عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنة
حكمت السيد صاحب البخاتي
2024-11-23 05:24
لقد دأبت أقلام وأفكار المستشرقين وتبعهم المفكرين والكتاب الأوربيين على تحديد عالم الإسلام تاريخيا وجغرافيا في مفهوم واحد وهوية واحدة ولم يكن يصدر أولئك عن فراغ في الاستدلالات على ما ذهبوا إليه وصنعوا عنه رؤية واحدة تكاد أن تهيمن على الذهن الغربي باعتباره ذهنا وتاريخا وعالما مقابلا أمام عالم الإسلام، لقد تحول اكتشاف الشرق من خلال الإسلام الى أيدلوجيا تحفر أفكارها في الذهن الغربي في ثنائية الشرق–الغرب.
بل إن ظهور مصطلح المستشرقين وتطوره لاحقا الى مصطلح الاستشراق جاء في مجريات ذلك التحول الأيدلوجي في مفهوم الشرق عند الغربيين لا سيما مع التخصص الأكاديمي والفكري في الاستشراق وموضوعه الإسلام منظورا إليه في عالم الشرق، وحقيقة امتزاج الشرق بالإسلام في عالم الإسلام راسخة تاريخيا وجغرافيا وثقافيا وهو يكشف عن تماثل عالم الإسلام في كل أطواره وأدواره التاريخية والثقافية، ولابد من التنويه هنا أن تلك القراءة من جانبنا توظيفية في ما كتبه (إرنست غيلّنر) وهدف تلك القراءة هو كشف صور التماثل التاريخي والثقافي في عالم الإسلام.
ويبدو أن الذكاء الغربي كان دقيقا وجادا في اكتشاف تلك العلاقة غير المتوفرة بانتماءات الأديان الأخرى الى مجالاتها الجغرافية والثقافية، فقد أصابت تلك الأديان انتكاسات على صعيد علاقاتها بمجتمعاتها ودولها ولم تعد قادرة على التأثير فيها أو قادرة على حزم قراراتها بوجه التحديات التي واجهتها لا سيما تحديات الحداثة التي أسهمت الى حد بعيد في زيادة ضمورها وتراجعها، يقول غيلّنر (كانت أربع حضارات رئيسية لا تزال موجودة في نهاية العصور الوسطى وقد يكون الإسلام وحده من بينها هو الذي تمكن من الحفاظ على عقيدته التي كانت سائدة في فترة ما قبل الصناعة في العالم الحديث، فالعقيدة المسيحية قد أعيد تفسيرها وتكييفها بحيث يصعب التعرف عليها فاللاهوت المسيحي المحدث بمحتواه المائع أقوى شاهد على أطروحة العلمنة أكثر من أي عقلانية ظاهرة ولقد أنكرت الكنفوشيوسية في وطنها بصرف النظر عن مقدار ما يمكن تتبعه من بقايا روحها وبقيت الهندوسية كدين شعبي لا يحتفى به ولا تمنعه النخب في أرضه ووطنه)[1].
وباستثناء الإسلام الذي لم تتمكن الحداثة من اختراق صلادته أو التأثير عليه في علاقاته المكانية والاجتماعية–الثقافية إلا بقدر محدود وتأثيرات لم تمس صلب أعماقه وأعماق نفوذه وقوته في عالم الإسلام، وهنا يقول غيلنر (وبقى الإسلام وحسب عقيدة جادة متغلغلة في التقليد الشعبي والتقليد الراقي على السواء وتقليده الراقي يمكن تحديثه وعملية التحديث يمكن أن تقدم لا على أنها بدعة أو تنازل للأجانب وإنما على أنها استمرارية وتكملة لحوار قديم داخل الإسلام بين المركز الأرثوذكسي والبدع المنحرفة)[2]، وخلافا لما ذهب إليه غيلنر فإن مجادلة الإسلام مع الحداثة لم تكن ضمن صراعات الأرثوذكسية الإسلامية والبدع في كل جوانبها فقد تبنت نظريات إسلامية وأيدلوجيات إسلامية الحوار مع الحداثة ومواجهة تحدياتها استنادا الى التأويلات الإسلامية ومجادلات الاجتهاد والكلام الإسلامي، وقد استطاع الإسلام مواجهة الحداثة في قعر دارها ومحاولته التغلغل في عالم الحداثة وجغرافيا مناطقه في شمال البحر المتوسط وقد عزز تغلغله في أوربا الفقر الروحي بعد تخلي المسيحية عن أدوارها الدينية والروحانية بعد رحلة تاريخية مريرة أساءت فيها الكنيسة الى أدوارها تلك.
