد يومٍ طويلٍ من الانشغال والتَّعب وكثرة الحديث في محيط العمل أو المجتمع، يعود إلى منزله باحثًا عن الهدوء، راغبًا في الصَّمت؛ ليستعيد توازنه وطاقته كما أشرنا سابقًا.
وهنا يحدث الاصطدام الطَّبيعي بين الرَّغبتين:
الرَّجل يتجه نحو الصَّمت طلبًا للرَّاحة.
والمرأة تتوجه نحو الحديث طلبًا للتَّواصل.
وفي مثل هذه اللحظات، إذا لم يُدرك الطَّرفان هذا التَّباين في الأسلوب والتَّواصل، فقد يفضي ذلك إلى سوء فهم يهدد صفاء العلاقة الزَّوجيَّة. والحل في إتقان فن الإصغاء، وتلبيَّة حاجة المرأة إلى من يُصغي لها، ويُشعرها بالتفهُّم، ويتفاعل مع مشاعرها بصدق واهتمام.
وبعبارة أخرى: حين تُعبِّر المرأة عن مشاعرها داخل المنزل، فهي لا تبحث عن حلول بقدر ما تحتاج إلى من يُصغي لها ويتفاعل معها. وقد كرَّم القرآن الكريم هذا النَّوع من التَّواصل، فجعل من شكوى إمرأة إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وطلبها التفهم والحوار مشهدًا يستحق التَّنزيل الإلهي، فقال (تعالى): (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) (6). فالله (عزَّ وجلَّ) سمع دعاء وحوار وصوت المرأة؛ وهذا أبلغ دليل على أنَّ الكلام الذي قد يراه البعض ثرثرة، هو عند الله (تعالى) صوتٌ مسموع، وقضيَّة تستحق الإصغاء والانتباه.
وحين يدرك الرَّجل أنَّ الإصغاء هو جسر المشاركة العاطفيَّة، وأنَّ لحظات الاستماع الصَّادق تساوي عند المرأة أضعاف ما يفعله أي كلام نظري أو مجهود عملي، سيتعلَّم كيف يمنح من وقته واهتمامه ما يُشعرها بالأمان والانتماء. ولكن هذا قد يحتاج إلى تدريب أو تجاوز لبعض الطباع، ولكن الحصول على هذا المفتاح سيقطع جذور كثير من المشاكل.
قد يتساءل البعض: ما الفائدة العمليَّة من إدراك هذا الفارق في أسلوب التَّواصل بين الرَّجل والمرأة؟
والإجابة تكمن في أنَّ هذه المعرفة تُجنِّبنا الوقوع في سوء الفهم؛ إذ يصبح من السَّهل علينا ألَّا نفسر كلام المرأة على أنَّه إزعاج أو ضغط، وألَّا نرى صمت الرَّجل علامة على البرود أو الإهمال؛ فغالبًا ما تُساء قراءة هذه التَّصرفات، ويؤدِّي الجهل بطبيعتها إلى تكوين تصوّرات خاطئة تُضعف العلاقة. لكن حين نفهم الخلفيَّة النَّفسية والتَّعبيريَّة لكلِّ طرف، تتبدد هذه الأوهام ويحل محلها وعي عاطفي ناضج.
كما أنَّ هذا الفهم يُغنينا عن مطالبة المرأة بكبت مشاعرها، أو إرغام الرَّجل على الحديث بالقوَّة؛ لأنَّه ليس المطلوب أن يتخلَّى كلُّ طرف عن طبيعته؛ بل أن يتعلَّما كيف يلتقيان في منتصف الطَّريق. والحل يكون في الوعي بتوقيت الحديث، واحترام الحاجات النَّفسية للطَّرف الآخر؛ فالرَّجل بحاجة لأن يدرك أنَّ استماعه الصَّادق للمرأة، من دون مقاطعة أو محاولة تقديم حلول فوريَّة، قد يكون أبلغ في تأثيره من أي كلام؛ لأنَّ ذلك الإصغاء يمنح المرأة شعورًا بالطَّمأنينة ويُعمِّق إحساسها بالتَّقدير والانتماء.
ولا بدَّ للرجل أن يلفت إلى حقيقة أخرى؛ أنَّ المرأة حينما لا تجد تجاوبًا في هذا الجانب من زوجها، قد تُصاب بالإحباط، وأحيانًا – إن لم يكن لديها وعي كافٍ أو التزام ديني – قد تنحرف عن خطِّ الاستقامة، وتبحث عن طرف آخر يُشبع لديها هذا الاحتياج العاطفي والإنساني. ومع ذلك، فإنَّ غياب إدراك الرَّجل لهذه الحقيقة لا يمنح أي مبرر للانحراف أو التَّفريط في طريق الاستقامة؛ فالالتزام بأحكام الله (تعالى) يظلُّ الرَّكيزة الأساس في حفظ السُّلوك وصيانة العلاقة.
