هذه هويتنا
منقذ داغر
2025-08-06 03:40
لقد اثبتت كثير من الدراسات في السلوك السياسي ان المنهج النازل-أو الفوقي- في فرض سلوكيات سياسية واجتماعية معينة سيفشل مهما استُثمرت فيه من موارد وقوة وسلطة ما لم يرافق ذلك نسغ صاعد-من قاعدة المجتمع وتحديداً التربية الأسرية- وآخر افقي يمتد عبر المجاميع المختلفة ويجسر بينها.
فالهوية الوطنية كما ذكرت سابقاً لها بعدين لا يمكن الاستغناء عن أحدهما: البعد العمودي المتمثل بنقل القيم والمشاعر من الآباء للأبناء، والبعد الأفقي حيث يتم تجسير الاختلافات الثقافية والدينية والعرقية بحيث تصبح مصدر قوة دون ان يتم تجاهلها او القضاء عليها.
هذا يعني ان الصياغة الواعية للهوية الوطنية عليها أن تركز على المشتركات دون ان تخشى التباينات، وعليها بالتالي الانتقال بحامليها من مجالهم التصوري المجتمعي السابق، الى مجال تصوري جديد أكثر شمولاً وأقل تبايناً. ولكي يحصل ذلك فلابد من ان تراعي الهوية الوطنية المخلّقّة والمتصورَة ذات العوامل الأربعة التي أشرت لها في المقال السابق:
فعلى الصعيد الايدلوجي وهو نقطة البداية التي يجب الانطلاق منها يجب حسم الجدل حول ثنائيات الحداثة والوراثة، والمعاصرة والمغادرة، والقطيعة والشريعة. من المفيد الإشارة هنا الى ما فعلته اندونيسيا التي كانت تواجه نفس الإشكالية بعد خروجها من الاستعمار الهولندي حيث كان إسلاميو اندونيسيا يعتقدون ان الاسلام هو هوية اندونيسيا في حين كان الحزب الشيوعي القوي آنذاك يرى في أممية اندونيسيا هويةً معاصرة يجب الاستناد لها. أما الحداثويون العلمانيون فقد كانوا يرون العلمانية الخالصة هي الهوية التي ينبغي اعتناقها لتحقيق المعاصرة والحداثة.
وبعد نقاشٍ ولأيٍ طويلين تم الاتفاق على ما يسمى ب»بانكاسي» Pancasi أو المبادىء الخمسة: الإيمان بالله، الإيمان بالإنسانية، والوحدة الوطنية، والديموقراطية، والعدالة الاجتماعية. لاحظوا ان كل مبدأ يستجيب لمنظومة فكرية متصارعة وأن جميعها لا تتعارض مع أي من متبنيات المنظومات الفكرية المتنافسة. فالإيمان بالله مبدأ أساسي للاسلامويين، والإنسانية والديموقراطية تستجيب لآراء العلمانيين في حين ان العدالة الاجتماعية عي في صلب فكر الأمميين.
حقائق تاريخية
الظروف التاريخية. يجب الإقرار أولاً أن الهوية الوطنية الجامعة ليست متوفرة تاريخياً لنا. فنحن دول عانت كل مجموعاتها السكانية من تشتت واختلافات أملتها ظروف معينة، وأجبرتها على اختلاف هوياتها «الاجتماعية». لذا فأنه لا توجد هوية «سياسية» شاملة يمكن فرضها على الآخرين، بل يجب صياغتها بطريقة تراعي هذه الحقائق التاريخية التي تميّز المجموعات السكانية المختلفة ولا تعطي الحق لأي منها أن يفرض رؤاه ومعتقداته على الآخرين مهما بلغت قوة وحجم هذه المجموعة أو تلك.
فالهوية المراد تبنيها وارتدائها تاجاً على رؤوس الجميع لا تخص طائفة دون أخرى ولا مجموعة دون الأخرى. مع ذلك ينبغي التأكيد أن هذه الهوية المراد تخليقها لا تتعارض مع الهويات الاجتماعية ولا تنتقص منها لكنها هي التي ستسود في المجال السياسي التصوري.
وينبغي أن يكون واضحاً للجميع انه عند حصول تعارض بين الهوية الوطنية وبين إحدى الهويات الفرعية فأن الأولوية يجب ان تكون للهوية الوطنية التي يجب ان لا تنافسها أية هوية او أي ولاء في المجال السياسي على الأقل.
من جانب آخر فأن أي ممارسات او سلوكيات اجتماعية يمكن ان تسبب مشاكل للآخر او تنال من معتقداته وحقوقه كمواطن لا بد ان يتم التصدي لها بقوة حتى ولو كان ذلك المواطن الذي تم الحط من معتقداته او حقوقه ليس الا فرداً واحداً.
التشظي الاجتماعي والمكوناتي. يجب ان يكون واضحاً ان الدولة ملك للجميع ولا تتفوق فيه أي هوية على الأخرى سواءً لكثرتها او دينها او قوميتها. المواطنة في العراق هي الأصل «السياسي» وكل الطوائف والملل هي الفروع. على هذا الأساس يتم صياغة الهوية الوطنية. ولا يمكن القبول بمبدأ المحاصصة التي تجعل لكل طائفة نصيباً في الحكم او الوزارات او المؤسسات، بل يجب ان يكون لكل مواطن نصيباً متساوياً فيها. فوحدة القياس اذاً هي المواطن وليس الطائفة.
ويجري تجريم كل موظف خدمة عامة مهما كان عنوانه او انتماؤه اذا أشار او استخدم في نطاق عمله ما من شأنه ان يُفهم بأنه تفضيل لأحدى الهويات الفرعية أو أولوية لها على الهوية الوطنية. أن الهوية الوطنية في العراق يجب ان تصبح كالملك «مصونة غير مسؤولة».
المؤسسات الوطنية. لا هوية لأية مؤسسة عامة سوى الهوية الوطنية. ولا يتم اشغالها او التعيين فيها او عملها الا على هذا الأساس وتحت عنوان واحد هو العراق. يجب ان يشعر كل العراقيين ان مؤسسات الدولة وبضمنها بل وفي مقدمتها المؤسسات القضائية والأمنية هي مؤسسات لا تقبل القسمة الا على واحد وهو العراق. ان الفرق الأساس بين العراق وكثير من دول منطقتنا التي تمتاز بتنوع هوياتي، وبين الدول المتقدمة التي تمتاز ربما بتنوع هوياتي اكبر هو المؤسسات الوطنية. فلا يمكن مثلاً التشكيك بالقضاء في اليابان بأنه يتحيز للشنتو على حساب البوذية. كما ان السود في أمريكا يمكنهم ان يصبحوا رؤساء للاركان او وزراء للدفاع او مديرين للسي آي أي CIA او FBI او حتى رؤساء جمهورية. هذا لا يعني عدم وجود استثناءات او تحيزات هنا وهناك لكنها ليست تحيزات النظام بل شخصيات تعمل فيه.
هوية وطنية
أخيراً فأن الاخلاص للهوية الوطنية هو المعيار في الحكم على وطنية المواطن وليست تبعيته او جذوره. ان التمسك بمقاربات اثبتت فشلها في العراق وكل دول العالم تاريخياً من مثل «هذا ليس اصله عراقي»، وعدّها معياراً للحكم على وطنية وهوية هذا او ذاك هو من الأخطاء المدمرة لأي هوية وطنية.