أطفال الآيس كريم في قاعة صندوق النقد الدولي: تربية ناعمة في بيت القرار المالي العالمي

د. مظهر محمد صالح

2025-06-29 04:49

في ظهيرة خريف ساكن، كان لقاؤنا برئيسة صندوق النقد الدولي يومها في مبنى تلك المؤسسة المالية الدولية المتعددة الأطراف. كان اجتماعًا جمع بين الروتينية والجدية في استعراض علاقات بلادنا ببرامج الصندوق الصعبة والمعقدة، التي تعود لسنوات مضت. انتهى الاجتماع بدعوة عابرة للاطلاع على قاعة المجلس التنفيذي للصندوق، وهو مكان يحمل الكثير من الهيبة والرمزية، ويُعد مصنع القرارات المالية والنقدية الدولية. سررنا بما شاهدنا من معالم ضمت المكان نفسه.

بين همس أعضاء الوفد عن الصور التاريخية لتلك القاعة التي ضمت شخصيات صنع القرار على مر العقود، منذ انعقاد اتفاقية صندوق النقد الدولي في بريتون وودز عام 1945، تنفس محدثنا الصعداء بابتسامة عريضة ليخبرنا بأن واحدة من أهم الزيارات التي شهدها هذا المكان كانت زيارة في السنة الفائتة لرياض الأطفال في مقاطعة العاصمة واشنطن. كانت استضافتهم وتعريفهم في مشهد فريد جمع الطرافة بالرمزية العميقة، حين استضاف صندوق النقد الدولي في مقره الرئيس مجموعة من تلاميذ رياض الأطفال من مدارس واشنطن، في زيارة غير اعتيادية لمقر يُعرف عالميًا بكونه أحد أعمدة القرار الاقتصادي العالمي. والطريف في الزيارة هو إقامة دعوة رسمية على شرفهم، حيث قُدم للأطفال مختلف أنواع الآيس كريم. بين السكون ودهشة الاستماع، كان الرجل التكنوقراطي يسرد لنا التفاصيل كيف انتهى الأطفال إلى زيارة قاعة اجتماعات المجلس التنفيذي للصندوق، التي "أنتم فيها أيها الرجال من بلاد الرافدين"، يوم دار النقاش بين أولئك الأطفال عن نوع المرطبات المذكورة ومذاقها واختلافها عما هم معتادون تناوله في حياتهم اليومية، وأي الأنواع كان الأفضل، وأخيرًا انتهى النقاش بالتصويت عن أفضل أنواع الآيس كريم الذي تم تقديمه.

وبينما كان محدثنا يتكلم، وأنا أستعرض بنفسي سفراتي المدرسية في القرن الماضي وكيف كانت تكسبنا السعادة والثراء الاجتماعي والنفسي خارج ضغوط الفصول المدرسية، وكيف كانت والدتي تزودني بكيس بسيط يضم الطعام الجاهز لكي أسعد بأكثر من سفرة مدرسية إلى بابل أو سدة الصدور وغيرها، ظل الرجل يسرد في حديثه ويكرر: "بأن الذي أنتم فيه ليس بالمكان العادي، إنها قاعة المجلس التنفيذي للصندوق، وهي القاعة التي شهدت قرارات تاريخية أثرت في مصائر دول وشعوب واقتصادات". وتحت جدرانها صور فوتوغرافية متسلسلة لمدراء الصندوق منذ إنشائه في عام 1945، حيث جلس أولئك الأطفال من العاصمة واشنطن لا ليقرروا بشأن ديون سيادية أو إصلاحات مالية، بل ليناقشوا بكل حيوية وفضول أنواع الآيس كريم المقدمة لهم في زيارتهم تلك!

