الاستبداد السياسي
علي المرهج
2024-10-12 06:54
من المعروف والمتعارف عليه ما كتبه الكواكبي عن الاستبداد ووضعه لطبائعه وصفاته ولا نُريد الخوض في هذا الموضوع لكثرة ما كُتب عنه، ولكننا آثرنا أن نلم ببعض أفكار ونصوص الكواكبي التي توضح موقفه من الغرب، لاعتقادنا بأهميتها في بناء وترميم علاقتنا مع الآخر (الغرب).
يعتقد الكواكبي أن الاستبداد آفة وهذه الآفة تستشري لأسباب كثيرة أهمها: ضعف الأمة تجاه الحاكم وعدم وجود عقد بين الحاكم والشعب يُلزم الحاكم باحترام حقوق شعبه، مُنكراً دور الأمة في اختياره ذلك. والأنكى من ذلك هو وجود بعض المتزلفين للحكام، والذين جعلوا من أنفسهم سوطاً يجلد به الحاكم شعبه وقد سماهم الكواكبي (المتمجدين)، وهؤلاء منهم القادة العسكريون الذين يستخدمون القوة لإخضاع الشعب لسلطة الحاكم، ومنهم المثقفون الذين يستخدمون الثقافة لتبرير أفعال الحاكم، آخرون من وعاظ السلاطين، وهؤلاء هم الأخطر كونهم يستخدمون الدين لغير أغراضه ويتخذونه سلاحاً للقبول بسلطة الظالم من قبيل إن الحاكم ظل الله في الأرض، لذلك نجد الكواكبي يعتقد بأن الاستبداد السياسي يستشري ويتسع حيث ما يوجد الاستبداد الديني لذلك يقول "متى ما وجد أحدهما في أمة جر الآخر إليه أو متى زال رفيقه أو ضعف ففيه صلاح الثاني، والعكس صحيح"، بمعنى أن ضعف الاستبداد الديني يؤدي إلى ضعف الاستبداد السياسي.
نجد الكواكبي ونتيجة لما سبق ينظر باحترام وتقدير لكل حركات الإصلاح الديني في العالم، لا سيما التي حصلت في الغرب، في البروتستانتية كما يعتقد مفكرنا، بسبب تأثيرها الشديد "في الإصلاح السياسي والأخلاق، وسعيها لتفعيل فكرة القبول بالحرية السياسية في جمهور اللاتين، أي الفرنسين والطليان والإسبانيول والبُرتغال... وإن ما من أمة أو عائلة أو شخص تنطع في الدين أي تشدد إلَا واختل نظام دنياه وخسر أولاه وعقباه".
إن هذا الخلط أو الاشتراك بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي انعكس سلباً على رؤى العامة، فتكون لديهم اعتقاد بأن هناك كثيراً من الصفات المشتركة بين عظمة الخالق وجبروت المستبد وبعبارة الكواكبي "يجد العوام معبودهم وجبارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات، وهم هم، ليس من شأنهم أن يُفرقوا بين (الفعال المطلق)، والحاكم بأمره، وبين (لا يسأل عمى يفعل وغير مسؤول، وبين (المُنعم) وولي النعم، وبين (جل شأنه وجليل الشأن وبناءً عليه يُعظمون الجبابرة تعظيمهم لله، ويُزيدون تعظيمهم على التعظيم لله لأنه حليم كريم ولأن عذابه آجل غائب، وأما انتقام الجبار فعاجل حاضر".
ولو أنعمنا النظر إلى هذه النصوص السابقة نستطيع أن نتبين مدى حرص الكواكبي على بناء المجتمع الذي يعتقد بأن من أهم عوامل نهضته هي الإصلاح الديني واعتقاده بأهمية وضرورة ذلك الإصلاح، كونه مدركاً تماماً إن المجتمع الذي يعيش فيه هو مجتمع ديني والدين يُشكل ركنه الأساسي، وإن أردنا تحقيق نهضة فيه أو إصلاح، فالأولى أن نتنبأ بإصلاح ديني يتجاوز عُقدة رمي التخلف على الآخر، مُحاولاً تصحيح وجهة نظرنا لذاتنا، أي تراثنا، وفق رؤية نقدية قادرة على تجاوز عقدة تفوق الأنا الضامرة في بنائنا التاريخي للذات، وإن يكن فيها كثير من الصواب.
ولكنه يعتقد بأن نهضة هذا المجتمع لا يُمكن أن تتم من دون البداية بالإصلاح الديني، لأن الدين كان سبباً رئيسياً من أسباب نهضته في العصور السالفة، ولأن هذه النهضة التي أنجزها الفكر الإسلامي كانت مبعثاً للتنوير في أوروبا ودول الغرب، وما كان يُمكن للحضارة الغربية لتصل إلى ما وصلت إليه لو لم يكن الشرق الإسلامي الواسطة والحلقة المعرفية التي نقلت حضارة اليونان، لأن تغنينا بهذا النتاج الحضاري صار عُقدة ومعوق في سبيل تقدمنا في حاضرنا، وإن كُنا قد شاركنا في بناء الحضارة الأوربية وصبها وفق تصورنا الديني الجامع للبعد اللاهوتي والأنسني النهضوي الحواري، الذي إنفتح على حضارات الأمم الأخرى من غير عقدة في الحوار أو عقدة في معرفة علوم الحضارات التي سبقتنا في القرنين الثالث والرابع الهجري.
لم يجد الكواكبي في الإسلام ما يُجعله عائقاً أمام المعرفة العلمية والفلسفية في قرونه الأولى، بل كان دافعاً نهضوياً وبناءً حضارياً وإصلاحاً دينياً.