الفلسفة والأمل في السعادة

احمد شحيمط

2024-10-02 07:27

الأمل في السعادة تحقيق السعادة، أمل في تحرير الإنسان من التعاسة، وكل ما يصيب الذات من خوف وألم. السعادة ليست مستحيلة، وليست مفارقة في عالم المثل على خطى أفلاطون أو هي التحرر المطلق من الأهواء والرغبات لأن الأمل في السعادة يعني الشعور بالسكينة والهدوء، عندما نحتفظ بهذا الشعور، الذي يصير دائما، ويتميز بالديمومة والثبات، في حالات من الانفعال والغضب، يكون القلق لحظيا ولمدة وجيزة، ذلك أن السعادة شعور بالرضا الذي ينتاب الذات من خلال هذا الشعور الدائم الذي يمكن تمييزه عن الفرح واللذة.

 السعادة كما تصورها الفلاسفة في كل العصور والأزمنة هي الغاية التي ينشدها الإنسان، والغاية التي يطمح إليها كل من يرغب في تحصيلها، عندما يستطيع الإنسان التخلص من المشاعر السيئة والظن، السعادة كما تصورها الفكر الفلسفي اليوناني، من سقراط إلى أرسطو، وباقي المذاهب الفلسفية، كالأبيقورية والرواقية والكلبية ليست موحدة في الرؤى والغايات، لكن المدخل للسعادة يأتي من خلال الفلسفة والتفلسف.

 جوهر الفلسفة طريقك نحو السعادة، طريق الصبر والمكابدة للعراقيل والصعوبات التي تنم عن قدرة الإنسان في التجاوز والقدرة على تحديد الممكنات، ورسم للغايات النبيلة، مسارات الحياة مليئة بالتضحيات والتأملات، في معنى ودلالة الوجود، والعيش ببساطة وقناعة، كذلك الانسجام بين الذات والواقع، التناغم بين الرغبة والعقل، وبالتالي ضرورة التحكم في الرغبات الهدامة، والتهذيب لكل اللذات، وتقوية المشاعر بالقيم الأخلاقية والروحية.

 السعادة حسب أرسطو ممارسة للفضيلة، كمال للطبيعة الإنسانية، العيش وفق المبدأ الأصيل، غاية كل إنسان أن ينعم بالهدوء والسكينة، هنا تكمن السعادة في كل فعل هادف ومقصود، وتظهر الغائية في سلوك الناس، وتولد السعادة لذاتها دون أن تكون وسيلة لتحقيق هدف آخر، أو بمعنى آخر، السعادة استعداد دائم للفضيلة، والفضيلة موزعة بين ما هو فكري وما هو أخلاقي، قيمة الإنسان من خلال ملكة العقل والنطق معا، قيمة في المنطق، وفي قدرة الإنسان على التمييز بين الشر والخير.

 صفات الإنسان الفهم الجيد وامتلاك حس العدالة، وتمثل معنى الخير والشر، وسبل الارتقاء للحياة الطيبة. غاية الحياة كما يريدها الفيلسوف هي بالفعل متضمنة في الأخلاق "النيقوماخية"، أن يصير الإنسان صالحا بفعل الخير والعمل الجيد، حالة وسطى للفعل بين الإفراط والتفريط، حالة من التوازن للنفس البشرية. رسائل أرسطو لابنه في العيش على الفضيلة، بعيدا عن الرذيلة، والأخلاق السيئة، والانحطاط الفكري والخلقي معا، طبائع البشر وميولاتهم متباينة، تكتسب الفضائل بالمران والتعلم، وهي نتاج للبيئة من جهة، ونتاج للتأمل من خلال الملكات، لذلك يعتبر التأمل العقلي والنظر في الوجود والموجودات قيمة في استخلاص النتائج المهمة في قضية الاعتدال والحكمة، الوسط العادل عند أرسطو يعني الاستقامة والاعتدال في العيش دون إفراط أو تفريط. الحياة الطيبة تسري على النفوس العاقلة، والحياة الشقية تسري على النفوس الخسيسة. 

