ضد التطرف والغلو الديني
محمد محفوظ
2024-05-07 05:13
المقدمة:
ذات مرة أطلق الزعيم الماليزي السابق مهاتير محمد موقفا صريحا حينما قال: بأن العرب لم يعودوا قادرين على حمل رسالة الإسلام في العالم الحديث لأنهم لم يألفوا التعددية في فضاءاتهم.. فتوالت الردود حول هذا التصريح والموقف بين رافض لهذه الرؤية ومبرر لها، وبين متعصب اعتبر هذه التصريحات تنم عن موقف نابذ للعرب وساع إلى نقل الثقل الإسلامي من المنطقة العربية إلى منطقة شرق آسيا.. وعلى كل حال وبعيدا عن التباينات في الرؤية والموقف مما أطلقه مهاتير محمد، من الضروري العودة إلى جوهر المسألة.. ولعل جوهر المسألة هو هل يمكن للعرب في ظل أوضاعهم الحالية وأحوالهم القائمة أن يمارسوا ذات الأدوار والوظائف التي مارسها العرب في صدر الإسلام.
وقبل أن نوضح وجهة نظرنا ورؤيتنا حول هذه المسألة ومبرراتها الثقافية ومعطياتها الاجتماعية وخلفيتها الحضارية والمعرفية، من الضروري القول: أن الشعوب العربية وعلى طول التاريخ الإسلامي أبلت بلاءا حسنا في خدمة الإسلام وإيصال معانيه إلى مساحات جغرافية جديدة.. إلا أن هذا البلاء الحسن ليس من نصيب العرب وحدهم، وإنما هناك قوميات إسلامية ساهمت بهذا الدور وتركت وقائع حضارية وتراث مجيد في خدمة الإسلام وإيصاله إلى شعوب جديدة..
وهذه الحقيقة لا تلغي الموقع المتميز الذي تبوأه العرب في التجربة الإسلامية التأسيسية، وأن لغتهم هي لغة القرآن الكريم، وأن بيئتهم هي البيئة الأولى للدين الإسلامي.. ولكن هذا الموقع المتميز للعرب في تجربة الإسلام التاريخية، لا يلغي موقع ودور الشعوب والأمم الأخرى على صعيد خدمة الإسلام وإيصال قيمه ومبادئه وتشريعاته إلى مساحات جديدة.. فالكثير من الجهود التي بذلها المسلمون من غير العرب كان لها الدور الأساسي في إيصال الإسلام إلى شعوب جديدة وفي إثراء المعارف الإسلامية عبر سلسلة كبيرة من العلماء والفقهاء والدعاة من غير العرب..
وبعيدا عن الرؤية النرجسية والنمطية في النظر إلى البعد القومي للمسلمين جميعا، نستطيع القول: أن جميع الأمم والشعوب الإسلامية تفتخر بإسلامها وبذلت في حقب زمنية متنوعة الكثير من الجهود في خدمة الإسلام والمسلمين.. وعلى رأس هؤلاء هم العرب من المسلمين.. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن العرب من غير المسلمين كان لهم أيضا الدور المتميز في خدمة اللغة العربية والحضارة الإسلامية.. فالمسيحي العربي هو مسيحي الديانة إلا أنه مسلم الثقافة والحضارة.. لذلك ثمة منجزات إدارية ومعرفية عديدة صنعها المسيحيون العرب في تجربة الإسلام التاريخية..
ولكن كلنا يعلم أن عدم التمسك بالمنجز التاريخي وعدم الإضافة عليه، قد ينقل دفة الأمور إلى مواقع اجتماعية أخرى.. ولكل ظرف تاريخي ومرحلة اجتماعية وسائلها وآليات عملها المناسبة.. وعلى ضوء التواصل الكبير بين أمم الأرض، أضحت هناك مستلزمات ومتطلبات جديدة، لكي تتمكن الأمم من إيصال رسالتها وقيمها إلى الأمم والشعوب الأخرى..
وعلى ضوء هذه الحقيقة تصبح مقولة مهاتير محمد جديرة بالفحص والتأمل والتحليل من خلال الأفكار التالية:
1-على ضوء التطورات العلمية والتواصلية المختلفة، لا يمكن أن يتسيد العالم، إلا الأمة التي تعرف التعددية والتنوع الثقافي والحضاري وتعترف بلوازمه ومقتضياته وإن عدم الاعتراف بحقائق التعددية ومعطيات التنوع، يصحر البيئة الاجتماعية مما يفقد هذه البيئة الكثير من المعاني الرائعة التي يحتاجها العالم اليوم، وهي اللغة المتداولة بين شعوب الأرض..
فالموقف الواقعي والفعلي العربي من مقولة التعددية، هو الذي يحدد إلى حد بعيد مدى قدرة العرب المعاصرين على إيصال المعاني السامية لدينهم ورسالتهم السماوية.. ويبدو ووفق المعطيات القائمة على هذا الصعيد نتمكن من القول: أن المجتمعات العربية اليوم تعاني من مشكلات حقيقية في استيعاب تعددياتها الدينية والمذهبية والقومية.. والمجتمع الذي لا يحسن احترام تنوعه ولا يحافظ عليه، فإنه لن يتمكن من بناء جسور معرفية وحضارية مع الأمم والشعوب الأخرى..
لذلك فإن إعادة الدور الرائد للعرب في التجربة التاريخية الإسلامية، يتطلب من جميع المجتمعات العربية العمل على بناء واقع سياسي واجتماعي جديد يحترم تنوعه الأفقي والعمودي ويذود عن حقوقهما الخاصة والعامة..
فلا مستقبل على المستوى الحضاري، إلا إلى المجتمعات التي لا تقمع تنوعها ولا تحارب حقائق التعددية فيها..
وجميع مجتمعاتنا العربية اليوم، بحاجة إلى خطوات نوعية في هذا السبيل..
2- إن المجتمعات التي تعاني من رهاب التجديد والإصلاح وتحارب أهل التنوير وبناء الرؤى والمعارف الجديدة، هي مجتمعات غير مؤهلة لريادة قاطرة الإسلام في العصر الراهن.. لأن ضمور القدرة والطاقة التجديدية والإصلاحية للمسلمين، هو الذي يساهم في تراجع مستوى الوعي الحضاري والقدرة العامة على مواكبة العصر ومنجزات الحضارة الحديثة.. والمجتمعات العربية على هذا الصعيد أيضا تعاني من مشكلات وأزمات، حيث أنها مجتمعات لا تحفل بالتجديد ولا تحتضن المجددين ولا تحمي المصلحين بل في الأغلب هي تكون في الموقف المقابل لذلك حيث أنها تألف الركود والجمود وتسوغ استمرارهما، وتحارب أصحاب العقول التجديد والإبداعية القادرة على تحريك الساكن، وتعلي من شأن سدنة القديم وتعتبره هو المعادل الموضوعي للقيم والمقدسات لذلك تتلاشى في هذه المجتمعات كل الفعاليات القادرة على إحداث معادلة جديدة في مسار هذه المجتمعات.. ولا يمكن لمجتمع يعيش الجمود ويحميه، أن يتمكن من قيادة مشروع الإسلام في العصر الجديد..