ثانيًا: التقدير الصائب لمبادرات المرأة.
تميل المرأة بطبيعتها إلى العناية والتَّطوير؛ لأنَّ في التَّحسين بالنسبة لها لغة خفيَّة من لغات الحب، وشكلًا من أشكال التَّعبير عن الاهتمام العميق؛ فهي ترى في التَّفاصيل مساحة للتواصل العاطفي، وفرصة لإظهار ارتباطها القلبي والعملي بشريك حياتها.
وحين تقترح على زوجها تغييرًا في مظهره، أو تعديلًا في روتينه اليومي، أو حتَّى تبديلًا في نوعيَّة البرامج التي يتابعها، فهي تترجم إحساسها بالشَّراكة، ورغبتها الصَّادقة في أن يكون شريكها أفضل حالًا، وأكثر راحة، وأقرب إلى السَّعادة التي تتمناها له. وهذه الاقتراحات الصَّغيرة، وإن بدت عابرة، ما هي إلَّا انعكاس لحب كبير يُترجم في صور من الرِّعاية اليوميَّة.
لكن، وعلى الرَّغم من إيجابيَّة هذا الدَّافع، قد تُفاجأ المرأة أحيانًا برفض أو تجاهل؛ لأنَّ بعض الرِّجال ينظرون إلى تلك المبادرات بعين الشَّك أو التَّوجس، فيرون فيها تدخلًا في مساحتهم الخاصَّة أو انتقاصًا من استقلاليتهم. ويغيب عنهم أنَّ هذه المرأة تمنحهم من قلبها، وتحاول أن تقول: "أنا معك، وأراك، وأهتم بك."
ومن يبحث في النصوص الشريفة سيجد أنَّ هذا الفعل اليومي العابر له بعدٌ سماويٌ عظيمٌ، من ذلك هذه الرِّواية الشَّريفة: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله)، فَقَالَ: إِنَّ لِي زَوْجَةً إِذَا دَخَلْتُ تَلَقَّتْنِي، وَإِذَا خَرَجْتُ شَيَّعَتْنِي، وَإِذَا رَأَتْنِي مَهْمُوماً؛ قَالَتْ: مَا يُهِمُّكَ إِنْ كُنْتَ تَهْتَمُّ لِرِزْقِكَ فَقَدْ تَكَفَّلَ لَكَ بِهِ غَيْرُكَ وَإِنْ كُنْتَ تَهْتَمُّ بِأَمْرِ آخِرَتِكَ فَزَادَكَ اللَّهُ هَمّاً.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله): إِنَّ لِلَّهِ عُمَّالًا وَهَذِهِ مِنْ عُمَّالِهِ لَهَا نِصْفُ أَجْرِ الشَّهِيدِ"(7).
وهذه الصُّورة النَّبويَّة الرَّفيعة تكشف بوضوح أنَّ ما تفعله المرأة بدافع الحب، هو في الحقيقة عمل عبادي، يؤجر عليه الإنسان كما يؤجر المجاهد في سبيل الله (سبحانه)؛ لذلك، حين تقترح المرأة على زوجها بعض الَّتغييرات، سواء في مظهره، أو روتينه اليومي، أو اهتماماته، فهي لا تسعى إلى فرض رأيها أو التَّحكم في تفاصيله، وإنَّما تعبِّر عن حبِّها وحرصها عليه.
لكن حين تُقابل هذه المبادرات بالتَّجاهل أو الرَّفض، فإنَّها تشعر بالخذلان، وتؤوَّل نيتها الطيِّبة تأويلًا سلبيًا. يتسلل إلى نفسها الإحساس بأنَّها غير مرحب بها في المساحات التي ظنَّت أنَّها مشتركة، وأنَّ مشاركتها لا تلقى التَّقدير الذي تستحقه. وهنا تظهر الحاجة إلى مراجعة نظرة الرَّجل اتِّجاه هذه الأفعال، وتغيير تفسيره لهذه الاقتراحات، وألَّا يراها انتقادًا أو تقليلًا من شأنه؛ هي تعبير عن اهتمام حقيقي، وإشارة إلى أنَّها تفكر فيه، وتحرص على راحته وتطوره. وكلُّ اقتراح هو امتداد لمشاعرها، وكلُّ نصيحة هي نوع من الدَّعم، وليس نوعًا من المحاسبة.
وحين يُفهم هذا السلوك على حقيقته، تتحوَّل العلاقة إلى مساحة آمنة للتَّعبير والمشاركة، ويزدهر التَّفاهم، وتترسخ المودَّة بين الطَّرفين.