تأتينا السعادة متأخرة، متنكرة على هيئة ما ينقصنا، وما نعانيه من حرمان ونقص، لا توجد سعادة فورية ولا سعادة قصيرة المدى. نصير أفضل بفعل تطوير قدرتنا على الانجاز والعمل، قدرتنا على التضحية والتعلم. الحياة تمدنا بالقليل، وعلينا تطوير الأدوات من أجل العيش بسلام، يشمل النمو للحياة بأكملها، السياسة والفن والمجتمع والأخلاق والذات. 

الفلسفة طريقك نحو السعادة لما ينطوي عليه التفلسف من قيمة في التأمل والتبصر لجوهر الحياة العقلية والأخلاقية، الحياة الطيبة كما يفهمها الفيلسوف ليست وليدة الصدفة، ولا تولد مع الإنسان، بل خبرة الإنسان في الحياة، وتعلمه للفضائل، ومدى قدرته على الاعتدال وضبط النفس، لا تأتي السعادة دفعة واحدة، كما يضرب لنا أرسطو مثالا بطائر الخطاف، طائر واحد لا يدل على حلول فصل الربيع لكن أسراب منها دليل على قدوم هذا فصل أو هكذا نفهم من يعتقد أنه يمتلك السعادة في المال والثروة أو الحسب والنسب أو مجمل الانتصارات في الحياة.

 تأتي السعادة بالتدريج، على مراحل، وتكتمل باكتمال أعمال ومنجزات الإنسان في الظفر بعدة أشياء خاصة الفضائل الفكرية والأخلاقية، كذلك الظفر بالمنجزات واقعيا والتي تضفي قيمة على أعمال الإنسان. الجوهر مقابل العرض، ومن وراء الأعراض هناك الجوهر الفعلي، والحياة تتضمن الثابت والمتغير في الفكر والقيم، صفة السعادة ميزة خاصة بالإنسان دون غيره من الموجودات، والنفوس العاقلة أشد قدرة على إدراك قيمة الحياة الفاضلة، بالصداقة كذلك يرتقي الإنسان نحو الفضيلة والعيش المشترك. 

هناك سعادة حقيقة أساسها العقل والاعتدال والتأمل العقلي، وإرادة الإنسان نحو الفعل المحدد بالغاية والفضيلة، هناك موجبات السعادة، وهي أمور عرضية خارجية، لكنها مفيدة ومهمة للزيادة في شعور الإنسان بالسعادة، من قبيل الحسب والنسب، والسمعة الطيبة، والأصدقاء الأوفياء، والمال والذرية الحسنة والصلاح.

 لم نولد سعداء إلا أننا بفضل ما نمتلك نسعى نحو السعادة، والفلسفة بوصفها تمرينا للذهن، نوع من التأمل في قيمة الأشياء ودلالتها تساعدنا على زيادة الشعور بالسعادة، ليست مشروطة بتوفير التناغم بين الفرد والمجتمع على خطى أفلاطون، لا تعني السعادة الكاملة في عالم المثل، وفي قلب المدينة الفاضلة، السعادة هنا تعني أن يؤدي كل فرد واجبه ووظيفته، ويقدم ما يستطيع في سبيل الارتقاء بذاته، ومداركه العقلية والذهنية، في سبيل أن يحيا الإنسان في مجتمع متكامل ومنسجم دون التجاوز لما يمتلكه الإنسان من طاقات وقدرات عقلية وجسمية، التكامل الروحي والجمال والاتساق والشجاعة والعدل والاتصاف والاستقامة والرزانة مقومات السعادة الأفلاطونية، ومقومات الحياة السعيدة.