وكانت الامبراطوريات الاستعمارية الغربية الكبرى في مفتتح القرن العشرين قد سعت الى تفتيت هذا العالم جغرافيا ومن ثم سعت فيه إدارات تلك الامبراطوريات الى تفتيته تاريخيا وقد جاءت أخيرا محاولات ترعاها دوائر استشراقية وسياسية–أكاديمية الى تفتيته ثقافيا من أجل إدامة السيطرة عليه وإبقاءه أسير ذلك التفتيت الذي مضى عليه ما يقارب المائة عام، وإذا نجحت أوربا في تفتيت عالم الإسلام سياسيا وإداريا فإنها فشلت ثقافيا واجتماعيا، فقد ظل عالم الإسلام بكل امتداداته يستحضر الإسلام ثقافيا واجتماعيا كأهم عناصر مكونات الهوية العامة في مجتمعاته التي تتعدد فيها هوياته العرقية والمحلية والخيط الرابط فيها في هذا العالم هو الإسلام.
ويظل الإسلام منظورا أساسيا في رؤية الغرب تجاه المجتمعات العربية والإسلامية وخيطا رابطا ومحورا حاسما في فهم تركيبة وطبيعة الشخصية العربية والإسلامية هذه الشخصية التي لا تعد في شروحاتها وتقييماتها الغربية إلا نسخا مصنوعة عن الدين الذي هو الإسلام حصرا، ورغم ان الوقائع والتصورات من وجهة نظر رجال الإسلام علماء وفقهاء وأساتذة دينيين وكتّاب يعنون بالشأن الديني–الإسلامي يجدون في هذه الشخصية العربية والإسلامية الحديثة ابتعادا ظاهرا عن الدين وانصرافا الى الدنيا ويجدون أيضا في الأجيال الحديثة تخل واضح عن الإسلام الموروث من حقب الأسلاف وقد ترجموا ذلك بالحديث المأثور "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا"، إلا أن الرؤية الغربية العالمة والشعبية ظلت تركز على محورية الدين وتركيبة الإسلام في تلك الشخصية موضع الدراسة وموضوع البحث الأكاديمي الغربي وهو يؤشر حجم وبعد الشقة في الاختلاف في المنهج وفي الافكار المترتبة على ضوء تلك الدراسات والمواقف.
تماثل عالم الإسلام استنتاجا عن غيلنر:-
لقد تحدث ديفيد شاكلاند أحد تلامذة ارنست غيلنّر صاحب كتاب "مجتمع مسلم" عن منهجية أستاذه في دراسة المجتمع المسلم وفي مقدمة كتابه رأى أنه اعتمد العيش مع الدين في ذلك المجتمع وهو يعني به مجتمع المغرب المسلم ولم يعتمد طريقة دراسته من خلال النصوص وأن استنتاجاته جاءت من خلال الدورة اليومية للحياة الدينية في ذلك المجتمع، لكن غيلنّر كان دقيقا في توصيف ارتباط الإسلام بواقع المجتمعات المسلمة أو على حد عبارته المجتمع المسلم الذي يرى فيه تغلغلا للإسلام منشرا وواسعا سواء في تقليده الراقي أو تقليده الشعبي[3]، ويعني بتقليده الراقي النخبوية العلمية والاجتماعية في الإسلام أو ما يطلق عليهم الخاصة في التراث الإسلامي والتقليد الشعبي مجموعة الفرق والتصورات الشعبية عن الإسلام أو ما يقابلها في التراث الإسلامي مفهوم العامة، ثم إن الإسلام رابط لكل الحضارات التي أنشأها وقامت على أنقاض حضارات سابقة وصنع إمبراطوريته وحضارته الخاصة به فهو لم يكن منتميا الى حضارة سابقة أو إمبراطورية جاهزة كما هو شأن الديانة المسيحية[4]، ولم يتكاسل أو يعجز عن بناء حضاراته الخاصة كما هو شأن الديانة اليهودية، وكل الديانات كانت تنشأ في ظل حضارات وإمبراطوريات سابقة عليها كالبوذية والكنفوشيسة والزرادشتية إلا الإسلام فإنه كانت في ظله وتحت سقوفه تنشأ الحضارات الخاصة به.
