ليبيا تعيش تجربة العراق: صراع نفوذ دولي ومقاربات أُخرى
د. جواد الهنداوي
2024-08-01 04:26
لم تتكاثر السلطات السياسية والحكومية والفصائل المُسلحّة الشرعية وغير الشرعية، والتدخلات الخارجية الدولية والاقليمية والعربية في بلد آخر، مثلما تكاثرت في دولة ليبيا. ففي شرق البلاد حكومة بنغازي او حكومة مجلس النواب او حكومة المارشال خليفة حفتر، وفي غربها حكومة الوحدة الوطنية او حكومة طرابلس والمعترف بها أممياً و دولياً، وما بينهما هيئات ومؤسسات وشخصيات واحزاب سياسية، وللدولة مجلس رئاسي ومجلس أعلى .
وبالرغم من تعقيدات وتنوعات فواعل المشهد السياسي الليبي، الاّ انه يثري عالم السياسة والعلاقات الدولية بتجربة اخرى، مشابهة لتجربة المشهد السياسي في العراق، من حيث تشابك العلاقات بين قوى الداخل السياسية وقوى الخارج الدولية.
ففي العراق كان لجميع القوى السياسية الفاعلة، وعلى اختلاف انتماءاتها القومية والمذهبية علاقات تبادل وتفاهم و مصالح مع امريكا من جهة، وايران من جهة اخرى، بل وساهم العراق إلى جمعهما وسعى إلى تقاربهما في ما يخّص الملف النووي .
ذات المسار و ذات التشابك العلاقاتي نجده ايضاً بين القوى السياسية الليبيّة، والمتنوعة ايضاً في انتماءاتها، والقوى الدولية او العظمى الفاعلة في ليبيا، وهما روسيا وامريكا. فالمارشال خليفة حفتر وأبناؤه وحكومته في الشرق، والمحسوبون على روسيا، والتي تدعمهم بالسلاح والمساعدات الاقتصادية والخبرات، لهم علاقاتهم واتصالاتهم او تواصلهم مع الادارة الامريكية والسفير الأمريكي في طرابلس، ومع المبعوثين الأمريكين إلى ليبيا.
كذلك حكومة الوحدة الوطنية في غرب ليبيا وبرئاسة السيد الدبيبة، والمدعومة دولياً و غربياً، لها علاقاتها وتعاملها مع روسيا، ورئيس الحكومة واعضاء مجالس الرئاسة في دولة ليبيا لهم لقاءاتهم الرسمية مع القيادات في روسيا .
بين ما عاشهُ العراق في مساره بعد تغير النظام عام 2003، وما تعيشه الآن ليبيا وبعد تغير النظام عام 2011، مقاربات أخرى توحي بالأمل والتفاؤل في تجاوز المحن والتحديات. فالعراق وبالرغم من الاختلاف في الرؤى والتنافس على السلطة والصلاحيات بين مكّوناته، لم ينجر البلد إلى أتون حرب اهلية، واستطاع احتواء المواقف العصيبة المنتجة في الداخل او المُصدّرة من الخارج.
ليبيا اليوم، هي في ذات حال العراق في الأمس، فبالرغم من التنافس على السلطة والاختلاف في الاجندات والرؤى بين شرقها (حكومة خليفة حفتر) وغربها (حكومة الوحدة الوطنية)، وكذلك الاحتراب بينهما، ولكن لم تنحدر ليبيا الوطن إلى مستنقع الحرب الاهلية، ولا إلى الانقسام، ما دام هناك تواصل سياسي وحوار بين الفرقاء في الداخل، وبينهم وبين مَنْ يعينهم من القوى الدولية او الاقليمية .
ما يحمل على التفاؤل ازاء ليبيا أمران: الاول هو انَّ الفرقاء اعتادوا التواصل والحوار، و لكل طرف منهم حصّة في السلطة وفي الحكم وفي ادارة الثروات، الأمر الذي يجعلهم حريصين على الاستمرار على العمل لإيجاد ارضية مشتركة يقفون عليها جميعاً يداً بيد، وكل سنة تمضي وهم في تواصل وحوار وادارة للبلد وعلاقات دولية، تتراكم خبراتهم، وتميل رغباتهم إلى مزيد من الحوار .
والأمر الثاني هو أنَّ الدول العظمى، والتي تتنافس على النفوذ السياسي والاقتصادي في ليبيا (امريكا واوروبا من جهة، وروسيا من جهة اخرى) لهم ايضاً مصالحهم المتفرقة في شرق وفي غرب وفي جنوب ليبيا.
اعني من ذلك، بأن اهتمام امريكا لا يقتصرُ على طرابلس و غرب ليبيا، حيث حكومة الوحدة الوطنية، وانما اهتمامها يمتدُ أيضا إلى شرق ليبيا وجنوبها. واهداف امريكا واضحة في ليبيا وفي كل ليبيا، حيث حقول النفط والغاز والموانئ الاستراتيجية، وقواعد لمكافحة الإرهاب في افريقيا، واحتواء او صّدْ النفوذ الروسي، ومكافحة الجماعات المسلحة الموالية لروسيا مثل قوات “فاغنر” وكذلك الفيلق الافريقي الذي تم تشكيله في بداية عام 2024، وسيكون فاعلاً في الشهر المقبل .