 سعادة الفرد في التناغم بين قواه النفسية، ومدى سلطة العقل على الغريزة والغضب، وسعادة المجتمع في الجمهورية العادلة التي يمتلك فيها الفلاسفة القدرة على التدبير وتوخي الحكمة، فضيلة الحكمة أقوى الفضائل، وغاية الفرد والمجتمع معا إدراك قيمة العدالة باعتبارها أم الفضائل في فلسفة أفلاطون السياسية والأخلاقية. السعادة في التناغم بين الرغبات والأهداف، التمييز واضح بين الرغبات المشروعة والرغبات اللامشروعة، عالم الرغبة الواعية وعالم الرغبات المنفلتة من سلطة الرقابة، وفي سيطرة الغرائز تنحرف الذات عن أهدافها حتى يطغى الجانب الحيواني في الإنسان، وبالتالي يختفي التوازن والانسجام بين قوى النفس الثلاث وهي: القوة العاقلة والقوة الغضبية والقوة الشهوانية. مثالية أفلاطون في إقامة نظام عادل ومجتمع تراتبي، وتمكين الفلاسفة من القيادة كشرط لسعادة الجميع. 

الفلسفة بوصفها ممارسة للتفكير الحر والتأملات النابعة من الذات، وقدرة الإرادة عل تحقيق الفعل، ترسم الفلسفة معالم متعددة للسعادة والأمل في تحقيقها. حالة مستمرة لفهم الوجود، والتماهي مع الأشياء، إنها محاولة سبر الغامض، حالة من الصفاء الروحي والامتلاء الوجداني، رحلة في أعماق النفس وأعماق الوجود. الأفكار المدمرة للصحة النفسية تكسبنا التعاسة والشعور بالقلق والشقاء، لحظات جيدة من الهدوء والصفاء الروحي يبعدنا عن الغم، ثمة مصدر داخلي آخر للسعادة يرتبط ارتباطا وثيقا بالشعور الداخلي، بالقناعة ألا وهو الإحساس بالقيمة الذاتية(1)، لا تأتي السعادة إلا من عمل نبتغيه ونحبه، فن الحياة السعيدة يكبر معنا ونتعلمه من خلال تدريب العقل، ومن خلال البيئة السليمة التي يترعرع فيها الإنسان، البيئة السليمة التي تلقن الإنسان المحبة والعيش وفق المبدأ الأصيل للحياة الأخلاقية، البساطة والاعتدال والقناعة من مقومات السعادة، الرغبة في التخلص من الدوافع الغريزية والأفكار المسببة للقلق النفسي والإحباط المتزايد، لا بد من توفير القليل، وفي واقع الندرة أو الشح يتناقص الشعور بالسعادة أي لا بد من العمل على الزيادة قليلا أو كثيرا في مسببات السعادة، الصحة النفسية وسلامة الذهن، القليل من المال، الأصدقاء وحسن العشرة، وغيرها من المحددات الداخلية والخارجية.

 درجة السعادة تزيد أو تنقص، يكون هناك تراتبية لممكنات السعادة، هذا الفعل ينكشف في الفلسفة الإسلامية مع ابن سينا والفارابي وابن مسكويه في دلالة السعادة وسبل تحصيلها، سعادة الإنسان وشقائه من خلال فتور الفرد في التفكير وقلة دهشته من الوجود، وعدم كفايته في مجال العلوم النظرية والعملية والعلوم الحكمية، قلة الوازع الديني والغلو وصعوبة الجمع بين مطالب الروح ومطالب الجسد، لعل الفلسفة تقودنا نحو الأمل في السعادة والشعور بامتلاك العالم من خلال حسن التدبر والتفكر في ملكوت الله، وحسن الإنصات للذات والوجود، قمة الكمال للنفوس العاقلة، قمة السعادة في الاعتدال والحكمة، توازن الفرد في الإقبال على اللذات بعقلانية، النفس تتمتع بالسعادة الكاملة، وهي مقيدة بأغلال البدن، ارتقاء النفس وتزكيتها بتحصيل المعرفة والزهد، والتفلسف يؤدي إلى نتائج حسنة. 