فالإسلام اليوم يحتاج إلى مجتمعات تعيش الحرية والفعالية والحيوية في مختلف مجالات الحياة..
3- ثمة علاقة عميقة تربط بين الريادة والتمكن الحضاري في الأرض والقدرة على إنتاج المعرفة والعلم.. بمعنى أن المجتمعات الإنسانية القادرة على قيادة دفة العالم، هي تلك المجتمعات القادرة على إنتاج العلم والمعرفة.. أما المجتمعات التي لا تشارك بفعالية في انتاج العلم والمعرفة، فهي مجتمعات عير قادرة من الناحية الفعلية على التأثير النوعي في مسيرة العالم..
والعرب اليوم إذا أرادوا قيادة دفة العالم الإسلامي، فعليهم الاهتمام بصناعة العلم وتبيئة المعرفة القادرة على المشاركة والتفاعل مع قضايا واحتياجات العالم.. دون ذلك لن يتمكن العرب من القيادة والريادة لعالم الإسلام المعاصر..
وخلاصة القول: إن الأمة القادرة اليوم على قيادة دفة العالم الإسلامي وصناعة مستقبله، هي الأمة المتطورة في إدارة تعدديتها وتنوعها الثقافي والاجتماعي، والقادرة على انتاج العلم والمعرفة، والمشاركة من موقع القدرة الفعلية في تقديم العلوم والمعارف للعالم، كما أنها الأمم التي لا تحارب التجديد ولا تقف موقفا سلبيا من محاولات التطوير ومشروعات الإصلاح..
التطرف والعلاقات الإسلامية
طبيعة النمط الثقافي والسلوكي الذي يسير على هداه ومنواله الإنسان المتطرف. هو أنه لا يبحث عن النقاط المضيئة في موضوع تشدده وتطرفه، وإنما يغض النظر عن هذه النقاط ويتغافل عنها، ويوجه اهتمامه صوب النقاط السوداء التي تبرر رأيه وموقفه وتزيده تشبثا بمقولاته المتطرفة وقناعاته الجامدة.
ويتجلى هذا النمط والسلوك في طبيعة الرأي والموقف الذي يتخذه المتطرف من وقائع وحقائق العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية. حيث أنها علاقات إنسانية وسياسية وثقافية واجتماعية، تتراوح بين علاقات ودية وهادئة أو علاقات متوترة ومليئة بنقاط التباين والتوتر أو هي علاقات جامدة حيث تحتضن عناصر السلب كما تحتضن عناصر الإيجاب.
الإنسان المتطرف سواء من هذه المدرسة الفقهية أو المذهبية أو تلك، هو بطبيعته المتطرفة والمتشددة، يتجاهل عناصر الإيجاب في هذه العلاقات، ويتغافل عن تلك اللحظات التاريخية التي تطورت فيها العلاقات الإسلامية على نحو إيجابي.
وينشغل نفسيا وعقليا بكل اللحظات التي ساءت فيها تلك العلاقات ووصلت إلى مديات سلبية، كما يحتفل بكل المقولات المذهبية المتطرفة والمتشنجة ويعزز بها قناعاته، ويزداد تشبثا بمواقفه، يضخم عناصر التوتر ويستدعي بعض لحظات التاريخ الذي سادت فيها التوترات، ويتغافل ويتجاهل الحقائق المضادة لتطرفه وتشدده المذهبي.
يتعامل مع الخلافات والاختلافات الإسلامية ـ الإسلامية، بوصفها قدرا مقدرا، لا يمكن تجاوزها أو معالجتها.
ويحتضن بوعي وبدون وعي من جراء هذا، كل المقولات النبذية الاستئصالية، ويرى أن الطرف الإسلامي الآخر، لا ينفع معهم إلا لغة النبذ والاستئصال والقوة. ويتغافل عن حقائق ومقولات أن الأفكار والقناعات الدينية والمذهبية، لا يمكن استئصالها، ولا يمكن دحرها من الوجود، لأنها حقائق عنيدة وتزداد رسوخا في تربتها الاجتماعية، حينما تتجه إليها رياح الاستئصال والقتل والتدمير.
وعليه فإننا نعتقد أن طبيعة نفسية وثقافة المتطرف والمتشدد الديني والمذهبي، تمارس عملية التغذية التي تديم حالات التطرف وتمدها بأمصال الوجود والحياة.
وإن قبض المتطرفين من كل الأطراف على ملف العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية، سيزيد الأمور تعقيدا وتشنجا.
لأن التطرف بطبعه ضد التآلف والتآخي والوحدة والتفاهم، كما أن التشدد المذهبي يساهم في تصحير مسافات اللقاء والاشتراك.
وإن السماح لكل النزعات المتطرفة في التحكم بطبيعة العلاقة بين المسلمين، لن ينتج إلا المزيد من التوتر وسوء العلاقة وتراكم عناصر السلب فيها.
لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع تحسين العلاقات الإسلامية بين المسلمين، هو منع جماعات التشدد والتطرف من الإمساك بهذا الملف الهام والحيوي، وتضافر كل الجهود من أجل القيام بمبادرات من قبل أهل الاعتدال والوسطية لإدارة ملف العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية. فحينما تتحرر علاقات المسلمين مع بعضهم البعض من هيمنة أهل التطرف والتشدد، فإن قدرة أهل الاعتدال على بناء أسس العلاقة الإيجابية والتفاهم بين المسلمين ستكون فعلية وحقيقية. بمعنى حينما نتمكن من فك الارتباط بين جماعات التطرف ومسيرة العلاقة بين المسلمين، حينذاك ستتحرر هذه العلاقة من الكثير من القيود والأعباء التي تساهم في تعطيل هذه العلاقة أو تفجيرها من الداخل.
وفي سياق العمل على إخراج ملف العلاقات بين المسلمين من قبضه أهل التطرف والتشدد نود بيان الأفكار التالية:
1ـ إن السنة والشيعة من حقائق التاريخ والاجتماع الإسلامي. ولا يمكن لأي طرف مهما أوتي من قوة، أن يلغي هذه الحقائق من الخريطة والوجود الإسلامي.
وإن المطلوب دائما مهما كانت الحقائق المضادة ونزعات التشدد والتطرف هو توسيع دائرة التلاقي والتفاهم.
لأن البديل عن هذه الدائرة، يساوي أن يدمر المسلمون واقعهم، ومجتمعاتهم بأيديهم.
فالحروب المذهبية لا رابح منها، وإن إخضاع الواقع الإسلامي إلى متواليات هذه الحروب ستضر بجميع المجتمعات الإسلامية. لذلك فإن مصلحة الجميع تقتضي الجلوس على طاولة التفاهم والبحث بشكل موضوعي عن آليات تصليب العلاقات بين المسلمين، وإخراجها من دائرة التحريض والنبذ والاستئصال.. فالصراخ الطائفي لن يغير من حقائق الوجود الإسلامي، ونار الطائفية حينما تحترق فإنها ستصيب الجميع ولعل أول من تصيبه هو شاعلها.
2ـ كل الأمم والشعوب عانت بطريقة أو أخرى من انقساماتها الدينية أو المذهبية أو القومية أو العرقية. وإن المجتمعات الحية والواعية هي وحدها التي تمكنت من إدارة انقساماتها الدينية وغيرها بما لا يضر راهنها وواقعها.
وإن المجتمعات الإسلامية معنية قبل غيرها، للتفكير بجد في الطريقة المثلى التي تجنب الجميع ويلات التحريض والحروب عبر إدارة حضارية لخلافاتها وانقساماتها المذهبية.
ومن يبحث عن حلول استئصاليه، والغائية، فإنه لن يجني إلا المزيد من المآزق والحروب.
وقد جرب الجميع هذه الحقيقة بطريقة أو أخرى.
لذلك لا مناص إلا التفاهم وتدوير الزوايا والبحث عن سبل تحييد الانقسام المذهبي عن راهن وواقع المسلمين اليوم. وهذا لن يتأتى إلا بـ:
- الاحترام المتبادل ورفض كل نزعات تسخيف قناعات الآخر. فمن حق الجميع أن يختلف في قناعاته وأفكاره، ولكن ليس من حق أي أحد أن يتعدى ماديا أو معنويا على قناعات ومقدسات الآخرين.
- إن ضبط العلاقة بين المختلفين مذهبيا في الدائرة الإسلامية، لا يمكن أن تعتمد على المواعظ الأخلاقية فحسب، وإنما هي بحاجة إلى منظومة قانونية متكاملة، تجرم أي تعد على مقدسات أي طرف من الأطراف.
- من الضروري لكل الدول التي تدير مجتمعات متعددة ومتنوعة، أن تتعالى على انقسامات مجتمعها، وأن لا تكون طرفا في عمليات الانقسام الديني أو المذهبي. من حق أي فرد في الدولة أن يلتزم بقناعات مدرسة أو مذهب، ولكن من الضروري أن لا يستخدم موقعه في الدولة لفرض قناعاته على الآخرين. فالدولة للجميع، ومن حق الجميع أن يحظى بمعاملة متساوية في الحقوق والواجبات.
3ـ إننا ندعو كل العلماء والدعاة والخطباء من كل الطوائف الإسلامية، إلى التعامل مع ملف وحدة المسلمين ومنع فرقتهم وتشتتهم، بوصفها من المبادئ الإسلامية الأصيلة، والتي تتطلب جهودا متواصلة لتعزيزها وتعميقها في الواقع الإسلامي المعاصر.
ولا يصح بأي شكل من الأشكال، أن يتم التعامل مع هذه القيمة الإسلامية الكبرى، بمقاييس الربح أو الخسارة أو المصلحة السياسية الآنية.
آن الأوان للجميع أن يصدع بضرورة تفاهم ووحدة المسلمين وأهل القبلة الواحدة، وأنه المشاكل أو المؤاخذات المتبادلة ينبغي أن تحترم متطلبات ومقتضيات وحدة وتفاهم المسلمين. وإن الطريق إلى ذلك، ليس أن يغادر أحدنا قناعاته، وإنما صيانة حرمة وحقوق الجميع المادية والمعنوية، وتنمية المساحات المشتركة، وبناء حقائق التلاقي والتفاهم بين أهل الوطن الواحد، ومنع التعدي على مقدسات بعضنا البعض، وإطلاق مبادرات وطنية تستهدف تطوير نظام التعارف المتبادل بين جميع المسلمين بمختلف مدارسهم الفقهية وانتماءاتهم المذهبية.
الرحمة ونظام العلاقات الاجتماعية
حين التأمل في مسيرة المجتمعات الإنسانية، نجد أن نظام العلاقات الداخلية يقوم على ركيزتين أساسيتين وهما: نظام العقد ومنظومة الحقوق والواجبات، التي تنظم العلاقة بين أبناء المجتمع في مختلف دوائرهم ومستوياتهم وإن هذا النظام هو الذي يحدد معيار العدالة الاجتماعية وسبل إنجازها..
وإن هذا النظام هو الذي يحول دون الانحدار إلى الفوضى في العلاقات والوقائع الاجتماعية المختلفة.
والنظام الآخر هو ما يمكن تسميته بنظام الرحمة.. بمعنى أن هذا النظام هو الذي يعطي للعلاقات الاجتماعية بعدها الإنساني والأخلاقي. وهذه القيمة تتكفل بسد الثغرات الناتجة من التطبيق الحرفي للنظام التعاقدي..
والمجتمع أي مجتمع لا يمكن أن تستقر أحواله وتتطور حياته بدون هذين النظامين.
فالمجتمع لا يمكنه أن يعيش بنظام الرحمة، دون وجود منظومة قانونية توضح دائرة الحقوق والواجبات، كما أن المجتمع يصاب باليباس الأخلاقي والسلوكي، حينما تتراجع قيمة الرحمة في فضائه الاجتماعي. وعليه فإن المجتمع يحتاج إلى القانون، كما يحتاج الرحمة والبعد الإنساني. ونود في هذا المقال أن نركز على نظام أو قيمة الرحمة في العلاقات الاجتماعية.
على ضوء التجارب الإنسانية المتعددة، نستطيع القول أن الجوامع المجردة في الكثير من الأمم والشعوب والأوطان، لم تتمكن من ضبط خصوصياتها وصياغة فضاء وهوية مشتركة حقيقية. لذلك فإن المطلوب: ليس الاكتفاء والركون المجرد إلى الجوامع والقيم المجردة التي عادة الناس لا يختلفون حولها. وإنما الأمم والشعوب دائماً، هي بحاجة إلى تنمية المصالح المشتركة وربطها بواقع الحياة اليومية. حتى يتسنى للجهد الفردي والجمعي المبذول يومياً، أن يعمق ويجذر أسس تشابك المصالح ووحدة المصير.
فالمثل والمبادئ العامة، بحاجة دائماً في الإطار الاجتماعي أن تتسرب إلى تفاصيل الحياة الاجتماعية، وتكون جزءاً من النسيج الاجتماعي. ولاشك أن عملية تنزيل هذه المثل والمبادئ على الوقائع الاجتماعية المتحركة والمتغيرة دوماً، لا يمكن أن تتم بدون وجود مصالح مشتركة حقيقية، تربط بين كل أطراف المجتمع الواحد.
فالوحدات الاجتماعية والوطنية، لا تصنع بالمجردات من الدوافع والبواعث والمسوغات، وإنما هي تصنع بالحياة المشتركة على الصعد كافة. وهذا بدوره بحاجة إلى تنمية كل العلائق والروابط الاجتماعية بدوائرها المتعددة، والاقتصادية بمستوياتها المختلفة، والإنسانية بآفاقها الرحبة، والثقافية بتفاصيلها ووقائعها اليومية والرمزية. وكل هذا أيضاً بحاجة إلى سياج أخلاقي يتحصن به أفراد المجتمع، قوامه العفو والتسامح واللين والرفق وحسن الظن وما أشبه. وهي قيم ومثل أخلاقية وسلوكية قادرة على امتصاص أخطاء البشر وتشنجاتهم، كما أنها كفيلة بضبط النزعات النفسية والاجتماعية التي قد تساهم في تدمير الحياة المشتركة.