وهنا أشدد على كلمة "حضاراته" وليس حضارته بصيغة المفرد وكان فعلا تتمثل وظيفته في الربط بين تلك الحضارات على اختلافها العرقي والاجتماعي والثقافي وبتأثير ذلك الربط الديني والروحي والعقائدي ومن ثم الثقافي تبلورت الهوية الإسلامية في تلك الحضارات ومن ثم تبلورت صياغة تلك المجتمعات بعد انقضاء عصور حضاراتها فتأسست هويتها الثقافية الإسلامية على امتداد ذلك العالم الواسع والعابر لأكبر قارتين في الأرض.
ويتحدث غيلنّر عن تلك الماهية الدينية في المجتمعات الاسلامية التي تتعلق بالهوية وبالمصير الذي تتطور باتجاهه هذه الماهية انه بشكل آخر يتحدث عن عالم واحد يمتد من الخليج الى المحيط انه العالم الإسلامي، ويبدو ان حدود بحثه وهوية بحثه الانثربولوجي دعته الى استبدال اسمه بمجتمع مسلم، والمجتمع المسلم وفق غيلنّر او استنتاجا عنه يعمل على استعادة ذاته دائما ولكن ليس بطريقة او صفة الجمود وعدم الانحلال عن الماضي كما تصوره الانتقادات العلمانية العربية وقبلها الغربية بل عن طريقة او بصفة الالتزام الهوياتي بالماهية الاجتماعية الإسلامية.
لقد تحول التقليد الراقي والذي يفهم لدى غيلنّر بأنه الارثذوكسية الإسلامية أو ما كان يعبر عنه العلماء والفقهاء من فهم نخبوي للإسلام الى تقليد شعبي عام في المجتمعات الإسلامية المعاصرة وصار التقليد الشعبي القديم محل استنكار من قبل الموقف أو الرأي العام باعتباره تخلفا وتراجعا عن التاريخ الحديث[5]، وقد أنتج ذلك التحول في التقليد الراقي أو النخبوي القديم الى موقف أو رأي عام في الدول المسلمة الى تكريس مفهوم الهوية في ثنائية التقابل مع هوية الغرب أو هوية الحداثة وتستند تلك الهوية الى مفهوم النقاء والذي يضعه غيلّنَر في ثنائية مع الحداثة ويعتبر أن ثنائية النقاء/ الحداثة تأكيد على هوية محلية قديمة مزعومة[6] وفق قوله، لكن بالمحصلة أن دراسته تؤكد وترسخ فكرة هذه الهوية المحلية القديمة التي تنتمي في جوهر الفهم لها الى تأكيدات وتحديدات وتجذيرات النخبوية الإسلامية القديمة من العلماء والفقهاء في قبالة كل الهويات الأخرى التي تقف على حدودها وتحذر من الانصهار بها أو الامتزاج بها الهوية الإسلامية، لقد استطاعت بعض الهويات الاجتماعية ذات الأصول الإسلامية أن تفلت من الهوية الإسلامية وأن تعمل على إزالة الكثير من رموزها أو ما يذكرها بتاريخ انتمائها الى الإسلام ومنها الهويات الاجتماعية في تركيا وجمهوريات أواسط آسيا لكنها أخيرا عادت الى تلك الانتماءات التاريخية والثقافية وبعضها لازال في طريق العودة وهي تشكل حالة من التماثل القائم والراسخ في مجتمعات الإسلام المتعددة والمتشكلة عبر تاريخها الخاص لكنه تشكل يتم دائما في ظلال الإسلام وتحت يافطته العقائدية والثقافية.