الإنسان بعد أن يؤمن ضروريات حياته يصبو إلى السعادة القائمة، إلا أن البشر يتفاضلون في الاستماع بلذائذ الحياة، كما يتفاضلون بعقولهم ورواتبهم ومنازلهم(2)، قدرات الناس وطاقاتهم ليست متساوية ولا متكافئة، اللذات المحسوسة تعتبر عائقا في بلوغ السعادة والفارابي يشدد على ذلك، ويعتبر أن النفوس الأقل حكمة لا تصيبها السعادة لأنها أسيرة اللذات الحسية، أما بلوغ الكمال لن يتم إلا بالعلم والفلسفة. فالناس يطمحون للعيش في مدن فاضلة يسودها الاجتماع الفاضل، ينعم أهلها بالراحة والاستقرار النفسي، طريق السعادة جسر يستند في عموده الأساسي على الفلسفة، لا يجب على الإنسان تعطيل الملكات، العمل من أجل نيل السعادة، وتذوق حلاوة العيش دون التوجس المزمن من المصير، لا يجب أن يتأخر المرء عن التفلسف، رسائل الفيلسوف "أبيقور" مهمة في صلاحية الفلسفة كعلاج للنفوس، وقيمة اللذة الفعلية في تحصيل السعادة الحقيقية، لا يمكن العيش في سعادة دون العيش بحكمة ونزاهة وعدل، ولا العيش بحكمة ونزاهة دون العيش في سعادة(3).

 الحكمة هي المبدأ وغاية الفعل الإنساني القائم على الإرادة واللذة لنيل السعادة، هواجس الإنسان من الموت والخوف من المصير، هواجس الإنسان من القلق والاضطراب الذي يصيب النفس والجسد معا، ترياق الحياة في اللذة لأنها البداية والنهاية للحياة السعيدة، فلا يجب التقليل من اللذة أو اعتبارها مرادفة للذة الماجنة، ليست كل لذة شرا في ذاتها. اللذة المفعمة بالحكمة لن تكون سوى اللذة التي تريح الإنسان من الألم والمعاناة، ما ينبغي اختياره بروية وعقل، وما ينبغي تجنبه والنفور منه، لا بد لكل مريد أن يفهم معنى الرغبات التي يدعو إليها الفيلسوف "أبيقور"، تلك الرغبات المفعمة بالحيوية والنشاط، الرغبات الطبيعية والضرورية وليست الرغبات التافهة، مهمة الفلسفة مساعدة الإنسان على تفسير نوبات التعاسة والقلق وكيفية التخلص منها، مشاعر سلبية ورغبات هدامة تنغص الحياة، ما يسبب القلق هو الخوف من الإله، لأن الموت مصير الكائن البشري، عليه اختيار نمط عيش مشترك، والتلذذ بملذات الحياة دون التفكير في المصير، الفلسفة هنا علاجية كما بين الفيلسوف الفرنسي بيير هادو في كتابه "الفلسفة طريقة حياة" الفلسفة عبارة عن تمرينات ذهنية، علاج للانفعالات المرضية، والأهواء المنفلتة، والمخاوف المسيطرة على الفعل والسلوك، التدريبات مهمة من أجل شفاء الروح، إقبال على اللذات النافعة مهمة في سلامة البدن من أي اعتلال. فالحكمة تعلمنا التمييز بين أصناف من اللذات النافعة واللذات الضارة.