كذلك روسيا، هي ايضاً مهتمة، ليس فقط بجغرافية حليفها خليفة حفتر، وانما ايضاً بكل ليبيا ولذات الاسباب والاهداف المرجوّة من امريكا، لذا نجد روسيا حريصة على تفعيل قنوات الاتصال والتعاون مع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة السيد محمد الدبيبة .
مصالح روسيا وامريكا في ليبيا تجعلهما حريصتين على عدم نشوب حرب اهلية او حرب بين الفرقاء في ليبيا .
امريكا تريد استمرار تدفق النفط والغاز واستثمار ليبيا المستقرة، كقاعدة انطلاق نحو الدول الأفريقية. كذلك روسيا واهتمامها ينصب، ليس على تدفق النفط، وانما الاستثمار في قطاع النفط، وليس على مكافحة الإرهاب، وانما على توظيف وجودها في ليبيا لمّد نفوذها نحو دول الساحل الأفريقي .
من مصلحة جميع الفرقاء في ليبيا، (واقصد القوى السياسية الليبية بمختلف انتماءاتها)، ومن اجل ليبيا موحّدة، أنْ يحافظ الفرقاء على التوازن في علاقاتهم مع الفواعل الدولية (امريكا، اوروبا، روسيا، تركيا، مصر)، المفروضة على الساحة الليبيّة، ليتمسك الفرقاء بقاعدة التوازن، وهدف ابقاء ليبيا موحّدة، والسعي لسيادتها واستقلالها، وليدع الفرقاء القوى الدولية تتنافس في ما بينها، وتحتوي او تقزّم او تزيل الواحدة الأخرى .
اليوم واكثر من الأمس، يُحَتّمُ التنافس والصراع على النفوذ بين روسيا وامريكا في ليبيا، وانطلاقاً من ليبيا، في أفريقيا، وخاصة في دول الساحل .
لماذا اليوم اكثر من امس؟ لأنَّ روسيا اكملت اجراءاتها بتشكيل الفيلق الأفريقي، وسيبدأ عمله وانتشاره في ليبيا وفي بوركينا فاسو وفي مالي والنيجر، وادركت امريكا ودول الناتو جدّية وعزم روسيا على نشر وتعزيز نفوذها في ليبيا، وانطلاقاً من ليبيا نحو دول الساحل الإفريقي، مستفيدة من الانتصارات التي حققّتها في اوكرانيا ومن الوضع الصعب الذي تعيشه امريكا وإسرائيل في حرب الابادة في غزّة .
والفيلق الإفريقي هو التشكيل المسّلح الجديد الذي أسّسته روسيا ليحل محل قوات “فاغنر”، ويرتبط مباشرة بوزارة الدفاع الروسية، وقوامه ما يقارب 30 الف مقاتل، ومن جنسيات مختلفة، ومهامه هو حماية المصالح الروسية في ليبيا وفي أفريقيا ودعم النفوذ الروسي، وقد بدأت روسيا بتشكيله في شهر يناير /كانون الثاني من هذا العام .
لصالح مَنْ سيحُسم صراع النفوذ بين روسيا و امريكا والغرب ولماذا؟ لا تستطيع امريكا وحلفاؤها ابعاد او احتواء الدور الروسي و النفوذ الروسي. لروسيا دور ميداني وسياسي في ليبيا، اي روسيا متواجدة على الارض في روسيا، بقوات عسكرية روسّية في شرق وجنوب ليبيا وبالتنسيق مع مجلس النواب والمارشال حفتر، لغرض الاستشارة والتدريب و دعم الامن والاستقرار، كما يدّعي الطرفان الليبي والروسي، والآن يتم تعزيز هذه القوات بالفيلق الافريقي المتعدّد الأغراض والوجهات .
لروسيا في ليبيا تاريخ وإرث سياسي وعسكري لما يقارب مدة حكم القذافي، والتي امتدّت لأربعين عاما . كذلك قوى اقليمية فاعلة في المحيط الليبي (تركيا ومصر) ميّالة لتفضيل الدور الروسي على الدور الأمريكي في ليبيا، ولكل دولة اسبابها .
أضف إلى هذا وذاك، شعور وارادة الشعب الليبي تجاه امريكا وأدوارها في العالم وفي المنطقة، ومساندتها لما تقوم به إسرائيل من جرائم وحرب ابادة للفلسطينين في غزّة والضفة الغربية. كل هذه العوامل تجعل الدور الامريكي والنفوذ الامريكي غير مُرحّب بهما، لا في ليبيا ولا في أفريقيا، ولا حتى في العالم .