القبائل والدولة - العلاقة الإسلام:-
واحدة من أهام المسائل في ذلك التماثل في مجتمعات الإسلام والتي يتشكل دائما فيها تاريخها الخاص والتي يعالجها غيلنّر ويشدد النقاش حولها في نظريته هي العلاقة بين القبائل والدولة وكيفية إمداد الدولة بالطاقة القبائلية في وجودها وفي الدفاع عنها، ولذلك يتعمد بشكل كامل على نظرية ابن خلدون في تفسير النشأة التاريخية والسياسية للدولة العربية أو المسلمة في هذا العصر ولكنه يستعين أيضا بنظريات علماء الاجتماع الغربيين من دور كهايم الى ماركس مرورا بانجلز ويقارن بين نظرية هيوم في البندول المتحرك ونظرية ابن خلدون في علاقة القبائل بالدين، فالدين وفق هيوم كما يؤكد غيلنّر يرتبط بالجانب النفسي وتحدث التحولات فيه بين التوحيد والشرك نتيجة اختبارات نفسية وقناعات دينية شخصية وهي في نظره عملية دورية تمر بها كل الأديان، ولكن ابن خلدون حين تتضمن نظريته التحولات في الدين فإنه يحيلها الى الجوانب الاجتماعية والسياسية والتاريخية، فالسلطة وطبيعة الاستيلاء على الحكم تنتهي أخيرا بالإنسان أو بأفراد القبائل التي أمسكت بالسلطة واستولت على الحكم أن يعيشوا عيش الدعة والرفاهية ويتخلوا عن حياة التقشف وسلوك الزهد المطبوعة به الشخصية البدوية وتتوافق به مع الدين الذي توفر له العصبة القبلية ويوفر لها العصبة السياسية أو السلطة والدولة ويبدأ الدين بالتراجع على أثر ذلك السلوك السياسي الدنيوي وهو ما يمكن استنباطه من ابن خلدون بالمقارنة مع شروحات غيلنّر له.
لقد ظلت القبائل هي التي تقيم وتؤسس الدول والإمارات في تاريخ الإسلام وقد شملت هذه الظاهرة عالم الإسلام على كل رقعته الجغرافية الممتدة من شرق آسيا شرقا الى أواسط آسيا شمالا الى غرب أفريقيا وأواسطها غربا وجنوبا، وبسبب هذه العلاقة التاريخية والمتجذرة في الهوية الاجتماعية الإسلامية ظلت تأثرات القبيلة تمارس أدوراها السياسية والاجتماعية في الدولة العربية والمسلمة الى هذا الزمن المعاصر، وقد تحولت في أنحاء كثيرة في عالم الإسلام المعاصر الى تمثلات وهويات قومية وفرعية كانت قد ضيقت الخناق كثيرا على دعوات واتجاهات الهوية الوطنية التي بدأت تتأسس وتنتعش في العقد الثاني من القرن العشرين بعد إزاحة الهوية الإسلامية في صيغتها السياسية عن الدول والحكومات التي تأسست بعد سقوط الدولة العثمانية التي كانت سباقة بعد ذلك الى تمثل الهوية القومية كهوية وطنية وبصيغة مناكفة للهوية الإسلامية.
إن ما يدعو الى التأمل والتفكير هو كيف صارت هذه القبائل ذات الأصول المتباينة والأعراق المختلفة والثقافات الاجتماعية غير المتماثلة أن تشتغل بطريقة التأثير المتماثل على الدولة في الإسلام فلم تكن تتماثل في أساليب عيشها وفي أساليب التعبيرات وفي أساليب الفهم لما يحدث حولها، إلا أنها تماثلت في اعتناق الإسلام ويبدو أن شخصيتها الاجتماعية الجديدة وحتى السياسية تمت صياغتها وفق القناعات الإسلامية التي وصلت إليها سواء عن طريق الغزوات أو التجارة أو الاختيار الحر.
يبدأ غيلنّر في المقارنة بين البروتستانتية الموحدة والكاثوليكية التعددية – الوثنية وفق قوله والملفعة بغطاء شفاف من الوحدانية ووفق تقييمات ديفيد هيوم أيضا ويستعرض المناكفة بين المسيحية والوثنية الرومانية التي بدأ تستشعر بها الذات الأوربية في العصور الوسطى والمقارنة المتطرفة التي آمنت بها النخبوية الأوربية في نهايات العصور الوسطى بين المسيحية الداعية الى التواكل والانانية وترك عالم الدنيا وتصويب الاتجاه صوب عالم الآخرة وما أنتجته من أخلاق الضعف والانحلال أو أخلاق العبيد، كما في نظرية نيتشه والوثنية الرومانية التي ترسخت فيها قيم النبالة والحرية والطولة والصفات القومية العليا للإنسان الأوربي، وفي تقييمات هيوم فإنه يتحدث عن تعددية أو وثنية كاثوليكية لكنها غير متجذرة فيها تلك القيم بل هو لا يناقش وجودها أو عدم وجودها فيها إنما يحيلها الى ما تنتهي إليه دائما الأديان في تأرجحها بين التعددية – الوثنية والتوحيد، وقد أحرزت البروتستانتية التوحيد وبالحماس المعهود عند الموحدين وفق رأيه هذا التوحيد البروتستانتي والحماسي من وجهة نظر هيوم هو الذي أسس لأنظمة ودول الحرية في شمال غرب أوربا فالرجال المؤمنين وبالحماس الأول استطاعوا إقامة هذه الأنظمة التي بدأت قاهرة وقمعية للحريات، ثم تعرض ذلك الحماس البروتستانتي الى النسيان فصار التسامح سمة تلك الدول وأنظمتها وسياستها.