 السعادة ببساطة ليست فعل مجرد وضرب من الوهم لكنها ممارسة يومية لصيقة بالفرد في صفائه الذهني، وتحرره من كل أشكال الخوف والحرمان، من هنا يكتسب الفرد مناعة قوية ضد أحزان الماضي وتنبؤات المستقبل، يبقى التناغم مع اللحظة والعيش ببساطة ضروريا، الموت انفصال النفس عن الجسد، الهدف من الحياة تحقيق السعادة، ذلك يستلزم مجموعة من القواعد المفيدة في تحصيلها. أما في الفلسفة الرواقية فإن الأمر يسري كذلك على العيش بتناغم مع الطبيعة، والاحتكام للعقل كقانون يسيرنا ويدبر أمورنا في الوجود، كان التفلسف عند الرواقية مثلما هي الأبيقورية فعلا مستمرا ومتوحدا مع الحياة نفسها، التي يجب أن تتحدد كل لحظة(4)، العيش في الحاضر، البحث عن السلام الفعلي والحرية الداخلية، السعادة غير منفصلة عن الفلسفة، قوة التفكير الفلسفي في الأدوات ومجمل المضامين والمباحث التي تنطوي عليها الفلسفة، من المنطق والأخلاق والطبيعة، لا يهم أن تعود للماضي، ولا يهم كذلك أن ترحل نحو المستقبل، بل الأهم، أن تقيم في الحاضر بالقرب من الناس، وعليك العناية بذاتك، وتصويب الملكات نحو الطبيعة والوجود، وكل ما يجعلنا بالفعل سعداء، السعادة هي العودة للجوهري، إعمال العقل للعيش وفق حياة التقشف والزهد، الثراء الفكري والأخلاقي أهم، وليس الثراء بالمعنى المادي، الفلسفة هي التي تتحمل واجب حمايتنا، هي التي تشجعنا على الخضوع للإله بسعادة، وللقدر بازدراء متحد.. سوف تريك كيف تتبع الإله، وتتحمل ما تلقيه عليك الصدف(5)، الفلسفة تمرين روحي وتأملات عميقة ترمي إلى تخليص الإنسان من شتى أشكال القهر والانفعال، الفلسفة تولد في الفيلسوف الحكمة والتبصر، النضج الفكري والصفاء الذهني، يتولد من الفلسفة من خلال ما تقدمه من أدوات في التمرينات الروحية والحوارات، تدريبات روحية وذهنية من أجل الظفر بالسعادة، والإمساك بخيوط تؤدي للسعادة الحقيقية، تعاليم "ابكتيتوس" والتدريبات الروحية حسب "ماركوس أوريليوس" ورسائل "سينيكا" في الحياة الفاضلة، من تعلم كيف يموت فقد تعلم كيف لا يستعبد كما يقول سينيكا، الحياة الكريمة فن الحياة السعيدة، هنا نقترب أكثر من السعادة، نوع من البهجة والغبطة، عندما نتحرر من الأهواء والعبودية في أطروحة "اسبينوزا"، العقل معيار للحقيقة، والوضوح العقلي يكشف عن الأشياء الغامضة، الرغبة تشكل ماهية الإنسان، الرغبة بوصفها شهوة واعية بذاتها، والوعي صفة مميزة تجعلنا ندرك الأشياء بدقة، ونميل للصائب في حياتنا، سبيل الإنسان التحرر من الخوف والترهيب، التحرر يلزمنا العيش وفق الإرادة والحياة الطيبة بعيدا عن الخوف والقلق، السعادة هنا مرتبطة بالعقل والإرادة والوعي والدولة المدنية تحت سيادة القانون بعيدا عن حالة الطبيعة ومجتمع الخوف.

 إذا كانت السعادة ممكنة في الفكر الفلسفي القديم. فالأمل في السعادة يعتريه صعوبات، وهي أقرب للوهم أو الاستحالة. الفيلسوف "شوبنهاور" والأمل في السعادة ضرب من الأوهام، السبب يعود إلى عدم التطابق بين ما نريد وما نرغب، ليس هناك تجانس بين الإرادة والرغبة، يعني هناك رغبات غير قابلة للإشباع، يتم إشباع رغبات معينة وسرعان ما تتجدد بدون نهاية، يجد الإنسان نفسه مقيدا بالرغبات دون القدرة على إشباعها بالكامل، تتجدد الرغبات باستمرار، لأن الإنسان في رغبته لا يهدأ عن المطالبة، والزيادة في اللذة والمتعة. 

الفيلسوف "نيتشه" بدوره جعل من السعادة مشروطة بإرادة الإنسان للزيادة في القوة، والقدرة مشروطة بإرادة القوة، وتجسيد صورة الإنسان الأعلى بعيدا عن القيم المثالية، أما الفيلسوف "كانط" فالسعادة غير ممكنة لأن هدف الإنسان العمل بالواجب الأخلاقي والامتثال لنداء الضمير، والسعادة بهذا المعنى، غير قائمة على مبادئ صورية ثابتة، السعادة ليست غاية للفعل الأخلاقي، والسبب يعود إلى اختلاف الناس في طرق نيلها.