ثالثًا: النصح الحكيم.
في العلاقات الإنسانيَّة، قد يواجه البعض صعوبة في إيصال النَّصيحة أو التَّوجيه، خاصَّة عندما يتعلَّق الأمر بالرِّجال؛ فليس جميع الرِّجال يستجيبون للنصح بالطَّريقة نفسها، لكن كثيرًا منهم يفضلون أن تُقدَّم لهم الملاحظات في أجواء هادئة، بعيدًا عن الضَّغط أو التَّقييم المباشر. وبعضهم قد يشعر بالانزعاج إذا جاءت النَّصيحة في وقت غير مناسب أو بأسلوب يوحي له بأنَّه موضع نقد.
لهذا، فإنَّ إيصال الكلمة المناسبة يحتاج إلى فهم لطبيعة الشخص المقابل، وتقدير حالته النَّفسية، واختيار الأسلوب الذي يجمع بين الاحترام والتَّوقيت السَّليم؛ فالكثير من المواقف تُحسم ليس بما يُقال؛ بل بكيف يُقال، ومتى يُقال.
إنَّ الرَّجل بطبيعته يميل إلى اتِّخاذ قراراته بعد تأمُّل، ويُحب أن يشعر أنَّ اختياره نابع من قناعته، لا من ضغط خارجي. فإذا قُدِّمت له الملاحظة بأسلوب فيه هدوء وتقدير، كان أقرب إلى الإصغاء. وأمَّا إذا استشعر نبرة الوعظ أو الإملاء، فإنَّه غالبًا ما يغلق أبواب الاستجابة، حتَّى وإن كان في داخله يميل إلى الصَّواب.
وهذه الرُّؤية تساعد على تطوير مهارة إيصال النَّصيحة بشكل عام؛ لأنَّها تُخرجنا من منطق "أنا محقّ" إلى منطق "كيف أجعل الآخر يرى الحقَّ بنفسه". وهذا الفارق الجوهري هو ما يصنع الفرق بين حوار ينتهي بالتَّفاهم، وآخر ينهار تحت ضغط العناد أو الشُّعور بالإهانة.
عندما نتبنى هذا الفهم في حياتنا اليوميَّة، فإننا نضع أساسًا متينًا لبناء علاقات أكثر صحَّة، وأكثر قبولًا؛ فنحن بذلك لا نفرض رأينا؛ بل نمنح مساحة للآخر كي يتأمَّل، ويقرر، ويتغيَّر من الدَّاخل، لا من الخارج. وبهذا الأسلوب، نقلل من الصدامات وردود الفعل الحادة التي قد تخرج حتَّى من أقرب النَّاس، لمجرد أنَّ النبرة لم تكن مناسبة، أو أنَّ التَّوقيت كان خاطئًا.
ولعلَّ هذا الفهم يظهر في مواقف كثيرة من الحياة، لا سيما بين الأزواج، أو في العلاقات القريبة حيث النُّصح يتكرر، والنيَّة الطيِّبة قد تختلط بالأسلوب غير المناسب. فإذا كنتِ زوجة أو أختًا أو صديقة، فربما لا يكون من الحكمة أن تبادري بالنُّصح عند أوَّل زلة. أحيانًا، يكون الصَّمت الحكيم أبلغ من الكلام المباشر. واختيار الكلمات بحذر، ومراعاة الحالة النَّفسيَّة للطرف الآخر، وترك مساحة له ليرى الأمور بنفسه، هو ما يجعل النصيحة تُثمر من دون أن تُشعره بأنَّه محكوم عليه أو في موضع إدانة؛ فالنَّصيحة الحقيقيَّة لا تُقال بقوَّة؛ بل تُقدَّم بلطف، وتُترك لتنبت في وقتها. وهذا هو الفرق بين الكلمة التي تصنع تغييرًا، وتلك التي تُغلق القلوب.
وقد سجَّل التَّاريخ مشهدًا مؤثرًا يُجسِّد هذه الحقيقة النَّفسيَّة بعمق، حين نزل زهير بن القين، عائدًا من حجِّ بيت الله الحرام، في منزل قريب من موضع نزول الإمام الحسين بن علي (عليه السلام)، الذي كان في طريقه إلى الكوفة. وكان زهير قد شهد اضطراب الأمَّة بعد مقتل عثمان، واختلطت عليه المواقف بين حق وباطل، فآثر الحياد، متجنبًا الانخراط في صراعٍ يُسفك فيه دم المسلم بيد أخيه، راغبًا في أن يبقى بعيدًا عن سيوف الفتنة التي فرَّقت الصفوف ومزَّقت القلوب.