لذلك نجد أن القرآن الحكيم، يؤكد على هذه القيم، ويعتبرها أنها قادرة على تحويل المواقف وضبط العداوات كمقدمة لإنهائها. إذ يقول تبارك وتعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (فصلت 34).
فالأخلاق الفاضلة والتعامل الحسن والحضاري مع الآخرين، يساهم بشكل مباشر، في نزع الغل والأحقاد من النفوس، وغرس قيم المحبة والاحترام. وقال عز من قائل {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران 103).
وبإمكاننا أن نكثف هذا السياج الأخلاقي المطلوب، بكلمة واحدة وهي (الرحمة). إذ هي جوهر المحبة والألفة وضد التنافر والكراهية. فهي الأصل النفسي والأخلاقي الذي يفيض بالخير بمختلف أبعاده.
وهي الروحية التي تقدر الآخرين وتحترمهم، فتحبهم وتشفق عليهم، وتتمثل كلمة طيبة حانية، ولمسة رقيقة، وعوناً في الشدائد، وحسنا في الجوار، وما لا يحصى في الأقوال والأفعال، لتعكس على كل ذرة في هذا الوجود، وعلى كل شكل من أشكال العلاقة مع الإنسان الفرد والجماعة.
فتكون بذلك أصيلة في النفس بدون ضغط أو تكلف، ودخيلة في صياغة كل علاقة مهما كانت بسيطة.
لذلك نجد أن الرحمة في المنظور الإسلامي، هي أهم صفة وصف الله تعالى بها نفسه، وهي ركن في التشريع، وهي جميع الأخلاق، وهي التي يجب أن تسود حتى في حال الحرب والقسوة، لأن غاية الحرب الوصول إلى الهدى، إلى الله ورحمته.
وهي مطلوبة مع الجماد عناية به وتصرفاً سليماً به. ومطلوبة مع البهائم رفقاً بها حية، وعدم القسوة عليها ذبيحة.
ومطلوبة إنسانياً بتجلياتها محبة ورفقاً وشفقة ومساعدة ونصيحة ونحوها. كما تقف ضد كل تجليات القسوة والشدة كالتباغض والتنافر والجريمة والظلم.
فالرحمة بكل تجلياتها وآفاقها، هي السياج الذي يحفظ الوحدات الاجتماعية من الانزلاق إلى مهاوي الصدام والشقاق.
فالاختلافات الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية، ليست مبرراً كافياً للخروج من سياق العدالة وممارسة الظلم بحق الآخرين تحت مبرر وعنوان الاختلاف العقدي أو السياسي.
فالقيم العليا للإنسان، لا تبرر بأي شكل من الأشكال ممارسة العسف بحق الآخرين لكونهم مختلفين معك في الرؤية أو الفكرة. فقيم العدالة واحترام الآخرين في ذواتهم وأموالهم وأعراضهم، حاكمة على كل قيم الاختلاف ومبررات العداء تجاه الآخرين. لذلك يقول تبارك وتعالى {يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (المائدة 8). وحينما تسند قيمة العدالة بقيمة الرحمة، تزول كل الأسباب والمنغصات التي تضر بواقع المجتمع واستقراره الداخلي. فالتراحم بين الناس بمختلف فئاتهم وشرائحهم، هو القادر على سد الكثير من نقاط الضعف والحالات الرخوة في المجتمع.فتعالوا آحادا وجماعات نلتزم بكل مقتضيات التراحم بيننا.
العلاقات الإسلامية وسؤال المصالحة
من المؤكد أن العلاقة التي يعيشها أهل المذاهب الإسلامية اليوم، من أصعب وأعقد اللحظات. وذلك لبروز الغرائز المذهبية والطائفية، وسعي كل طرف للغلبة على الطرف الآخر. صحيح أن الخلافات الفقهية والمذهبية بين المسلمين ليست جديدة، وإنما هي ذات عمق تاريخي يمتد إلى مئات السنين. ولكن الأكيد أنها لم تشهد في كل تلك الحقب التاريخية الماضية من توتر واشتعال وتوجس الجميع من الجميع.
فالعلاقة المذهبية بين المسلمين اليوم، تعيش أصعب مراحلها، وتنذر إذا استمرت هذه الحالة على حالها، الكوارث هائلة تصيب البلاد الإسلامية على أكثر الصعد والمستويات. وذلك لأن الاحتقان وصل أقصاه، وازدادت المجموعات العنفية والإرهابية، التي تتبنى خيار الحرب والاستئصال للمختلف المذهبي، ودخلت بعض المجتمعات العربية والإسلامية في أتون الاحتراب المذهبي المفتوح على كل الاحتمالات الكارثية.
ولا ريب أن صمت حكماء الأمة عن هذا الخطر، سيفاقمة، وسيدخله مرحلة جديدة من الاحتراب الصريح، الذي لن يبقي حجرا على حجر. كما أن اشتراك بعض الفعاليات الدينية العليا في تغذية حالة الاحتراب وبعض الجماعات الإسلامية ذات التأثير في مجتمعاتنا، يعني استمرار الغطاء الديني الذي يغذي حالة التوتر والاحتراب، ويبرر للجميع الانخراط في هذا المشروع الخطر والذي يهدد الأمة جمعاء في أمنها واستقرارها، وفي راهنها ومستقبلها.
وكلنا يعلم أنه في هكذا أجواء، يرتفع الصوت الأحمق والممارسة المجنونة وغير المحسوبة من جميع الأطراف والأطياف.
لذلك نتمكن من القول اليوم وللأسف الشديد أنه ثمة حالة من الاحتراب الأهلي الصريح والكامن بين المسلمين.
وبفعل هذه الحالة يسفك يوميا الدم الحرام، ويتم تخريب الكثير من البنى التحتية للبلاد الإسلامية، ويتم إنهاك النسيج الاجتماعي وتفجير التناقضات البينية والفرعية في كل الاجتماع الإسلامي المعاصر. وتحول الإسلام بفعل هذه التوجهات المذهبية الحادة والمتطرفة، من مصدر لبناء الوحدة وتوحيد المجتمعات وخلق حالة من الطمأنينة والثقة بين مختلف تعبيرات ومكونات الأمة. إلى مصدر للحرب والقتل وخلق حواجز العداوة والكراهية بين المسلمين. وبدل أن يعمل الجميع على تحييد تاريخهم المليء بالإحن والأحقاد، تم استدعاء التاريخ بكل حمولته من قبل الجميع، وأصبح (أي التاريخ) هو أحد الروافد الأساسية لإدامة الفرقة والنزاع بين المسلمين. وكأننا كمسلمين معاصرين، نتحمل عبء التاريخ وأحداثه وحروبه.
كل الأمم الحية اليوم، تتجاوز حقب التاريخ السوداء لها، إلا الأمة الإسلامية اليوم، فهي تجتهد لاستدعاء التاريخ وإعادة إحياء حروبه ونزاعاته.
وبدل أن يلتفت الجميع إلى تجارب الأمة في تجاوز حروبها وانقساماتها التاريخية، نحن نبدع كمسلمين في اجترار التاريخ والإضافة على حروبه ونزاعاته المزيد من الحروب والنزاعات التي لا تفضي إلا إلى المزيد من الدماء والأشلاء.