 السعادة طريق محفوف بالصعوبات والمفارقات، السعادة في الفكر الفلسفي المعاصر تعني محاولة حثيثة ومتباينة للعبور نحو الظفر بالسعادة، التلذذ بالحياة، ومتعة الحياة الطيبة والبساطة في العيش ومجمل الانتصارات والأعمال المنجزة القائمة على الريادة والنجاح والكسب، عناصر مهمة في الشعور بالسعادة، محددات معقولة للظفر بالسعادة. ليست السعادة بالضرورة معممة وشمولية، ليست ميسرة المنال، المسببات النفسية للتعاسة كثيرة ومتنوعة، عالم الثقافة الاستهلاكي، عالم التشتت والفوضى، عالم التفاهة واللامعنى.

 هناك ملذات مصطنعة كما يشير لذلك الفيلسوف "لوك فيري" في مفارقات السعادة، الحرية المزيفة والتنمية البشرية التي تقدم نفسها كأداة في تطوير الشخصية بإتباع قواعد ومبادئ، ليست متاحة في عالم مشتت، يصنعه الأقوياء وموجه بسياسة استهلاكية، فن العيش الحكيم يتم مصادرته بفعل الثقافة الاستهلاكية الجديدة. الكل يبحث عن النشوة واللذة العابرة، عالم "الميديا" والصورة العابرة من أمكنة مختلفة، عالم ترويض الفرد نحو ثقافة عولمية قائمة على المال والربح، محددة بالدعاية والإرغام بطرق ناعمة في التنميط والقولبة، هنا يضيع الفرد في أوحال روتين الحياة الاستهلاكية، وتضيع قيمة الإنسان في سعيه نحو الراحة والسكينة، الإنسان دو البعد الواحد حسب "ماركيوز"، الإنسان العاري، الإنسان التافه في عالم لم تعد السيادة فيه إلا للتافهين وذوي القدرات المحدودة في علم السياسة والفكر حسب تشخيص الفيلسوف الكندي "ألان دونو" من خلال كتابه " نظام التفاهة "، بينما السعادة شعور بالرضا والاستقامة، ولذة العيش بإرادة وحرية منسجمة والحياة الطيبة، وبالتالي نحن نعيش في عالم ممزق ومصطنع، ونحن نأمل في عالم اليوم تحقيق السعادة ولو بإتباع مبادئ وقناعات تسير بنا نحو الاكتفاء الذاتي وانتشال أنفسنا من الضياع.

 الأمل عبارة عن رغبة كما يقول الفيلسوف "سبونفيل"، الفلسفة تساعدنا على الشفاء من المرض العضال، أمراض الطفولة، أمراض الذهن، من البلادة والغباء، كما تحررنا من كل اللذات المزيفة نحو الشعور بطعم الحياة الطيبة، وبطعم أننا نمتلك القدرة على نحت وجودنا بالطريقة التي نبتغيها، ونحس بالفعل أننا كائنات نمتلك القدرة على تحديد نمط وجودنا. التكنولوجيا والوعد بالسعادة، حيث وجدنا أنفسنا ضحية للتقنية، ماهية التقنية ليست في أدواتها بل في طرق عملها، وكيف ترغمنا على السير وفق نمطها مكبلين بأغلال الصورة والدعاية والإشهار. 

لم نعد نستطيع طرح الأسئلة عن جوهرها، صناعة التنميط والجاهز والتافه، الحياة برمتها تنقل كصورة، ولم نعد نقنع بالواقعي، قريبا يستبدل الواقع بالمصطنع. الذكاء الاصطناعي يطرق أبوابنا، وجودنا قابل للتلاشي بفعل الاستلاب وتحكم التقنية. رحلة في عالم الوجودية خصوصا تحليل "هايدغر" للوجود والموجود والحقيقة والتقنية تشير إلى العالم المزيف الذي نعيشه، كل ما يهدد وجودنا باستمرار من جراء النسيان لأسئلة الوجود ومصير الإنسان، عالمنا تغذيه نوازع متعددة، وتسيطر عليه التقنية والفكر التقني، والخطر القائم في الخلاص والنهاية، وليس كما يدعي دعاة التقنية بخلق عالم الرخاء والسعادة، ونهاية عالم الأيديولوجيات، ونهاية التاريخ في النموذج المثالي للحياة السعيدة للبشرية.