ورغم أن غيلنّر لا يؤيد هيوم من الناحية التاريخية في ما ذهب إليه إلا أن ملاحظته الأخيرة تدعوه الى المقارنة بين هؤلاء البروتستانت ورجال الدين المسلمين إذا تعرضت الى الخطر دولهم وأنظمتهم المشوبة بالدين والشريعة، ويعود الى ابن خلدون بشكل تأصيلي في نظريته في الدولة في الإسلام وفي علاقتها بالقبيلة أو القبائل، فالدولة التي تقوم على الفضائل السياسية والاجتماعية وهو يعني بها هنا فضائل القوة والقدرة على تأسيس الدولة يجدها ابن خلدون في الحياة القبلية التي يمكن أن توفر من وجهة نظر غيلنّر أيضا الفضائل المدنية المتمثلة بالتماسك وروح الجماعة لكنها أخير تنتهي في مسلسل ابن خلدون الى الرقة الحضارية التي تتسبب بانتهاء وانهيار الدولة في الدورة الخلدونية[7].
هنا يؤشر غيلّنر الفارق بين مجتمعات الدول في أوربا ومجتمعات الدول في الإسلام وهي إشارة مهمة فالمجتمعات الفلاحية أو مجتمعات الفلاحين في أوربا كانت تعيش الاضطهاد والخضوع الى النبلاء ولم يكن لديهم مفهوما عن الحرية والقوة بينما كان سكان المدن في دول أوربا يعشون أحرارا الى حد ما ولعل جمهورية افلاطون تعكس هذا التصور الحقيقي عن تاريخ الدولة في أوربا، ولا يكف غيلّنر عن الاستشهاد والمقارنة بأفلاطون مع ابن خلدون باعتبار أن كل واحد منهما يقدم نموذجا عن دولته وعن تاريخه السياسي والاجتماعي، وهنا يقدم ابن خلدون مفهوم القبيلة في قبالة مفهوم الأحرار الذي أسست له النظرية السياسية الإغريقية.
وفي استقصاءات غيلّنر الميدانية في الشريط المغربي فإن الريف يشكل جزأ من التقليد القبلي أو امتدادات القبائلية في عالم الإسلام ويكتشف غيلّنر أن مضمون نظرية ابن خلدون تفترض اقتران المدنية بروح الجماعة التي يتمثلها مفهوم العصبة في القبيلة ويقول استنتاجا عن ابن خلدون (وبدون القبائل لا توجد روح مدنية وبدون المدن / الأمصار لا توجد حضارة)[8]، واستنتاجا عن غلينر نجد أن الدين وهنا الإسلام في دخوله في الفضاء القبلي أو في حياة القبيلة فإنه يسهم في الدمج بين القبيلة والمدينة من خلال توثيق علاقات العصبة بالتعاليم الدينية – الإسلامية وتنظيم علاقة القبيلة بالدولة من خلال الشريعة وهي شرط المدنية باستبدال قيم القبيلة العرفية بالشريعة في التنظيم المدني للدولة، وبعد إن يصف ابن خلدون طباع القبائل بالتوحش وأنهم أصعب الأمم انقيادا للغلظة والأنفة والتنافس على الرياسة فيهم وعدم اجتماع أهوائهم يضيف قوله (فإذا كان الدين بالنبوة والولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم)[9] فالدين يذهب بالغلظة والأنفة والحسد والتنافس[10]، وذهاب تلك الخصال القبلية من مقتضيات المدنية ومسالك أهل المدينة في اجتماعهم المدني، ولكنها تؤدي بهم الى إقصاءهم وابتعادهم وباختيار منهم عن السياسة وافتقادهم القدرة في الدفاع عن مدينتهم أو دولتهم فالدفاع عنها موكول الى طبقة المحاربين النبلاء في جمهورية افلاطون والى القبائل والبدو في دول الإسلام التاريخية وهو ما يشدد عليه ابن خلدون في نظريته، وتؤيده وقائع وأحداث التاريخ في دول الإسلام وتكاد تلك الظاهرة تهيمن على مجريات الأحداث السياسية في نشأة وتأسيس دول الإسلام التاريخية فكلها قامت ونشأت بواسطة القبائل لا سيما البدو فيها من العرب والعجم وعلى امتداد جغرافيا العالم الإسلامي من شرقه في آسيا الى غربه في أفريقيا ومن شماله في آسيا الوسطى الى جنوبه في أفريقيا، مما يؤشر تلك البنية السياسية والاجتماعية المركبة والمتماثلة في العالم الإسلامي وهو مما يؤكد تماثله واتساقه في الهوية السياسية والاجتماعية على امتداد تاريخه الذي توقف على أثر انحلال الدولة العثمانية وسقوط الإمارات الإسلامية في الهند وآسيا الوسطى في وقائع وأحداث الحرب العالمية الأولى وبعدها في القرن العشرين.
