تكنولوجيا التفصيخ

منقذ داغر

2024-09-28 04:36

"الأنترنيت هو أكبر تطبيق لحكم الفوضى anarchy في التاريخ، حيث يتداول ملايين البشر في كل دقيقة كم هائل من المحتوى الرقمي دون أي سيطرة من أي قوانين وضعية" المدير التنفيذي لشركة كوكل

أوضحت فيما سبق الظروف التي كان يعيشها العراقيون حينما داهمهم زلزالَي الاحتلال والتكنولوجيا. لقد فُتحت بوابة (الحرية) على مصراعيها دون ضوابط أو قوانين لشعبٍ تعود على الضوابط والقوانين، ونشأ على ثقافة صلبة Tight Culture التي تكره المجهول وتحب التراتبية والقائد القوي، وتخشى التغيير وليس لديها منطقة وسطى بين الأبيض والأسود، ودار الكفر والايمان، والصح والخطأ، والجنة والنار. 

وحينما لا تجيد السباحة الا في المياه الضحلة أو البُرَك الصغيرة ثم يتم القاءك في عرض البحر فأنك أما تغرق، أو تشبع من مياه البحر وتعاني كثيراً لحين أجادتك السباحة. وكما ذُكر سابقاً، فلم تنحصر مشكلتنا بالخروج للبحر الواسع، بل أضافت الرياح والعواصف الناجمة عن التغير التكنولوجي الرقمي أو ما يسمى بالثورة التكنولوجية الرابعة صعوبات ومشاق أكبر جعلت العراقيين يتخبطون ويبلعون مزيداً من مياه البحر المالحة في رحلتهم للنجاة.

سلوك طبيعي

في زيارتهما الأولى للعراق في عام 2009 أندهش كل من الرئيس التنفيذي لكوكل أريك شميدت Eric Schmidt ومديرها جارد كوهين Jared Cohen من كثرة العراقيين الذين يمتلكون أجهزة موبايل متطورة، ولاحظوا أن العراقيين تواقين بشكل مبالغ به في أمثلاك التكنولوجيا. 

وهذا شعور وسلوك طبيعي لشعب فاته الكثير ويريد التعويض بشدة عما فاته. أن من لا يجيد السباحة يستخدم يديه وقدميه بشكل مبالغ فيه ولا يحتاجه فعلا، مقارنةً بالمحترف، لخوفه من الغرق وعدم قدرته على ضبط أيقاع جسمه. 

وللتدليل على سرعة تعرض العراقيين للتكنولوجيا اليكم بعض الأمثلة. ففي الوقت الذي أحتاج فيه الأمريكان 40 سنة ليصلوا الى نسبة 95 بالمئة من الشعب ممن يمتلكون أجهزة موبايل فأن العراقيين احتاجوا الى ثلث هذه المدة فقط للوصول لذات النسبة. 

وبينما يمتلك 79بالمئة من البريطانيين، ونفس النسبة من اليابانيين،و82 بالمئة من الأمريكان أجهزة هواتف ذكية حالياً، فأن النسبة تقفز بين العراقيين لتصل الى 87 بالمئة !! وفي الوقت الذي أنتظر فيه الأمريكان 25 سنة (من 1990-2015) ليقفز معدل تغطية الأنترنيت لديهم من 5-87 بالمئة، فأن العراقيين احتاجوا الى 10 سنين فقط (من 2010-2020) ليبلغوا نفس المعد.  

وفي حين أن نسبة من يمتلكون تلفزيونات مربوطة على الستلايت (أو الكابل) في أمريكا لا تصل الى 30 بالمئة، فأن النسبة في العراق تصل الى 98 بالمئة! لقد أُلقي العراقيون في لجة محيط العولمة والعالم الافتراضي فجأةً ودون أي مقدمات أو تهيئة علمية وتربوية ونفسية فضاعف ذلك من الآثار الاجتماعية للتكنولوجيا على المجتمع العراقي.

على الجانب المقابل فقد لاحظ مديرا شركة كوكل اللذان أستُدعيا للعراق لتقديم مشورة بخصوص أتمتة الحكومة العراقية وجعلها الكترونية، أن العقلية والممارسات الحكومية في العراق متخلفة جداً مقارنةً بشعبها الذي يستخدم التكنولوجيا الرقمية على نطاق واسع. 

وفي الوقت الذي سبقت فيه حكومات العالم المتطورة، أو رافقت، شعوبها كتفاً بكتف في مجال التطور التكنولوجي، فأن المواطن العراقي لا زال يحتاج الى معاملة «صحة صدور» تقتضي منه أياماً أو شهوراً، في حين يمكنه في نفس المدة السفر الى أمريكا أو الصين والعودة لبيته قبل أن يستلم "صحة الصدور" الذي ينتظره! 

وفي الوقت الذي بات فيه العالم يتداول العملات الرقمية، ويستخدم فيه اجهزة الموبايل لدفع مشترياته، فأن كثيراً من العراقيين-بخاصة كبار السن- ما زالوا مضطرين لتكبد عناء الذهاب الى أحد منافذ «كي كارد» لاستلام رواتبهم. قبل سنتين اضطررت لرفع شكوى ضد شخص مدين لي في بلد عربي مجاور، فجرت محاكمته الكترونياً حيث كان القاضي جالساً في دولة وأنا في دولة أخرى والمتهم في دولة ثالثة وتم اصدار الحكم خلال 48 ساعة فقط. لكني، في المقابل، كنت مضطراً للجوء الى العشيرة لا القانون ولا القضاء لتحصيل ديني من مدين في العراق!! 

وإاذا أضفنا لهذا التخلف الحكومي، المشار له أعلاه، لمظاهر عدم الكفاءة والفساد وسواها من معايير الفشل فلا غرو أن يفقد العراقي ثقته بالحكومة التي كما أسلفنا تمثل الجسر الرابط بين مكونات المجتمع المختلفة. وحين تتقطع الجسور تقل الأواصر ويزداد التقاطع ويتحول المجتمع الى عجلة عاطلة لا يستفاد منها الا "تفصيخ".

ازدواج عقلية

 أن «أزدواج الشخصية» الذي يعتقد كثير من العراقيين-ولستُ منهم-أننا جميعاً نعاني منه، ما هو في الواقع الا «أزدواج عقلية» يعاني منه كثيرون بسبب استخدامهم المكثف واليومي للتكنولوجيا الرقمية من جهة، والثقافة «الأمّيّة» من جهة أخرى. 

وهنا لا أقصد بالثقافة الأمية الا القول بأن ثقافتنا الاجتماعية لم تعد مناسبة لعالمنا وأنها بحاجة لإعادة ضبط مصنع. أليست مفارقة حين ترى رجالاً يجتمعون في مضيف وكلٍ منهم يحمل موبايل آخر موديل، ويأتي للمضيف بسيارة كل ما فيها الكتروني ثم يحتكمون لقانون عشائري عمره آلاف السنين؟!! 

أليس غريباً أن يهتم الآباء بتزويج أبنائهم من سني أو شيعي حصراً، أكثر مما يهتمون بتعليم أبنائهم الفرق بين (السوفتوير والهاردوير)؟ أنها مفارقة «القبيلوجيا» و»الطائفولوجيا» التي باتت تحكمنا وتتحكم بنا، في عصر الرقمنة والتكنولوجيا! 

ان هذا التناقض بين عقلية التكنولوجيا السيبرنيتية «المنفلتة» التي يستخدمها العراقيون يومياً وبكثافة والتي تجعلهم يعيشون في واقع افتراضي لا تحده حدود، ولا تضبطه ضوابط، وليس فيه «عيب» أو كبير وصغير، ولا تسيطر عليه العشيرة أو الجماعة أو الطائفة أو المجتمع أو حتى الدولة ،ومجهولٌ مداه أوغده الآت، يؤمن بالعلم والحقائق وليس الجهل والخوارق، وبين ثقافة موروثة تؤكد على أهمية الجماعة، والمجتمع والطاعة والولاء والتراتب والوضوح وعدم الغموض، والغيب والخرافة. 

باختصار فنحن ازاء منهجين مختلفَين للحياة: الأول (المنهج الثقافي التقليدي المتصلب) هو منهج سلطوي توحيدي جماعي منضبط سواءً بعادات وتقاليد أو قوانين وتراتب قوة، وبين منهج فوضوي رقمي يتلائم مع ثقافة رخوة Loose تؤمن بنهاية معايير القوة التقليدية، وباللاحدود واللاسكون والتغيير المستمر وغير الواضح. الخلاصة، فأن تعرض العراق لزلزالَي الاحتلال والتكنولوجيا، أنتج لنا مجتمعاً يرتدي ثوب الحداثة، ويفكر بثقافة الوراثة. ومالم يتم تطويع الحداثة، وأعادة ضبط الوراثة فسنبقى نعيش آثار الرثاثة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي