المهمة المزدوجة للديموقراطية

عقيل يوسف عيدان

2024-08-13 04:36

يقول المعلم الأول أرسطو "إن غاية الدولة هي الحياة الطيبة". فلمن هذه الحياة الطيبة؟ هل هي للدولة كسلطة حاكمة؟ أم لجماعة المحكومين ككل؟ أم للأفراد بصفاتهم الشخصية؟ أم لهؤلاء جميعاً؟

قد يكون من التبسيط الذي لا يفيد أن نجيب أنها لهؤلاء جميعاً؛ فمصلحة السلطة الحاكمة قد تتعارض مع مصلحة الجماعة المحكومة، بل إن التاريخ لشاهد على أن مثل هذه الحالات لتعد من قبيل الشذوذ النادر.

وكذلك قد تتعارض مصلحة الجماعة ككل، مع مصلحة الأشخاص بصفاتهم الفردية، فلا مناص إذن من اكتشاف معيار جديد تقاس به المصلحة العامة وفقاً للمبادئ الديمقراطية.

يؤكد المفكر الأمريكي رالف بيري (R.Perry 1876-1957) أن المصلحة العامة، لكي تكون كذلك، لا بد أن تتوفر لها سمتان رئيستان، هما الشمولية أو العمومية والفردية. وهو يعلّل ضرورة توفر هاتين الخصيصتين الظاهرتي التناقض بقوله: إن الديمقراطية، لكونها جماعية وفردية معاً، تحترم صالح الفرد وسعادته، وهي في نفس الوقت تشمل سعادة جميع الأفراد. 

ومعنى ذلك، في كلمات أخرى، هو أن الديمقراطية في الوقت الذي تعمل فيه لكفالة سعادة الفرد، أو لتحقيق الحياة الطيبة له، لا تنسى سعادة الجماعة أو حياتها الطيبة.

فمهمتها إذن مهمة مزدوجة، تقوم على أساس الموازنة الدقيقة الحصيفة بين ما للفرد من حقوق قبل الجماعة، وما عليه من واجبات نحوها.

والحكومة الديمقراطية هي التي تمسك بيدها الميزان الذي تزن به ما يعطيه الفرد للجماعة، وما تعطيه الجماعة له، ولها –أي الحكومة– أن تزيد من كفة العطاء، أو تنقص منها، بحسب مقتضيات السياسة العامة التي التزمت بها أمام الشعب كله.

وعلى هذا الأساس يرفض فلسفات القرن الثامن عشر، المتأثرة بالنزعات الرومانسية المتطرفة، والمنادية بأن الفرد هو، أو ينبغي أن يكون، غاية النشاط البشري ومحوره. وهو يرفض هذه النزعة الفردية المغالية لأسباب عدة لا سبيل إلى الطعن فيها:

أولاً، أنه من الحقائق البيولوجية الأساسية أن الإنسان يولد ولا حيلة له في تفادي الارتباطات والعلاقات الاجتماعية البسيطة التي تصله بوالده ووالدته وأولاده.

ثانياً، أنه من الحقائق النفسية أن التجارب التي يختبرها الإنسان في حياته، وألوان التقدم التي يحرزها، تبدأ من علاقاته العائلية أو العشائرية أو القبلية أو العنصرية وكنتيجة لها.

ثالثاً، ومن الحقائق الاقتصادية أن المصالح البشرية كلها متداخلة متشابكة بحيث لا يمكن تحقيق الرخاء لأي فرد إلاّ بعمليات لا حصر لها من الأخذ والعطاء يمارسها مع غيره من الأفراد.

رابعاً، لا يمكن تصور قيام حياة سياسية ناجحة بغير تحقيق بعض النظم والضوابط والقوانين عن طريق تضافر الجهود الفردية.

فإذا سلمنا بهذه الحقائق، أصبح من البديهيات التي لا تقبل الجدل أن شخصية الفرد هي أشبه شيء بمناطق الانخفاض الهوائي –بلغة المتنبئين الجويين– التي تهبّ عليها رياح التأثيرات المختلفة من مناطق الضغط في المجتمع الذي هو عضو فيه.

وفي ضوء هذه الحقيقة الواقعة يجب تسفيه المبادئ التي تحمّس لها الفلاسفة الرومانسيون في القرن الثامن عشر. وهذه المبادئ هي:

أولاً، المبدأ الذي يزعم أن الفرد هو الأصل، وأن المجتمع ليس إلاّ شكلاً مصطنعاً جاء فيما بعد اعتسافاً، وضد رغبة الفرد، وطبيعته.

ثانياً، المبدأ المؤسس على المبدأ السابق، والزاعم أن الفرد يستطيع الحياة بغير هذه الأشكال المصطنعة، أي بغير مجتمعات بشرية.

ثالثاً، المبدأ الآخر الذي يفرط في الخيال، فيزعم أن الفرد لا يستطيع الحياة بمعزل عن الأفراد الآخرين فحسب، بل يستطيع كذلك إشباع رغباته وتطوير إمكانياته.

من أجل ذلك، وغيره، يؤكد بيري صفة الشمولية في المصلحة العامة لأنها انعكاس لتداخل مصالح جميع الأفراد بعضها في بعض باعتبارهم كائنات حية تعيش متفاعلة في مجتمع واحد.

وهي لنفس هذا الاعتبار تتسم أيضاً بالفردية لأنها الحصيلة الحتمية لتكوين هذا المجتمع الواحد، الذي هو مجموعة من الأشخاص ذوي الصفات الفردية. ومن ثم فإنه في الوقت الذي لا نملك فيه إلاّ أن نعترف بأهمية المجتمع من النواحي الطبيعية، والميتافيزيقية، والنفسية، والعلمية، والتاريخية، والبيئية، فإننا من الجانب الآخر لا نقدر على تَبعَة إهمال القيم النهائية للحياة التي تبدأ وتنتهي بالفرد. هذه القيم التي تصوغها أعمال الفرد وإنجازاته، عواطفه وآماله، مطامحه وعزماته، خيالاته الخصبة الخلاّقة، وثقافته المتأنية العميقة.

فإذا عدنا لنسأل: لمن هذه الحياة الطيبة التي حدثنا عنها أرسطو كانت الإجابة صريحة. لا لبس فيها: للأفراد. ولكن لا للأفراد بصفاتهم الشخصية المنعزلة، كما زعم الفلاسفة الرومانسيون، بل لهم باعتبارهم الخلايا الحية التي تشكّل جسم المجتمع، وتمنحه الحياة والقوة.

وهذه هي الشمولية في فلسفة المصلحة أو المنفعة، وهي تفترض استيعاب كافة المصالح الفردية، والآراء، والمطالب في فلسفة واحدة، ينتظمها جميعاً، ليس بالضرورة في اتساق وتجانس، بل يكفي في وئام أو تصالح، حتى لا يقع بينها التنافر أو التصارع.

ولذلك فإنها تنفر من الاستبداد بالرأي ووحدانية الإرادة، وتدعو على العكس من ذلك إلى جماعية الإرادة في أقصى درجاتها الممكنة، وعمومية الاهتمام بكل الاتجاهات والأفكار والمصالح التي تتواجد بالقطع في المجتمع الواحد. 

* نشر في شبكة النبأ المعلوماتية- كانون الأول 2006 / ذي الحجة 1427

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي