من المستبد؟ الشعوب أم الأنظمة؟

عبدالله العبادي

2025-07-10 03:44

على أرض الواقع، لم تنجح مسارات بناء ما يسمى بالديمقراطية حتى الآن في أوطاننا، بل ظلت البيئة السياسية العربية حالة شاذة غير قادرة على الإثمار. ذهب البعض وبرَّر ذلك بأن الديمقراطية نظام غربي لا يناسب بيئتنا، وأن التاريخ العربي قد أثبت أن الدكتاتور العادل هو الأنسب لشعوبنا. ويرى آخرون أن الشعوب والنخب العربية غير قادرة على فهم حيثيات وأنماط التغيير، وتاهت بين الأصالة والحداثة.

قد تكون فكرة الدكتاتور العادل أقرب فهم للواقع، إذ تقوم على فكرة وجود الدكتاتور الحازم صاحب الرأي الثاقب، من يملك الحكمة والقوة والضمير، والقادر على تحقيق العدالة والأمن، والقادر على تجديد الفكر والبرامج والمشاريع. إلا أنها شخصية قد لا تكون سوى حالة طوباوية استنبطها العرب من خلال تجارب تاريخية مريرة؛ لأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، والدكتاتورية أول درجة في سلم الظلم والفساد، لأن حكم الفرد هو البيئة المثالية التي يعيش ويتفشى ويتمدد فيها الظلم والفساد وسوء الإدارة والفوضى، ومهدد بالانهيار بعد ذلك.

يقول عبد الرحمن الكواكبي، الذي لا يفصل بين صفات الحاكم وشعبه، فيقول: "وإذ سأل سائل: لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين؟ فأبلغ جواب هو أن الله عادل لا يظلم أحدًا، فلا يولي المستبد إلا على المستبدين. ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسرى الاستبداد مستبدًا في نفسه، لو قَدَرَ لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم، حتى ربه الذي خلقه، تابعين لآرائه وأمره، فالمستبدون يتولاهم مستبد، والأحرار يتولاهم الأحرار".

حتى مع سنوات الهدوء، "سمِّها كما شئت ديكتاتورية أو ديمقراطية"، بكل ما أتاحته من فرص وإمكانيات، فقد عجزنا عن بناء مؤسسات صلبة وبرامج ومشاريع مثمرة ومستديمة، بل كانت في أغلبها مرحلة سجال عقيم وصراع مرير على مراكز السلطة، كما شكّلت مناسبة لخصوماتنا الأيديولوجية والفكرية العقيمة التي أجلت دوماً فرص التغيير والبناء. 

كل هذا منعنا من إحداث نقلة نوعية في الثقافة السياسية، بل إن العديد من المفكرين والمثقفين والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، داعبته أحلام المستبد العادل وراهن عليه لتحقيق الاستقرار. مما يحيلنا إلى أسئلة جوهرية حول مدى أهلية شعوبنا ونخبنا للتغيير، أي هل نحن مؤهلون، فكريًا وثقافيًا لنظام حر وعادل؟ وقبل الإجابة، أليس من الضروري أولاً الحديث عن المستبد الذي يسكننا جميعاً لمواجهته؟

لكن لماذا فشلنا في الكثير من المحاولات؟ هنا يحضر معطى تبريري آخر يريح الكثير من عناء التفكير وجرأة النقد والنقد الذاتي، للحديث عن المؤامرات المستمرة التي تستهدفنا. وهكذا يظل العربي يعيش واقعاً معلقاً بين وهمين: ماضٍ نحلم باجتراره، ناكرين دوماً مصائبه وإخفاقاته، وحاضر لا نستطيع بناءه ولا فهمه ولا مواجهة تحدياته.

النتيجة أن الشعوب لم تنضج بعد، على مستوى الفكر والثقافة، وحتى النخب تقف اليوم عاجزة أمام التحديات الكبرى التي يفرضها نظام عالمي جديد لا يرحم. والسبب نرجعه لنقطتين أساسيتين:

أولاً: عدم وضوح فكرة التغيير في مخيلة الشعوب التي تُعَد الركيزة الأساسية في عملية البناء الديمقراطي، بما فيه النخب الفكرية، خصوصاً تلك التي عايشت حقبًا استبدادية، فصارت نخبًا إيديولوجية بلا مشاريع ولا برامج تغيير، تحاول فرض نمط محدد من السلوك الاجتماعي على الآخرين.

ثانياً: عدم وضوح فكرة التغيير نحو العدالة الاجتماعية والبناء الديمقراطي في الحكم والتداول السلمي للسلطة، حيث أصبحت الأحزاب السياسية والنخب السياسية المنتخبة تمارس الاستبداد، وأحياناً تحرض الناس ضد المؤسسات الديمقراطية التي أنشأتها.

ذات صلة

البشائر النبوية لمقيمي الشعائر الحسينيةمركز المستقبل ناقش.. دور الشعبوية الانتخابية في تغييب الوعي وضياع المستقبلعندما ينتصر الرأي العام للوطنالذكاء العاطفي مقابل الذكاء العقليأيها الناخبون: لا تنخدعوا مرة أخرى