السياسيون والمثقفون: تآخٍ أمْ صراع؟
علي حسين عبيد
2024-04-24 06:03
لكل بيتٍ عمود يرتكز عليه، وغالبا ما يوصَف الشخص المؤثر والفاعل والقوي بأنه (عمود البيت) كتعبير عن أهمية دوره و وجوده بالنسبة للبيت والعائلة، وينسحب نفس التعبير على مسميات أكبر، فهناك عمود الجماعة، أي الشخص القيادي المؤثر والفاعل في الجماعة، ويمكن وجوده على مستوى أمة بأكملها.
المجتمعات بشكل عام تحتاج إلى أعمدة ترتكز عليها في بنائها بجميع المجال، في السياسة، في الاقتصاد، والاجتماع، في الفكر، والثقافة، في الدين والقيم، هذه القضايا يحتاجها المجتمع لكي يمضي إلى الأمام في قضية البناء والتطور.
ولعل أهم ركيزتين يستند إليها المجتمع هما، الثقافة، والسياسة، أو المثقف و السياسي، هذان العمودان أو المرتكزان يؤثران بشكل كبير على طبيعة المجتمع، وهنالك معادلة معروفة علميا و واقعيا تؤكد بأنه، كلما تعاضد هذان العمودان أو المرتكزان (المثقف والسياسي)، كان البناء النموذجي للمجتمع في أعلى مستوياته ودرجاته.
بمعنى إذا تقارب المثقف والسياسي وتفاهما وانسجما وعملا معا في بوتقة سليمة تجمع بينهما، وتقلل الخلافات بينهما، وتقارب الرؤى فيما بينهما، فإن المجتمع يكون في خير، وأن الدولة تمضي في مسار البناء على الجادة الصواب، لأن المثقف يمكنه أن يؤثر إيجابيا بالسياسي، وينعكس ذلك على دور السياسي إيجابيا في اتخاذ القرارات الصحيحة.
ولكن في حال كانت العلاقة متشنجة بين المثقف والسياسي، والأفكار متناقضة بين الفكر السياسي والجوهر الثقافي، فإن البناء المجتمعي يكون مهلْهَلا ضعيفا، وغالبا ما يكون عرضة للصراعات والنزاعات، بسبب عدم وضوح الرؤية السياسية وتناقضها مع الجوهر السياسي، هذا يعني وجود اختلاف بين الطرفين.
مثقفون وزراء وسياسيون
وكثيرا ما توصف الثقافة بأنها نقيض للسياسة أو العكس، ولكن هذا التصور لا يمكن أن ينطبق على تجارب تاريخية حصلت في دول متقدمة ومتوسطة التقدم، حيث تآزر السياسيون مع المثقفين وأسسوا وطوّروا بنية إدارية سياسية ثقافية أنعشت الدولة وأفادت البنية الاجتماعية لتلك الدول التي تآزرت فيها السياسة مع الثقافة.
من المثقفين المهمين الذين تبوّأوا مناصب سياسية في حكومات متقدمة هو الأديب الفرنسي المعروف أندريه مالرو وهو فيلسوف وروائي ومفكر وناقد أدبي وناشط سياسى فرنسي. تؤرخ حياته بمعنى من المعاني لكل أحداث القرن العشرين. وهو صاحب رؤية موسوعية حيث يمتلك معارف دقيقة في الآثار وتاريخ الفنون والأنثروبوجيا. عُيِّن وزيرًا للثقافة الفرنسية على الرغم من أن أعماله تجنح نحو السريالية والسخرية والغرائبية، فشتان بين واقعية السياسة وبين سريالية الأدب والأفكار المتمردة.
ولكن مع ذلك كانت تجربة الأديب المفكر المثقف أندريه مارلو ناجحة في فرنسيا، حيث أسهمت تجربة هذا الأديب والمفكر الذي حصل على جائزة غونكور وهي أرفع جائزة فرنسية مخصصة للآداب، وهذا دليل على أن السياسة والثقافة يمكن أن يرفعا عنهما حالة التناقض، وأن يصب الأدب والثقافة في صالح السياسة وبالعكس.
ومثل هذه التجربة الفرنسية للعلاقة بين الأدب والثقافة من جهة والسياسة من جهة أخرى، نجدها في دول عديدة، مثال ذلك الشاعر السنغالي ليوبولد سيدار سنغور (و سنجور) وقد كان الشاعر الرئيس هو أول رئيس للسنغال (1960-1980) ثم تنازل بمحض إرادته عن الرئاسة مرشحاً (عبدو ضيوف) خلفاً له. وهو أديب عالمي وشاعر مشهور يعتبر الكثيرون ليوبولد سنغور أحد أهم المفكرين الأفارقة من القرن العشرين، وقد انعكست ثقافته على سياسته وطريقة إدارته للدولة في حينها.
إزاحة العوائق بين السياسة والثقافة
وهذا مثال آخر يؤكد بأن السياسة والثقافة يمكن أن يلتقيا في أكثر من مجال، ومن الممكن أن تجمع بينهما أواصر معينة، وينصهرا في بوتقة واحدة، فتكون الثقافة في هذه الحالة سندا وعونا للسياسة كأنها المرشد والمشاور المخلص لها، ويمكن في نفس الوقت أن تكون السياسة عونا للثقافة فتمنحها الكثير من الفرص التي تجعلها عونا للمجتمع وللدولة أيضا.
نحتاج في العراق أيضا أن تُزال العوائق التي تفصل بين الثقافة والسياسة، ويطمح العراقيون بأن يكون قادتهم على علاقة متواصلة مع الثقافة والمثقفين، ولا بأس أن ينفتح الساسة على المثقفين وعلى المؤسسات والمنظمات الثقافة، ولا بأس أن يتم فتح قنوات متواصلة للحوار بين الطرفين.
ومن الأهمية بمكان أن يتم العمل على تحييد المتضادات التي قد تنشأ لهذا السبب أو ذاك، لاسيما أننا على اطلاع بطبيعة العلاقات المتشنجة بين السياسيين والمثقفين أو الأدباء والشعراء في مراحل تاريخية متعددة.
السؤال الأخير، هل يمكن التقريب بين السياسي والمثقف بعيدا عن المصالح المادية الآنية، ونعني هنا التقارب من أجل الناس وبناء الدولة، وإذا كانت هناك إمكانية لمثل هذه العلاقة بين الساسة والمثقفين، فما هي الخطوات الإجرائية التي يمكن أن تصل بنا إلى علاقات فاعلة نزيهة من المآرب المسيئة، هدفها الأوحد بناء دولة رصينة ومجتمع مثقف؟
الإجابة سوف نطرحها في القسم الثاني من هذا المقال، لكننا سوف نترك المجال هنا للسياسي والمثقف كي يجيبا عن هذا السؤال، شريطة أن يكون الجواب صادقا وصريحا حتى يكون فاعلا صائبا ومفيدا.