 السعادة رحلة قائمة، الإنسان السعيد هو ذاك الذي لا يشكو فقدان أي مكونات هذا التركيب، الإنسان السعيد هو ذاك الذي لا تكون شخصيته منقسمة على ذاته، وليست في خصام مع العالم(6)، وصف السعادة بسيط للغاية، كأننا إزاء فعل لا يستند على التعقيد والتجريد، السعادة لا تستند في تحصيلها على نظريات وتأملات في العوالم المجردة. السعادة شعور ذاتي ينتاب كل عاشق للحكمة والهدوء، والاستقرار النفسي، السعادة نوع من الامتلاء يصيب الذات من جراء جمالية الوجود، وسكينة النفس، إنها البهجة والغبطة. السعادة وسبل تحصيلها من خلال محددات ذاتية وموضوعية، عندما يستطيع الإنسان ترتيب الأولويات.

 الفلسفة تساعدنا، ترياق وعلاج للنفوس السقيمة بداء التمزق النفسي والتعصب الفكري، كما تمنحنا مجموعة من الأدوات للتفكير في الطريقة التي تقودنا نحو السعادة، إما بالتمرينات الروحية أو الانغماس في ملذات الحياة، السعادة لذة ثابتة ومتغيرة، والفلسفة متعة فكرية. يجب أن نتفلسف كمال قال أبيقور، ولا يجب التظاهر بالتفلسف، لأننا لسنا في حاجة إلى شقاء حقيقي، والخير الأعظم أن نعيش بامتلاء، ونحسن الاكتفاء بدواتنا. نحن نمتلك القدرة على رسم الممكن لحياتنا. نحن نتحمل مسؤولية انفعالاتنا. تعلمنا الحياة فنون التعامل مع الأشخاص، والتكيف مع الظروف، نقلة نوعية عندما نحتكم إلى عقولنا، ونجعل من الحكمة طريقا ينير وعينا ويرشدنا نحو الحقيقة، مدة الحياة قصيرة. نحن لا نولد مرتين إلا إذا كانت الولادة بالمعنى الروحي في كنف الوجود، هنا نحيا على أمل الحياة الطيبة والعيش الرغيد.

سر السعادة هو الآتي: اجعل اهتماماتك واسعة قدر الإمكان، واجعل ردود أفعالك ودودة لا عدائية بأقصى درجة ممكنة تجاه الأشياء والأشخاص الذين يتهمونك (7)، أشياء تجعلنا تعساء وأخرى ترفع من سعادتنا، قواعد مفيدة في الرفع من شعورنا في نيل السعادة، لعلها قواعد واقعية في حسن التصرف، ومنبع السلوك المستقيم. ليست السعادة ذاتية وليست كلها نابعة من الشرط الذاتي، السعادة في طبيعتها غير منفصلة عن الشروط الموضوعية، وغير منفصلة كذلك عن الآخر والجماعة. هناك مستويات للسعادة، ولن يبلغ حقيقتها إلا من عاش راضيا عن ذاته محبا للآخر، قانعا ومنسجما بالقناعات والمبادئ. 