وإن استمرار المجتمعات الإسلامية في هذا السياق والمسلك، يعني استمرار حالة التدمير الممنهج للذات الإسلامية بكل عناصرها الإيمانية والإنسانية.
لهذا آن الأوان أن يرتفع الصوت عاليا ومن جميع الفعاليات والأطراف لا للاحتراب المذهبي، نعم للمصالحة التاريخية التي تعيد صياغة العلاقة بين المسلمين بعيدا عن أحن التاريخ وإكراهات الواقع.
فمهما أوتي أي طرف من أسباب القوة والمنعة، واستخدام كل أدوات القتل والإرهاب، إلا أنه لن يتمكن من إنهاء الوجود الإسلامي الأخر. فليس بمقدور أي طرف من إلغاء الطرف الآخر، واستمرار حالة الاحتراب المذهبي، تضر الجميع وتفقدهم عناصر قوتهم، كما أنه يساهم في تقديم صورة الإسلام للعالم، وكأنه دين القتل والتصفية الجسدية وصناعة الحروب الأهلية.
آن الأوان أن يلتفت حكماء وعلماء الأمة من السنة والشيعة، إلى ضرورة إطلاق مشروع متكامل للمصالحة الإسلامية الحقيقية، التي تنهي كل أسباب الاحتراب المعاصر بين المسلمين.
لأن كل حروب المسلمين الداخلية، بلا أفق حقيقي، وإن استمرارها سيخرج الأمة جمعاء من حركة التاريخ، وسيجعلها في سجل الأمم الفاشلة التي لم تتمكن من منع المسلمين من الاقتتال الداخلي.
ونرى أن أهم أسس المصالحة بين المسلمين التي ننشدها وندعو إليها هي العناصر التالية:
1ـ وقف حملات التشويه وحروب الأوراق الصفراء من قبل جميع الأطراف الإسلامية. لأن هذه الحروب لا تقدم المسلم الآخر على نحو حقيقي أو إيجابي، وإنما تقدمه وكأنه متعطش لدم المسلم الآخر.
وجميع المؤسسات الإسلامية والفعاليات الدينية، تتحمل مسؤولية مباشرة في مشروع وقف حروب الشائعات والتشويه التي يتعرض إليها المسلمون من بعضهم البعض. ولو نصتنا قليلا إلى ما يبثه الإرهابيون، لوجدنا أن أحد أهم الأسباب التي دفعتهم إلى الإرهاب وقتل المسلم الآخر، هو طبيعة الثقافة المشوهة المبثوثة، القائمة على تشويه سمعة المسلم الآخر، واتهامه بأقذع التهم. مما يجعل المسلم يعيش حالة الاحتقان والحقد على الطرف المسلم الآخر.
وقد يتحول هذا الحقد والاحتقان، إلى ممارسة عنفية ضد المسلم الآخر.
لهذا لا يمكن أن ننجز مشروع المصالحة بين المسلمين اليوم، إلا بوقف حقيقي من جميع الأطراف لحملات التشويه وحروب الشائعات، التي تقدم الطرف المسلم الآخر على النقيض من حقيقته الإسلامية والاجتماعية. لأن الكثير مما يبث في زمن الاحتراب المذهبي، ليس صحيحا أو مشوها أو مجتزأ.
2ـ التمسك بخيار التعايش، المبني على ضمان حق الاختلاف وضرورة المساواة، بحيث لا يكون الانتماء المذهبي في كل المجتمعات الإسلامية حائلا دون تمتعه بحقوقه الوطنية.
كما أن التعايش لا يعني أن يغادر أحد الأطراف موقعه الأيدلوجي لصالح الطرف الآخر. فالمسلم السني يعتز بإسلامه وفق فهم السلف، كما أن المسلم الشيعي يعتز بإسلامه وفق فهم أئمة أهل البيت. والمطلوب من الجميع احترام كل هذه القناعات، حتى لو لم يكن معتقدا بها. فالاختلاف المذهبي لا يشرع لأي طرف ممارسة الظلم وانتهاك حقوقه من الطرف الآخر. ومقتضى المصالحة الفعلية بين المسلمين هو التزام الجميع بمقتضيات التعايش، بحيث لا نسيء إلى بعضنا البعض، ونرفض جميعا كل أشكال الانتهاك التي يتعرض إليها الإنسان المسلم سواء كان سنيا أو شيعيا.
3ـ تعلمنا تجارب الأمم التي ابتليت بحروب مذهبية بين مكوناتها، أنه لا خروج فعليا وحقيقيا من هذه الحروب، إلا ببناء دولة جامعة، غير منحازة لأي طرف مذهبي، وتعمل بكل قدراتها إلى الإعلاء من مبدأ المواطنة كبديل عن مبادئ الانتماء المذهبي. فكل مواطن بصرف النظر عن مذهبه، له كامل الحقوق وعليه كامل الواجبات.
وإن الدولة معنية بتنفيذ كل مواد القانون والدستور التي تجرم التفريق بين المواطنين لأسباب مذهبية.
فالدولة الجامعة اليوم في كل البلدان العربية والإسلامية، هي القادرة على معالجة كل أسباب الاحتراب المذهبي، وإرساء أسس المصالحة الحقيقية بين المسلمين.
لهذا فإننا نرفض أي شكل من أشكال المحاصصة الطائفية في بناء الدول، و ندعو إلى جعل المواطنة المتساوية هي مصدر الحقوق والواجبات.
الطريق إلى التعايش
حين الحديث عن التعايش بين مكونات وتعبيرات المجتمع والوطن الواحد، فإننا حقيقة نتحدث عن قيمتين أساسيتين وهما قيمة الاختلاف وقيمة المساواة..
فينبغي أن نعترف بحقنا جميعا بالاختلاف، وهذا الاعتراف ينبغي أن لا يقود إلى التحاجز وبناء الكانتونات الاجتماعية المنعزلة عن بعضها، كما أنه ينبغي أن لا يقود إلى التعدي على الحقوق..
فالتعايش هو حصيلة بناء علاقة إيجابية بين حق الاختلاف وضرورة المساواة.. وأي خلل في هذه المعادلة، يضر بحقيقة التعايش في أي مجتمع ووطن..
ومفهوم التعايش بطبيعته ومضمونه، لا يلغي التنافس أو الخلافات بين المكونات والتعبيرات والأطياف، وإنما يحدد وسائلها، ويضبط متوالياتها.. فالتعايش لا يساوي السكون والرتابة، وإنما يثبت الوسائل الإيجابية والسلمية لعملية التنافس والاختلاف، ويرفض الوسائل العنيفة بكل مستوياتها لفض النزاعات أو إدارة الاختلافات والتباينات..
كما أن مفهوم التعايش، لا يرذل الاختلافات والتباينات بكل مستوياتها، وإنما يعتبرها حالة طبيعية وجزء أساسي من الوجود الإنساني، ولكنه يرفض أن تتحول عناوين الاختلاف والتباين،لوسيلة لامتهان كرامة المختلف أو التعدي على حقوقه الخاصة والعامة. فالتعايش كمفهوم وممارسة، لا يشرع بأي نحو من الأنحاء، لأي طرف مهما كان الاختلاف والتباين، إلى التعدي على الحقوق أو تجاوز الأصول والثوابت في التعامل مع المختلف وفق ضوابط العدالة والمناقبية الأخلاقية.. لذلك يقول تبارك وتعالى في محكم كتابه [ولا يجر منكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى]..
لذلك فإن خلق معادلة متوازنة وحيوية بين مفهومي الاختلاف والمساواة، هو جذر التعايش وجوهره النوعي.. فالاختلاف لا يقود إلى الظلم والافتئات، بل يؤكد قيم العدالة والمساواة.
إذا تحققت هذه المعادلة، تحقق مفهوم التعايش في الفضاء الاجتماعي والوطني.. وبدون هذه القيم والحقائق لا ينجز مفهوم التعايش في أي مجتمع وفضاء إنساني..
ووفق هذه الرؤية فإن التعايش، لا يساوي أن يتنازل أحد عن ثوابته ومقدساته، وإنما يساوي الالتزام بكل مقتضيات الاحترام والعدالة لقناعات الطرف الآخر، بصرف النظر عن موقفك الحقيقي أو العقدي منها..
وهذه ليست حفلة تكاذب أو نفاق، كما يحلو للبعض أن يطلق عليها، بل هي جهد إنساني متواصل لتدوير الزوايا ومنع تأثير العوامل السلبية، التي توتر العلاقات بين المختلفين أو تعيدها إلى المربع الأول..
فالتعايش لا يقتضي الانشقاق أو التفلت من الثوابت أو الأصول لدى الأطراف، وإنما يقتضي الإصرار على خيار التفاهم وتوسيع المشترك وإدارة نقاط التباين وموضوعات الاختلاف بعقلية حضارية، توفر للجميع حق التعبير عن قناعاتها ووجهة نظرها، بعيدا عن الإساءة إلى الطرف أو الأطراف الأخرى..
وعليه فإننا نعتقد وبعمق أن خيار التعايش بين مختلف الأطياف والمكونات، التي يتشكل منها المجتمع والوطن الواحد، هو من الضرورات الدينية والأخلاقية والوطنية،لأنه السبيل لضمان حقوق الجميع بدون تعدي وافتئات، كما أنه الإمكانية الوحيدة وفق كل الظروف والمعطيات لصيانة الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي والوطني.. ومن يبحث عن الحقائق الأخيرة بعيدا عن مفهوم التعايش ومقتضياته، فإنه يساهم في تأسيس بذور الكثير من الأزمات والكوارث الاجتماعية والسياسية.. فالمجتمعات المتعددة والتي تحتضن تنوعات عمودية وأفقية إذا صح التعبير، بحاجة إلى جهد لإدارة هذه التنوعات بعيدا عن إحن الماضي أو هواجس الخصوم..
فالاستقرار العميق في كل الأوطان والمجتمعات، هو وليد شرعي لحقائق التعايش ومتطلباته حينما تسود المجتمع بكل فئاته وشرائحه وأطيافه..
وعليه فإن صناع الوعي والمعرفة والكلمة في مجتمعنا، يتحملون مسئولية عظيمة في هذا الصدد.. فهم معنيون راهنا ومستقبلا، بصناعة المعرفة التي تؤكد خيار التعايش، وتعمق أواصر التفاهم بين مختلف الأطياف.. وهذا لا يتأتى إلا باشتراكهم الفعال في محاربة كل الأفكار التي تزرع الشقاق والأحقاد بين أبناء المجتمع والوطن الواحد..
لهذا فإن خطابات التحريض والتشدد والغلو ضد المختلف في الدائرة الوطنية والاجتماعية، لا تبني تعايشا ولا تحافظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، لأنها وببساطة شديدة، تؤدي إلى خلق الحواجز النفسية والاجتماعية ضد المختلف، كما تساهم في إذكاء أوار التوتر والصدام.. لهذا فإن الحديث عن التعايش، أو بالأحرى تبني هذا المفهوم وهذه المقولة، يقتضي الوقوف بحزم ضد كل مقولات التعصب والغلو والتشدد ضد المختلف..لأن الآثار الخاصة والعامة المترتبة على نزعة التعصب والغلو، كلها آثار مناقضة ومهددة إلى أسس وحقائق التعايش في الفضاء الاجتماعي..
لهذا فإن الصمت إزاء نهج التعصب والمقولات التحريضية، يعد مساهمة مباشرة وغير مباشرة في إفشال نهج التعايش في المجتمع والوطن..
وعليه فإننا نعتقد وبعمق أن التعايش هو وليد منظومة مفاهيمية واجتماعية وثقافية متكاملة.. وإن من يتبنى نهج التعايش عليه أن يضيع منظومة فكرية واجتماعية متكاملة، حتى يكون سلوكه وكل مواقفه منسجمة ومقتضيات التعايش، وحتى يتمكن من موقع الأنموذج والقدوة للتبشير بهذا الخيار، ودعوة أبناء المجتمع إلى تبني هذا النهج كنهج يحفظ حقوق الجميع، ويصون استقرارهم، ويحافظ على مكتسباتهم.. ومن الضروري أن ندرك جميعا أن نقص أو ضمور حقائق التعايش في أي مجتمع وتجربة وطنية، يساهم في تقويض مشروعات التنمية البشرية، ويزيد من الفجوات العمودية والأفقية بين مختلف التكوينات الاجتماعية مما يجعل الأرضية الوطنية مهيئة للكثير من الانقسامات و التشظيات..
وبمقدار ما نتمسك بقيمة المواطنة كوعاء حاضن لنا جميعا بذات القدر نعيد صياغة علاقتنا بانتماءاتنا الخاصة.. فالمواطنة بكل حمولتها القانونية والحقوقية، هي القادرة على استيعاب كل التنوعات والتعدديات.. وهي التي تحول دون انحباس احد في انتمائه الخاص.. وهذا يتطلب منا جميعا مواطنين ومؤسسات رسمية وأهلية، العمل على صياغة مشروع وطني يستهدف تعزيز قيمة المواطنة.. وإن تعزيز هذه القيمة في فضائنا الاجتماعي والوطني، يقتضي العمل على تفكيك كل الحوامل والحواضن الثقافية لظواهر التعصب والغلو والتشدد بكل مستوياتهما.. لهذا فإننا مع كل مبادرة، تعزز قيمة التفاهم بين الأشخاص والأطياف، ومع كل خطوة تساهم في تدوير الزوايا الحادة بين مختلف الفرقاء..
التعايش من منظور مختلف
ثمة محاولات معرفية وأخلاقية لتأصيل مفهوم التعايش السلمي بين تعبيرات المجتمع الواحد من زاوية أخلاقية محضة.
وكأن التعايش كحقيقة وسلوك والتزام هو فضيلة أخلاقية، ومطلوبة من جميع الأفراد، بوصفها انعكاس لمستوى التزام الإنسان بفضائل الأخلاق ومحاسنه.
لذلك فإن هذه المحاولات، لا تحفر عميقا في معنى التعايش السلمي وضرورته المعرفية والسياسية والمؤسسية في المجتمعات المتنوعة سواء كان هذا التنوع دينيا أو مذهبيا، أو فكريا وسياسيا. وبفعل هذه القراءة يتم التعامل مع مقولة التعايش السلمي وكأنها تساوي تحلي الإنسان بمكارم الخلاق سواء في داخل أسرته أو محيطه الاجتماعي والأخلاقي فقط.
ومن المؤكد في هذا السياق أن لهذا المفهوم جنبه أخلاقية، ولكن اختصار هذا المفهوم بالبعد الأخلاقي، يضيع الكثير من المضامين المعرفية والمؤسسية لهذا المفهوم.
ونحن نحاول في هذا المقال أن نوضح بعض الجوانب المتعلقة بمفهوم التعايش السلمي بوصفه من المفاهيم التي تتعدى المجال الأخلاقي، ويكون جزءا من المنظومة المعرفية والمؤسسية لأي تجربة إنسانية تنشد الاستقرار على أسس صلبة وعميقة.
وسنوضح هذه الجوانب من خلال النقاط التالية:
1ـ إن مفهوم التعايش السلمي يتعدى في مضمونة وجوهره البعد السلبي والذي يساوي أن يبقى الإنسان فردا أو مجموعة عل حالة في مقابل مجموعة أخرى أيضا تبقى على حالها.
فالتعايش السلمي بين مجموع الأطراف والأطياف، محاولة مشتركة وجهد جماعي تقوم به جميع أطياف المجتمع باتجاه صناعة الراهن على منوال حقيقة التعدد والتنوع المنضبطة بقيمة التعايش.
فالتعايش ليس تساكنا سلبيا بين أطراف ومكونات مختلفة، بل هو مساحة اجتماعية ومعرفية واجتماعية مشتركة، تتجه صوب تنمية حقائق بناء الراهن بعيدا عن نزعات الاستحواذ أو الاستفراد، أو محاولة جعل المجال العام خاصا بمكون من المكونات.
وبالتالي فإن التعايش السلمي بين الأطراف، لا يبنى بالتغني بالمثل الأخلاقية أو المواعظ الإنسانية فحسب، وإنما بسعي مستديم من قبل الجميع على بناء الحاضر على قاعدة احترام التعدد والذي يترجمه في المجال العام العيش المشترك والمتساوي بين جميع الأطياف.
وكلنا يعلم أن بناء راهن المجتمعات المتعددة والمتنوعة، يتطلب إرادة سياسية وإنسانية، تتجه دوما باتجاه صيانة الحق ومنع كل محاولة للافتئات على المجال العام من قبل رؤية آحادية واحدة.
فالتعايش شعار ومشروع في آن واحد، رؤية وبرنامج مشترك لبناء الحقائق الجمعية، كما أن التعايش خروج معرفي واجتماعي من نزعات النرجسية أو الشعور بالامتلاء والاستغناء عن الآخرين.
من يتطلع إلى بناء الراهن على قاعدة التعايش المشترك بين جميع المكونات، يتطلب منه هذا التطلع الالتزام العميق بالجذور المعرفية والثقافية والسياسية لمفهوم التعايش السلمي بين أطياف متعددة ومتنوعة.
وعلى مستوى الممارسة هذا يعني أنه ليس من شروط التعايش أن يغادر أحد الأطراف قناعاته الفكرية والمعرفية، لصالح قناعة الطرف الآخر، بل من شروطه أن يذهب الجميع إلى المساحة المشتركة ويوظف قناعاته وخصوصياته الثقافية للمساهمة بإيجابية في إثراء المساحة والمجال المشترك.
2ـ إن التعايش السلمي لا يمكن أن ينجز في أي بيئة اجتماعية بدون سلطة القانون. لأن التعايش لا يساوي اللا التزام الوطني أو الاجتماعي، كما إنه لا يساوي أن يعمل الانسان في دائرته الخاصة ما يحلو له، إن التعايش بين تعبيرات الوطن والمجتمع الواحد، لا يمكن أن يتحقق بعيدا عن منظومة قانونية متكاملة قادرة على إدارة حقائق التعايش على نحو إيجابي. فالرهان الحقيقي في مفهوم التعايش ليس على الانضباط الأخلاقي الذاتي (مع أهميته) وإنما على وجود قانون يطبق على الجميع بعدالة يحول دون الافتئات أو تجاوز مقتضيات ومتطلبات التعايش بين مجموعات بشرية مختلفة. ولو تأملنا عميقا في التجارب التعايشية الناجحة في كل البيئات الإنسانية، لوجدنا أن سلطة القانون، هو أحد العوامل الأساسية التي ساهمت بفعالية في إنجاز مفهوم التعايش في واقع المجتمعات المتنوعة.
لذلك نستطيع القول: أن من يبحث عن قيمة التعايش في فضائه الاجتماعي، عليه أن يسعى لوجود سلطة للقانون الذي يسري ويطبق على الجميع. ودون ذلك تبقى مقولات التعايش وكأنها دعوة أخلاقية ووعظية مجردة. غير قابلة للتنفيذ، وإنما دورها الوحيد هو دغدغة مشاعر ووجدان الناس فقط.
بينما التعايش كما أوضحنا أعلاه، ليس دعوة وعظية مجردة، وإنما هو عمل لإدارة إرادات الناس المختلفين، بحيث لا تتحول هذه الإرادات إلى رافد لتضعيف المجتمع أو إخراجه من وحدته الداخلية.
وهذا لا يتم إلا بالالتزام بالقانون وتطبيقه على الجميع، حتى يبنى التعايش على قاعدة وحدة المجتمع وتلاحمه الداخلي.
لذلك ثمة ضرورة للدولة حتى يتحقق العيش المشترك بين جميع الأطياف.
فلا تعايش حقيقي في العصر الراهن بدون دولة، لكونها هي المؤسسة الأم التي تقوم بتنظيم العلاقة وبسط سلطة القانون وصياغة مشروع وطني جامع لكل الأطراف والمكونات.
3ـ تطوير نظام الاعتراف والتعارف بين المختلفين، بوصفه أحد المداخل الأساسية لإنجاز مفهوم التعايش في الفضاء الاجتماعي. لأن التعايش الحقيقي لا يمكن أن يتم بين فرقاء يجهلون بعضهم البعض. فلا تعايش بلا تعارف، ولا تعارف مستديم بدون اعتراف بالوجود ومتعلقاته. لذلك ثمة ضرورة لإطلاق برنامج ومبادرات تستهدف أن يتعرف أبناء الوطن على بعضهم البعض، وذلك لتفكيك الرؤى النمطية التي تحبس الإنسان والمجموعات البشرية في قوالب جامدة، تزيد من فرص سوء الظن بين المختلفين. بينما التعارف المباشر يبدد الكثير من الصور النمطية، ويوفر فرصة التلاقي والانسجام النفسي، والذي بدوره يعزز إمكانية التعارف العميق بين المختلفين. التعارف الذي يدفع الجميع للانفتاح على الجميع بدون هواجس مسبقة سواء كانت ذات بعد تاريخي أو ذات بعد معاصر. وهكذا تتراكم قواعد التعايش في النفوس والعقول، وينفتح مجال التعاون على قاعدة المصير المشترك.