ويشير غيلّنر الى الفارق الجوهري بين ثقافة وسلوك القبائل ذي السمة القتالية في تركيبتها وهيمنة الروح القتالية على أفرادها وثقافة وطريقة عيش الفلاحين في شمال البحر المتوسط مقارنة بأحوال تلك القبائل المنتشرة على الشريط الجنوبي والشرقي للبحر المتوسط، ويحيل ذلك الفرق الى طبيعة العيش وأطوار الحياة الاقتصادية فيه فالقبائل المنتشرة على شواطئ البحر المتوسط الجنوبية والشرقية هي مجتمعات رعوية متحركة غير ثابتة تجول بقطعانها الأرض التي تمنح قطعانها فرص العيش الأوفر حظا ولا تعرف الحدود الجغرافية في تنقلاتها فهي تقتحم كل الحدود مما يفرض عليها أن تكون مجموعات مقاتلة وتنظيمات مسلحة يتساوى كافة أفرادها في امتلاك السلاح والقدرة على استعماله وحقه الطبيعي في مشاركته عمليات الكر والفر التي تألفها تلك القبائل في حروبها غزوا أو دفعا، هذا التساوي يكون عاملا مهما ومؤسسا في تنظيم العلاقات وإرساء قواعد التعامل داخل القبيلة البدوية والتي ترسخت طريقة التساوي بما أضافه الإسلام من معنى على روح هذا التساوي وطبيعته، لقد كان لهذه القبائل دورها وأثرها في تأسيس دول الإسلام فقد كانت حواضر الإسلام تزود تلك القبائل برجال القيادة والدين والثورة على الحكام الجائرين وتحرك فيهم الرغبة في الجهاد والرغبة في الغنيمة وتثير فيهم القوة المشروعة في تغيير حكم الجور وإقامة أحكام العدل، وهو ما يشكل تحولا مهما وبنيويا في السلوك الفردي والاجتماعي القبلي وقبل ذلك تحولا على مستوى فهم وإدراك الحياة وطبيعة العلاقة المفترضة بين الإنسان والحياة فقد كان الإنسان القبلي يغزو من أجل العيش في الحياة ولو على قدر الكفاف ولكنه صار الآن يغزو من أجل إدارة الحياة في شؤونه وشؤون من حوله لقد انتقل من جانب الرصد اليومي للزائل والعابر الى الرصد المستقبلي لما تكون عليه الحياة وتطورات العيش فيها وهي مفاهيم مدنية تؤسس للمفاهيم الحضارية وللسلوك الحضاري، فلا غرو أن نجد أن واحدة من أهم آليات البناء الحضاري في الإسلام هي القبائل لا سيما القبائل الرعوية والتي تنتقل من البداوة والترحال المستمر الى المدن فتحا بالعنوة غزوا وقهرا أو استقرارا على أطرافها انتظارا الى دخول مراكزها ومن ثم الاستحواذ عليها، وقد هيمنت تلك الظاهرة على معادلة تأسيس الدولة في الإسلام وقد استثمرها ابن خلدون في بناء نظريته التي جاءت خاصة في مجتمع الإسلام السياسي.
وقد بدا التماثل تاريخيا واضحا بين هذه القبائل في تنظيم وتطوير وتأسيس علاقتها بالدولة في ظل انتماءاتها الى الإسلام وقد كانت تلك اللحظة الأولى في انتماءها الى الدولة من خلال الإسلام مصيرية ورهينة بشكل جاد في تماثلها التاريخي والاجتماعي والسياسي وصولا الى الثقافي.