كل من سلك طريقا في فن العيش، كل إنسان ينشد الفضيلة، ويطلب الاستقامة والاستقرار النفسي. الحالة الذهنية السليمة مفتاح للسعادة، الفلسفة طريقك للتنوير والفهم للحياة، مدخل السعادة لا يوجد في المقاربات النفسية أو التنمية البشرية، وممارسة "اليوغا"، مفتاح السعادة تدريب العقل وتهذيب للنفس، وتزكيتها بالفضائل العملية والنظرية، السعادة هنا على خطى الفلاسفة اليونان القدماء، عباقرة اليونان، منهم سقراط وسينيكا وأبيقور وديوجين، على خطى الفلاسفة المسلمين، ودور الدين والعلم في سعادة الإنسان، عندما يتمكن المرء من الجمع بين الروح والجسد، قيمة الفلسفة في النظر للوجود والموجودات، وإتقان النظر بما يؤدي للمعرفة والحقيقة، الفلسفة صناعة والصانع فنان بطبعه، متمرس بفكره في عالم الأفكار، فنان في إتقان الصنعة، وإخراج الفكرة على ضوء الغايات والأهداف.

 لم نولد سعداء، ولن نولد تعساء وأشقياء، لكننا صرنا كذلك بفعل وجودنا واختياراتنا للمناسب من السلوك والفعل، اختيارات لنمط وجودنا تريحنا إذا كان منبعها الحرية، ومفعمة بالغايات النبيلة، أن نحيا بسلام ونستمتع بقيمة وجودنا. السعادة لا في قلة الطعام أو كثرته، ولا تعني السعادة المتعة الجنسية والمال الوفير، نظرة موجزة في تاريخ السعادة بالمعنى الفلسفي تصيبك الدهشة من المفارقات التي تبنى عليها كلمة السعادة، ناهيك عن تمثلات الناس للسعادة، ولماذا الرغبة الجامحة في الحديث عنها بأسلوب يميل تارة لاستحالة التحصيل، وتارة لاختزالها في بساطة العيش، وأكثر أشكال التمثلات اعتبار السعادة في العالم الجسماني وفي كل المظاهر المادية. 

إن الفلسفة كنمط في العيش وأسلوب حياة قدمت أفكار ورؤى في غمار البحث الحثيث عن جوهر السعادة دون الاتفاق على دلالة واحدة للظفر بالسعادة. البحث عن السعادة طريق طويل وشاق، الفلسفة ساعدتنا في تأويل نوبات اليأس والتحرر من القهر والعبودية، الفلسفة بوصفها تدريبات روحية على الطريقة السقراطية، حوار لا ينتهي بين الذات والآخر وبين الإنسان والعالم. السعادة وليدة أضدادها كالوعي بالحرمان والقلق والشقاء، لذلك قدمت الفلسفة تصورات ومبادئ ممكنة في تحصيل السعادة من خلال رسائل وحكم ومجموعة من المحاورات والتأملات في الغايات والأهداف، من هنا نقول أن السعادة ممكنة في الواقع ومشروطة بعوامل ذاتية وموضوعية.

.......................................

هوامش:

(1) الدالاي لاما وهوارد سي كتلر "فن السعادة " تعريب عبد الكريم ناصيف، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2017، ص 43

(2) بولس مسعد " ابن سينا الفيلسوف " الناشر مؤسسة هنداوي، 2020 ص 77

(3) أبيقور " الرسائل والحكم " دراسة وترجمة جلال الدين سعيد، الدار العربية للكتاب، 1991 ص 209

(4) بيير ادو " الفلسفة طريقة حياة" ترجمة عادل مصطفى، الناشر مؤسسة هنداوي، 2023 ص 248

(5) سينيكا " رسائل من المنفى " ترجمة الطيب الحصني، سبعة للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2019 ص91-92

(6) برتراند راسل "غزو السعادة " تعريب سمير شيخاني، دار الأمير، الطبعة الأولى 1995 ص 187

(7) برتراند راسل " انتصار السعادة " ترجمة محمد قدري عمارة، المركز القومي للترجمة، الطبعة الثانية 2009 ص 169

ذات صلة

الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيشالدفاع عن حقوق المرأة في منهج الصديقة الزهراءانسحاب قطر من جهود الوساطة لإنهاء الحرب في غزة وفشل المفاوضاتإمكان إزالة الغضب وطرق علاجهمرة أخرى، كان الاقتصاد هو السبب يا غبي