ومع إدراكه بأنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) يسير إلى مواجهة حتميَّة، كان يتحاشى الطَّريق الذي قد يلتقيه فيه. غير أنَّ مشيئة الله (عزَّ وجلَّ) شاءت أن يُنزِل القافلتينِ في منزل واحد، حيث لم تكن خيمة زهير تبعد كثيرًا عن خيمة أبي عبدالله الحسين (عليه السلام). وبينما هو جالس مع قومه، جاءه رسول من الإمام الحسين (عليه السلام) يطلب لقاءه. عندها تردد زهير، وأحجم عن الإجابة، ولم يُبد حماسة للمضي نحو اللقاء.
في تلك اللحظة، كانت زوجته "دلهم" حاضرة. لم ترفع صوتها، ولم تُجادله، وإنما قالت له بهدوء وحكمة:
"أيبعث إليك ابن رسول الله ثمَّ لا تأتيه. سبحان الله لو أتيته، فسمعت من كلامه، ثمَّ انصرفت، قالت: فاتاه زهير بن القين فما لبث ان جاء مستبشرًا قد أسفر وجهه، قالت: فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه، فقدم وحمل إلى الحسين، ثمَّ قال لامرأته: أنت طالق، الحقي بأهلك فإنِّي لا أحب ان يصيبك من سببي الأخير.
ثمَّ قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلَّا فإنَّه آخر العهد، إنِّي سأحدثكم حديثًا غزونا بلنجر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهلي: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من المغانم؟
فقلنا: نعم.
فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمَّد فكونوا أشدَّ فرحًا بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم فأمَّا أنا فإنِّي استودعكم الله، قال: ثمَّ والله ما زال في أوَّل القوم حتَّى قتل" (8).
لم تكن الكلمات كثيرة؛ لكنها حملت من الحكمة ما يكفي لتوقظ في نفسه حسَّ المسؤوليَّة، من دون أن تجرحه، ومنحته مساحة ليُعيد النَّظر من دون أن يشعر بأنَّه مقيَّد أو مجبر. وما إن سمعها حتَّى تغيَّر حاله، ونهض للقاء الإمام الحسين (عليه السلام).
لم يطل اللقاء كثيرًا، وعاد زهير من خيمة سيِّد الشهداء الحسين (عليه السلام) باسم الوجه، وقد اتَّخذ قراره. وأخبر زوجته بعزمه على الالتحاق بالركب الحسيني، والدِّفاع عن الحقِّ، وفداء بيت النبوة بنفسه.
وبهذا الموقف، تكون دلهم قد قدَّمت أعظم درس في فنِّ التَّأثير والحديث مع الرَّجل. لم تُمارس عليه سلطة عاطفيَّة، ولم تُلقِ عليه عبء القرار؛ لكنَّها فتحت له بابًا صغيرًا ليرى بعينه، ويقرر بقلبه، فانقلب موقفه من التَّردد إلى اليقين، ومن الحياد إلى التَّضحيَّة.
هكذا تكون الكلمة حين تُقال في وقتها، وبأسلوبها، وبلُغتها التي يعرفها القلب. لا تحتاج إلى كثرة، وإنَّما إلى نُبل. وتبقى المواقف العظيمة تولد من كلمات هادئة، تتسلل إلى القلوب، فتُغيِّر مسار أصحابها، وربما مسار التَّاريخ.
في ختام هذه الرِّحلة في فهم طبيعة الرَّجل والمرأة، يتَّضح لنا أن الاختلاف هو سرّ الجمال في العلاقة، ومصدر غناها وتوازنها؛ فالزواج يقوم على وعيٍ ناضج بأن التَّباين بين الزَّوجين هو مساحة خصبة للتكامل، وفرصة لصنع علاقة أكثر نضجًا وثراء.
حين يفهم كلٌّ من الزَّوجين أن الآخر مختلف، لا ناقص، وأن لكل منهما أسلوبه في الحب، والتَّعبير، واتِّخاذ القرار، ومواجهة الضغوط، تتحوَّل الخلافات من صراعات إلى جسور، ومن مصادر للتنافر إلى نقاط لقاء.
إن الاختلاف، حين يُفهم ويُحترم، لا يُمزِّق، بل يُعمِّق؛ لا يُفرِّق، بل يُقرّب. وما إن تتبدل لحظات التَّوتر إلى فرص للفهم، وتُستبدل ردود الأفعال بلحظات إصغاء واحتواء، حتَّى يصبح بيت الزَّوجيَّة حضنًا آمنًا، تُزرع فيه بذور الطمأنينة؛ فالاختلاف، حين يُصاحب بالإيمان، والتَّفهّم، والحبّ الصادق، لا يكون نهاية العلاقة؛ وإنَّما بدايتها الأجمل.