ومن أهم عناصر التماثل التي نستنتجها عن غيلنىر هو هيمنة النظام المعيشي الرعوي والسلوك الذي ينتجه هذا النظام في حياة القبيلة والأفراد[11] في عالم الإسلام وعلى امتداد رقعته الجغرافية ونتائجه التاريخية في علاقة القبيلة بالدولة في تاريخ الإسلام، ومن أبرز سمات هذا النظام هو أن الفرد القبلي الراعي مقاتل ويمتلك حق المساواة مع كل الأفراد الأخرين في القبيلة[12] بسبب حيازته لمقومات البقاء والمساواة وهو السلاح الشخصي الذي يؤهله للغزو والدفاع، فالقطعان والسلاح والمساواة هي أواصر تحكم علاقات القبيلة في إطارها القرابي والاجتماعي وتضفي عليها أسباب وضرورة الحفاظ على العلاقات القرابية والحفاظ على أنساب الشجرة القبلية للحاجة الماسة في القبائل الرعوية للقطعان والسلاح والروح المتوثبة للقتال في أفرادها، لذلك يحتل المقاتل الفارس في القبيلة الرعوية أهمية متميزة واهتمام كبير من جانب القبيلة ولكنها لا تخل بمبدأ المساواة أو تمنحه تمايزا طبقيا أو شرائحيا مما يؤهله بشرط اختصاصه النسبي بمشيخة القبيلة الرعوية لمنصب الأمير ثم لمنصب الملك أو السلطان ولكنه يظل دائما دون مستوى الخليفة أو لا يحظى على الدوام بلقب أمير المؤمنين باستثناء القبيلة العثمانية التي تعد ظاهرة غير مألوفة في علاقة القبيلة بالدولة في الإسلام.
ويمكن استنتاج ظاهرة تاريخية في الدولة في تاريخ الإسلام بأنها وفق غيلّنر (الدولة قبيلة انتقلت من الصحراء الى القلعة والثكنة وهي تحلب المدينة بدلا من أن تحلب قطعانها وتحمي المسجد ويشكل ثالوث المسجد والقلعة والثكنة النظام السياسي)[13]، ولكن غيلّنر وكأوربي وذا عقل غربي يغض النظر عن التحولات الحضارية التي تنشأ وتتأسس في تلك الدولة تحت تأثيرات النص المقدس واسهاماته الكبرى في تحويل البوصلة القبلية نحو الحضارة واجتثاث البداوة باعتبارها فضاءا سلبيا غير مرغوب فيه إسلاميا حكما وتشريعا حتى بالنسبة للحياة المعيشية - الرعوية والذي يمكن استعاضتها أي البداوة بالريف على حافات الحواضر وأطراف المدن في النظام الاجتماعي للدولة في تاريخ الإسلام، فالنظرة السلبية التي يحكم بها الإسلام على حياة الترحال والبداوة أو كما يطلق عليها إسلاميا "التعرب بعد الهجرة" كان لها كل الأثر الكبير في توطين القبائل الرحل والتخلي الثقافي والقيمي عن السلوك الرعوي - الصحراوي، وقد ظلت الكثير من القيم القبلية ماكثة في الريف بعد الاستيطان البدوي فيه لكن الكثير منها مرّ بغربلة إسلامية وتعليمية ومدنية ذهبت بالرواسب الرعوية السلبية والقيم فيها غير المتوازنة أو المنسجمة مع حياة الاستقرار والتمدن، وأحد آليات ذلك التأثير الذي يمارسه الإسلام في تلك التحولات القبلية هو وجود الولي الديني سواء في القبيلة الرعوية التي تظل ماكثة في الصحراء أو في القبيلة الزراعية التي تحولت عن الرعوية الى الزراعية وعن التنقل والترحال الى التوطن والاستقرار.
وغالبا ما ينشأ ذلك الاستعداد في القبيلة أو شرط تؤهلها لدخول الميدان السياسي في الدولة والتفكير في الاستحواذ عليها واستنتاجا عن غيلّنر أو استنادا إليه هو وجود هذا الولي الديني في القبيلة وخصائصه في النسب والكاريزما[14]، وتلك النقطة لم يشير إليها ابن خلدون في شرحه ونظريته في نشأة الدولة في الإسلام فهو كان يذهب الى تعميم نظريته في أصول نشأة كل الدول في التاريخ.