وجماع القول: إن التعايش بين المختلفين في الإطار الوطني، مرحلة تبلغها الأوطان الذي تحتضن حقائق التنوع بالكسب الإنساني الذي يتجه دوما صوب تذليل العقبات وتدوير الزوايا وصولا إلى تطوير المساحات المشتركة بين المختلفين. بهذه الخطوات تتحول مقولة التعايش من مسألة أخلاقية،إلى حيثية وحقيقة وجودية، اجتماعية،على ارض وطن له كينونته الثقافية وخصوصياته المجتمعية.
العيش الواحد
في الحياة الإنسانية تمتلئ الهويات ودوائر الانتماء لدى الفرد أو الجماعات البشرية.. إذ لدى كل دائرة إنسانية، ثمة انتماءات متعددة ومتكاملة في آن.. ومأزق هذه الجماعات البشرية، يبدأ بالبروز، حينما تتشكل بينهم ثقافة تقطع بين هذه الانتماءات، وتعمل على طرد بعض دوائر الانتماء لصالح دائرة واحدة..
حينذاك تتحول الهوية المركبة التي يعيشها الإنسان، من مصدر للتعدد المعرفي، والثراء الإنساني والاجتماعي، إلى فضاء للتحارب والتباغض وغرس الإحن والأحقاد بين أفراد هذه المجموعة البشرية.. فالإنسان مهما كان بسيطا أو يعيش في بيئات طرفية وفقيرة معرفيا وإنسانيا، هو يتغذى معرفيا وسلوكيا واجتماعيا، من مجموعة روافد وقنوات.. ولكل رافد دوره في إشباع حاجة من حاجات الانتماء.. سواء كانت هذه الحاجة مادية – اجتماعية، أو معنوية – معرفية.. فثمة روافد عديدة تثري هوية هذا الإنسان وتمده بكل أسباب التكيف الاجتماعي والإنساني.. وكل محاولة لبتر هذه الروافد أو تجفيفها، فإنها تزيد من مآزق الإنسان وتدخله في أتون التجاذبات والإستقطابات، التي تزيد من محنه وهمومه..
فالإنسان لا يمكن أن يستغني عن دائرة انتماءه الاجتماعي، أي إلى أسرة وعائلة بصرف النظر عن حجم هذه الأسرة والعائلة وامتداداتها الاجتماعية، كما أن هذا الانتماء الأسري – العائلي، ليس بديلا عن الانتماء الاجتماعي إلى مجتمع ومنطقة وأمه.. وهذا الانتماء بدوره ليس نقيضا إلى انتماءه الديني والثقافي والوطني.. وهكذا بقية دوائر الانتماء.. فهي دوائر متكاملة، ولا تناقض بينهما، ولا يمكن للإنسان السوي أن يعيش بدون دوائر الانتماء المتكاملة..
وبالتالي فإن هويته الإنسانية، ليست هوية بسيطة أو مستندة إلى رافد واحد من روافد الانتماء، وإنما هي هوية مركبة وغنية وتستند إلى كل روافد الانتماء..
وإن العديد من الصراعات الثقافية بين الناس، تعود في أحد جذورها إلى محاولة إلغاء بعض دوائر الانتماء أو منع تأثيرها، فيمتنع الإنسان من الخضوع لهذه الرغبة والإرادة القسرية، فتنتج مفاصلة وممانعة، قد تفضي في النتيجة النهائية إلى استخدام العنف العاري لإنجاز وتحقيق هذه الرغبة.. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك، حينما تتصادم الهويات المذهبية في الدائرة الدينية الواحدة.. فيتم التغاضي عن كل المشتركات والجوامع الواحدة، لصالح نزعات الاستئصال والاستحواذ على سلطة الرمزية الدينية..
ولا ريب أن هذه النزعة، هي التي تؤسس لمناخات الحروب والصراعات الدامية في المجتمعات المختلطة دينيا ومذهبيا وقوميا.. لأنها نزعة عنفية – قسرية، تريد أن توحد الناس بأساليب وبطريقة تزيدهم تفرقة وابتعادا عن بعضهم البعض.. ولقد أجاد المفكر (أمارتياسين) في كتابه الموسوم ب(الهوية والعنف.. وهم القدر) في تظهير هذه الحقيقة، إبراز العلاقة العميقة التي تربط بين محاولات بتر الهويات المركبة للمجموعات البشرية، ودور هذه المحاولات في تأسيس وتفجير نزعات العنف والحروب الساخنة والباردة.. ويعبر بوضوح عن هذه الحقيقة (جيمس دي. وولفينسون) الرئيس الأسبق للبنك الدولي، حينما قال: (يقدم لنا أمارتياسين، بما يتحلى به من خصائص التألق والحساسية، تبصر لفهم السلوك الإنساني.. فهو يشير إلى ضيق مفاهيم الهوية التي تضع حدودا على الأفراد، وهي التي تؤدي في الأغلب الأعم إلى الصراعات الطائفية والأشكال الأخرى من الصراع.. إن دعوته للاعتراف بتعدد الهوية الإنسانية تمثل خطوة قوية أولى نحو عالم أكثر سلاما وإنصافا)..
فحينما تتعدد الهويات، هذا لا يعني أن يتحارب ويتخاصم أهل هذه الهويات، لأن بعض ما لدى الآخر من معارف وأعراف وتقاليد هي من الذات، وبعض ما لدى الذات أيضا هو من الآخر.. فبالتالي فإننا نعيش على المستوى الواقعي في ظل هويات مركبة ومتداخلة.. وإن هذا التداخل في الهويات الإنسانية، ينبغي أن يقود إلى السلام الإنساني والتآلف بين البشر، وليس إلى ممارسة العنف والانخراط في حروب تحت يافطة صفاء الهوية الذاتية.. والعالم الإنساني اليوم، لا يسمح لأي طرف من الأطراف، أن يعيش بمعزل عن بقية البشر، وإنما هو جزء منهم، يؤثرون عليه، ويؤثر هو بدوره عليهم، ولا خيار أمامنا اليوم إلا العيش الواحد..
لأنه لم تعد المكونات الدينية أو المذهبية أو القومية، التي تعيش في ظل دولة وطنية واحدة، بمعزل عن تأثيراتهم المتبادلة، وأضحي الجميع في سياق مصير واحد وعيش اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي واحد..
بمعنى أن الواقع الإنساني على المستوى المعرفي، تجاوز مفهوم العيش المشترك، لصالح مفهوم العيش الواحد.. لأن ما يجري في كل حقل من حقول الحياة، يؤثر على الجميع، ولا يمكن لأي مكون أن يبحث عن خلاصه الخاص.. فالخلاص لا يمكن أن يتم إلا على نحو جماعي.. وتعدد دوائر الانتماء لديهم، لا يعني بأي حالة من الأحوال، أنهم يعيشون بمعزل عن بعضهم البعض..
فتعالوا جميعا من مختلف مواقعنا الدينية والمذهبية والقومية، نبني ونحمي في آن عيشنا الواحد، بالمزيد من كسر حاجز الجهل المتبادل، وتشبيك المصالح وصيانة مقتضيات الهوية المركبة..