ثم توجهنا نحن الكبار بالسؤال إلى محدثنا عن مغزى قيام الصندوق بمثل هذه الأنشطة المدرسية الجميلة. تبسم وهو شديد الراحة والطمأنينة في سرديات الحدث الذي محوره ضيافة الصندوق في تقديم قطع الآيس كريم وإشهار الود بين الصندوق وأطفال العاصمة، ليبلغنا برسالة كانت من أشد المشاركات وضوحًا وقناعة، قائلًا: "هنا، تتجلى قوة الفكرة التربوية بتحويل فضاء القرار الرسمي إلى مختبر صغير لتجربة حس المواطنة، والنقاش، واحترام الرأي المختلف، والاختيار الحر. إنها ليست المسألة في نكهة الآيس كريم بحد ذاتها، بل في آلية اتخاذ القرار الجماعي، وحرية التعبير عن الرأي، والقبول بنتائج التصويت". وليقول لنا إنها رسالة في التربية المؤسسية التي تبدأ من الطفولة، وإنها التجربة التي تعكس بلا شك فلسفة تربوية عميقة تمارس لا تعتمد على التلقين، بل على التعريض المبكر للأطفال للمؤسسات والرموز العامة. فحين يجلس الطفل في قاعة رسمية، يتشرب الطفل دون وعي معنى "المكان"، و"القرار"، و"التاريخ"، لتتكوّن لديه حساسية مبكرة تجاه الفضاء العام، ويتعلم من خلال التجربة المباشرة لا من خلال الموعظة. إنها حقًا قاعة المجلس التنفيذي التي طالما اتُّخذت فيها قرارات غيرت مصائر شعوب، تتحول إلى ساحة نقاش طفولي بريء، ترسّخ في ذهن الطفل – دون تلقين – معنى المكان العام، وأهمية القرار، وجوهر الحوكمة.

قلت في سري: من هنا يبدأ الاستثمار في البشر. فزيارة كهذه، ولو بدت بسيطة، هي شكل من أشكال الاستثمار في رأس المال البشري طويل الأمد. فصندوق النقد الدولي – المعروف عادة بصورته الصلبة كجهة فنية تراقب وتوصي وتضغط – يقدم هنا وجهًا آخر كمؤسسة تهتم بجيل المستقبل، وتسعى لغرس مفاهيم المشاركة والحوكمة منذ سن مبكرة.

طوينا أخيرًا أرجلنا صوب مكان إقامتنا في الفندق المخصص لنا في العاصمة واشنطن، واستلقيت على فراشي وأنا أفكر أن الآيس كريم لم يكن الهدف، بل وسيلة تربوية ذكية، والأطفال ليسوا زائرين عابرين، بل مواطنون صغار يؤهلون لعالم معقد ومفتوح. كما أن الدهشة التي صاحبت سماع تفاصيل هذه التجربة كانت نابعة من الفجوة بين ما هو متاح هناك، وما نفتقده في مجتمعاتنا. فليس المطلوب أن نجعل كل طفل في بلادي يجلس في قاعة وزارية، لكن من الضروري أن نفكر:

كيف نبني الروح المؤسسية لدى أطفال بلادي؟

كيف ندرّبهم على الحوار والنقاش وقبول الرأي الآخر؟

كيف نمنحهم الشعور بالانتماء إلى الفضاء العام، منذ نعومة أظافرهم؟

فأطفال اليوم، هم رجال الغد. إنها حقيقة تربوية، وتجربة الصندوق مع أطفال الآيس كريم رغم بساطتها الظاهرة قد تكون نموذجًا يُحتذى به في إعادة التفكير بتربية الأجيال على روح الانتماء والحوار والقرار. إنه مسار طويل في عالم طفولة رقمي بات اليوم كل شيء فيه مختلف.

ذات صلة

بعاشوراء الحسين نثبت.. وبالهوية ننهضسَقَطَات ترامب الدبلوماسية ترسم حركته في روسيا والشرق الأوسطحياد العراق: موقف عقلاني لحماية البلد من نار الإقليمالعدلُالنفاق الإنساني وازدواجية المعايير والقانون في غزة