نظام الصيانة الفعال

د. جليل وادي

2024-09-29 05:19

بتقديركم هل هناك قيمة لزرع نبتة دون اروائها بانتظام؟، بالتأكيد ستقولون لا، ومنكم من يتساءل: لماذا يا رجل تطرح علينا بديهيات، أليس مناقشتها تندرج في اطار الثرثرة، وشَغلنا بغير النافع من الكلام، ألا ترانا قد استهلكنا من الكلام ما يملأ الدنيا دون جدوى، هل نضرب لك مثلا لتتيقن: أمامك الطبقة السياسية، تأمل بكمية الكلام الذي قالته خلال العشرين سنة الماضية، والذي ليس بمقدور أحد احصاؤه، هذا ما سمعناه عبر وسائل الاعلام، اما الذي لم نسمعه فلك أن تتخيل كميته، ونسألك ما النتائج التي تمخض عنها على مستوى الواقع العملي؟ 

 صبركم عليّ أعزائي القراء، أراكم منفعلين للغاية، لم أقل شيئا سوى طرحي لسؤال، نعم انه من البديهيات، لكني أنوي به الدخول لموضوع مهم، أعرفكم من النباهة والذكاء ما يؤهلكم لفهم ما خلف السطور، وقولكم صحيح، وأزيدكم ان من يتكلم كثيرا لا تتوقع منه فعلا كبيرا، كثيرون الذين يحسنون الكلام، ويتفننون في صياغة الألفاظ، ويأسرونك بحسن المعاني، ولكن عندما تتأمل في سيرتهم لا تجد فيها ما يستحق الوقوف عنده، ومنهم مَنْ لم يخلّف شيئا نهائيا، ولكني لا أنكر ان مجتمعاتنا يأسرها الكلام المسبوك، ويتعاظم تقديرها لمن يجيد الخطابة ويمتلك مهارة الالقاء، ويظنون بالمتكلمين عارفين بكل شيء، مع ان كثيرين لا يجيدون تحويله الى عمل مفيد في الواقع .

ومع ان لفنون الكلام لذة وتأثيرا في الوجدان، ومنه وسيلة لحشد الناس، والتعبير عما يجول في دواخلها من مشاعر، وهو ما يختص به الأدباء حصرا، ويشكل هذا المجال ركنا من أركان الحياة التي تقوم على ثلاثة لا غيرها هي الفنون والآداب والعلوم، ولا يمكن للحياة ان تستقيم بغياب أحداها أبدا، اما غير الأدباء فنريد منهم فكرا وتطبيقا عمليا، وهذا ما يعوزنا، ومثال ذلك افتقار الكثير من السياسيين والمتصديين للأجهزة التنفيذية للفكر العملي، نعم لهم القدرة على التنظير، لكنهم يفتقرون لما هو عملي، او لا يشغل العملي حيزا من تفكيرهم، بينما الارتقاء بالواقع يرتبط بالفكر العملي وتنفيذه تحديدا، فالمشاريع مهما كان حجمها وأهميتها لا قيمة لها ما لم يكن لها نظام فعال للصيانة، بل ان السؤال الأول الذي يفترض طرحه بعد التخطيط لأي مشروع، ما هي سبل صيانته ليطول عمره، وما هي آليات الصيانة الفعالة والسريعة؟، وعليه فنظام الصيانة الفعال يعادل في قيمته المشروع نفسه .

وهذا بالضبط ما قادني لبديهية زراعة النبتة، ومع انها بديهية كما تقولون، لكن هذه البديهية تنساها او تغفل عنها الكثير من الجهات المعنية بزراعة الحدائق والجزرات الوسطية والقائمين بحملات التشجير المختلفة، اذ لا يتم سقيها او ادامتها بانتظام، مع ان بعضها قريب من مشاتل رسمية تتبع لجهات حكومية .

والأمر نفسه ينطبق على أسيجة الطرق السريعة وأعمدة الكهرباء والاشارات المرورية التي تهدمت بفعل حوادث السيارات، وبالرغم من ضخامة الغرامات المفروضة على المتسببين، الا ان غالبيتها تُهمل ولا يجري اصلاحها، وهكذا الحال في كل المجالات ولا أستثني منها مجالا .

من بين ما يراودني دائما ان غابة جميلة يمر بها نهر كبير على امتداد طولها انشئت في ستينيات القرن الماضي في احدى المحافظات، وكانت متنفسا وحيدا لعوائلها، وزوارها القادمين من العاصمة، لكن هذه الغابة لم يعد لها وجودا اليوم، جراء الاستفادة من أشجارها حطبا في سنوات الحصار، والاستخدام الجائر للنجارين، وتحويلها الى مقاعد دراسية من بعض المؤسسات التعليمية، وأخيرا سويت لتكون أراض سكنية، وعلى مدى ثلاثة عقود لم أسمع يوما بحديث رسمي عنها، او من فكر بإعادتها، او زراعة أخرى بدلها، مع ان غالبية قيادات تلك المحافظة وملاكاتها الادارية من خلفيات قروية ومهنتهم الفلاحة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي