مدن ذكية في أرض الحضارات تُعيد نسج خيوط المستقبل
علي الطالقاني
2024-08-24 04:21
كل عام نشاهد حدثا مهيباً ويفوق الوصف عندما يتدفق أكثر من 22 مليون زائر إلى مدينتي كربلاء والنجف خلال اسبوعين والتي يزورهما سنويا عشرات الملايين.. مشهد يشد الأرض بالسماء تتداخل فيه قدسية الحدث وعظمة الجموع التي جاءت لتحيي ذكرى أربعين الإمام الحسين.
برغم ضخامة الحدث لم أستطع تجاهل واقع الخدمات التي تئن تحت وطأة الملايين، والطرقات الضيقة المزدحمة، والنفايات المتراكمة، أتساءل في نفسي كيف يمكن لمدينة بهذه الأهمية تعجز عن تقديم خدمات تليق بهذه الجموع وهذا الحدث؟
لماذا لا تكون هناك مدن ذكية تدعم قوة اقتصادية ناشئة؟ مدن تتسم ببنى تحتية متطورة، ونقل ذكي، وإدارة للنفايات تحافظ على طهارة الأماكن، وخدمات صحية تستجيب للحالات الطارئة.. مدن تتيح لكل من يزورها أن يعيش الأجواء الروحية بشكل مريح وآمن، لتفتح آفاق السياحة التي تجمع بين عراقة التراث والتطور التكنولوجي، فان بلدا مثل العراق يحمل في تاريخه وحاضره رسائل إنسانية ملهمة، أليس من حقه أن يكون أيضا رمزا للتحضر؟
مناقشات تطويرية
حديثا، حظيت وجهات السياحة العالمية باهتمام متزايد، لذا نجد الدول المتحضرة تناقش باستمرار إمكانية تطوير المدن لتحقق أهداف التنمية المستدامة، تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتعزيز الفعاليات الإدارية، وتحسين مستوى الخدمات العامة ورفاهية المواطنين، ودعم التوسع السكاني، ومعالجة المشاكل بواسطة إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي، وتحسين جودة الخدمات العامة، وإدارة البنية التحتية بشكل متطور، وتعزيز الاستدامة البيئية، وحتى زيادة مشاركة المواطنين في الحكم بشكل يجعلهم أقرب إلى صنع القرار.
ولا يقتصر بناء المدن الذكية على السمات التكنولوجية، وتقليل استهلاك الموارد، وتعزيز حماية المناخ ، وضمان التنقل، وتحسين نوعية الحياة من خلال التقنيات الشبكية، وينصب التركيز هنا على التنمية الحضرية المستدامة، والتي تتحقق من خلال تحسين شبكات البنية التحتية البلدية مثل الطاقة والمباني والمياه.
فالمدن الصالحة للعيش هي تلك التي توفر العدالة الاجتماعية والفرص الاقتصادية والجودة البيئية، وهي تعالج بشكل مؤثر مشاكل مثل التغير الديموغرافي والانقسام الاجتماعي والتلوث وتخلق بيئة حيث يرغب الجميع في العيش والعمل من خلال التنمية الحضرية المستدامة.
ترجمة الأفكار
يمتلك العراق مجموعة من المدن التي تُعد وجهات عالمية، مثل كربلاء والنجف، بالإضافة إلى بغداد والبصرة، إلى جانب مدن أثرية مثل بابل وأور وكذلك تلك الموجود في شمال العراق، لذا من الضروري أن تنتبه الحكومة العراقية والقطاع الخاص والمنظمات والمؤسسات الدينية الى أهمية تحسين الخدمات العامة مثل الماء والكهرباء والصرف الصحي، ودعم القطاع الأمني من خلال تقنيات الرقابة الذكية وأنظمة الإنذار الحديثة التي تعزز مستوى الأمان، ودعم الاقتصاد وتوفير بيئة استثمارية محلية وأجنبية، وإدارة تلك المرافق بنظم ذكية كفوءة.
لكن، مع كل هذه الأهمية، لا يُعرف سوى القليل عن كيفية ترجمة هذه الأفكار إلى سياسات حقيقية وتبني نهج ذكي في عمليات التخطيط، وفي ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة، أصبحت فكرة المدن الذكية ليست مجرد خيار بل ضرورة ملحة.
العراق، رغم التحديات التي تواجهه، يمتلك فرصا كبيرة للاستفادة من التحولات التكنولوجية، لتعزيز بنيته التحتية وتطوير مدنه التاريخية، والدينية، والاقتصادية، والسياسية، وفي خطوات متواضعة أقدمت عليها الحكومة العراقية مؤخرا من خلال تحسين الخدمات الإلكترونية أحدثت تأثيرا على الحوكمة والإدارة العامة، لتبسيط بعض العمليات الإدارية والخدمية، ورغم التشكيك بفرص النجاح وما يتعلق بالمشكلات الأمنية التي تنشأ خلال هذه التجارب، إلا أن هذا لا يمنع من تحديد العوامل المؤثرة في نجاح بناء هكذا مدن.
معوقات التجربة
لا شك أن بلدا مثل العراق لا يزال يعاني من آثار الحروب والفساد المالي والاداري ولازالت هناك عدة معوقات قائمة، مثل عدم مراجعة وتحديث البنى التحتية لاستيعاب مشروع المدن الذكية، وكذلك إنعدام أو ضعف الاستثمارات في قطاع المدن الذكية.
برغم هذه التحديات، لا تزال الفرصة متاحة من خلال التعاون الدولي واستقطاب شركات مؤهلة وناجحة لها تجارب مهمة، ولدى العراق أيضا طاقة شبابية هائلة وموهوبة في مجال التكنولوجيا، يمكن استثمارها في تطوير وبناء المدن الذكية.
إن إنشاء مدن ذكية في العراق خطوة استراتيجية تحقق التنمية المستدامة من خلال توظيف التكنولوجيا بشكل استراتيجي، وفي حال حظي العراق بهذه الفرصة، يمكننا أن نضع أنفسنا على خريطة المستقبل كدولة متحضرة تتبنى الابتكار وتعمل على تحسين حياة المواطنين والزوار.