ان الولي الديني في القبيلة الرعوية في الإسلام يستمد وجوده التاريخي والثقافي وفق غيلّنر من الكتابة كمبدأ أساسي تشتغل عليه كل النصوص الدينية المقدسة في تعزيز قوتها الاجتماعية والثقافية في مجتمعاتها ويسهب غيلّنر بروح علمية دقيقة في شرح مقدمات ذلك التشكل الديني والثقافي للكتابة في مجتمعات الأديان، وهنا حديثه عن الإسلام الى الحد الذي يمهد الى الحضور المؤسس لنظام الولي الديني في القبيلة الرعوية وانتقالاته المكانية من المدينة الى الصحراء أو الريف حيث المكانية القبائلية فهو إضافة الى مفعوله الديني يحمل معه تأثيرات حمولته المدينية من ناحية التعليم وتنظيم الحياة المعيشية في القبيلة وفق مقتضيات الكتابة وإداراتها للعيش المادي، وينظر غيلّنر الى الولي الديني أنه حامل نصوص مقدسة ويعمل على (انصهار للنصوصية والرعوية وما يترتب على كل واحد منهما عندما يدفع الى أقصى مداه داخل نسق مستمر واحد)[15]، ويخلص غيلّنر من كل ذلك الى أن هذا (ما يمثل العالم الإسلامي الكلاسيكي)[16] وكذلك يشدد غيلّنر على دور الولي الديني كوسيط بين الدولة والقبائل وتبدو وظيفته تلك قوية في أدوار التوسط بين القبائل وهي القبائل التي قام بدراستها ميدانيا في مناطق المغرب وهي ذاتها الأدوار والوسائل التي يمارسها الولي الديني في قبائل مناطق آسيا وأفريقيا الإسلاميتين، ومن سمات هذا الولي الديني الرئيسية أنه ينتسب الى النبي وآل بيته ويمتلك بحسب هذا النسب كاريزما وقوة تأثير بين القبائل وهي صورة متماثلة في كل قبائل الإسلام في المغرب والمشرق وعلى طول امتداده من آسيا الى أفريقيا مما يدعنا أمام تماثل اجتماعي جوهري وعميق في عالم الإسلام مع اختلاف القوميات والأعراق.
ويؤشر غيلّنر كذلك تمايز التاريخ الأوربي عن التاريخ الإسلامي في طبيعة النظام الملكي فالملوك الأوربيين من سلالات البارونات وليس من رؤساء القبائل بينما الملوك المسلمين هم من رؤساء وشيوخ القبائل أو من رجال الدين[17] الذين هم على صلة وثيقة بتلك القبائل ويشكلون مرجعية دينية وروحية بالنسبة الى تلك القبائل، وإذا كان هذا المنطلق الأول أو اللحظة الأولى في تأسيس العلاقة بين القبائل والدولة والتي مرت من خلال الإسلام وبإشرافه الديني والعقيدي والتثقيفي فإنه رهن تاريخ الإسلام السياسي دائما بالقبيلة ولازال تأثيره واضحا وقويا في أجزاء العالم العربي في عالم الإسلام، وأما في أجزاء العالم الأعجمي في عالم الإسلام فإن تلك القبائل تحولت الى قوميات وأعراق محلية امتزجت فيها هويتها الإثنية بالهوية الإسلامية وصارت أحيانا تعبيرا عن الهوية الوطنية وإننا نجد نماذجها في تركيا وإيران وجمهوريات آسيا الوسطى[18]، وينظر غيلّنر الى قبائل عالم الإسلام من جبال الهند كوش الى المحيط الأطلنطي والنيجر وفق قوله بأنها تخضع الى شكل مميز من التنظيم الاجتماعي الذي يسميه علماء الأنثربولوجيا (الانقسامية)[19]، والانقسامية تعبير عن قيام المجتمعات القبلية على نظام الجماعات الداخلية القرابية وانقساماتها الى فئات متعددة ومتضامنة وأحيانا متصارعة وكل منها يقوم بوظائفها الخاصة بها وفي المجتمعات الانقسامية يحتل الولي الديني موقعا متميزا ووسطيا ويتكفل بالحلول بين المتنازعين بطريقة التوسط بينهما.
لقد أظهرت دراسة غيلنّر رغم عدم اشارته صريحا إليها حجم التماثل بين هذه القبائل الممتدة على شريط طويل من الجغرافيا يمر عبر قارتين كبرى هما آسيا وافريقيا وهو يؤشر حجم الطاقة الإسلامية الممكنة في عالم الإسلام.