التوحيد أساس انطلاقة الإسلام
السيد جعفر الشيرازي
2024-04-20 06:00
قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدره وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُ بِيَمِينِهِ سُبۡحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ}(1).
حينما بُعث الرسول (صلى الله عليه وآله) بدأ بالتوحيد، وكان التوحيد هو الأساس في انطلاقة الإسلام، واستمر هذا الأمر من اليوم الأوّل إلى اليوم الأخير من حياة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).
ولو تصفّحنا القرآن الكريم لوجدنا التوحيد في كل صفحة، بل بعض الأحيان في كل آية؛ وذلك لأن المعرفة الصحيحة باللّه سبحانه وتعالى هي أساس كل المعارف، والذين انحرفوا إنّما كان انحرافهم في التوحيد، فأساس مشكلة مَن لا يعرف النبي والنبوّة هو عدم معرفة اللّه، والذي لا يعرف إمامة الأئمة أو لا يعرف مقاماتهم أساس مشكلته في التوحيد، وكذلك الذي لا يعرف المعاد.
آثار عدم معرفة التوحيد
وهنا نذكر بعض الأمثلة في أثر عدم التوحيد الصحيح:
المثال الأوّل: إننا نجد بعضاً من المسلمين حينما يصلون إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) يوجد عندهم نوع من الضبابية، أو نوع من إنكار مقاماته (صلى الله عليه وآله)، فلو كانوا يعرفون اللّه سبحانه وتعالى حق معرفته لما وصل الأمر بهم إلى إنكار مقامات النبي (صلى الله عليه وآله)، وكذلك الذين قَصّروا بحق أمير المؤمنين (عليه السلام) أو غَلَو فيه.
حيث نجد مَن ينسب بعض النقائص للرسول (صلى الله عليه وآله)، ويستدل بهذه الآية: {قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَر مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ}(2)، إنّما السبب في ذلك أنه لم يعرف اللّه سبحانه وتعالى، فأخطأ في فهم هذه الآية؛ فكونه مثلاً لنا ليس بمعنى أنه ليس بنبي، أو ليس بمعصوم، أو أنه يُخطئ كما نخطئ نحن، وإنّما معنى هذه الآية أن الرسول (صلى الله عليه وآله) من الجنس البشري، فتركيبته البشرية كتركيبتنا، لأن الإنسان له أعضاء وجوارح ظاهرة وباطنة، فله روح ونفس وجسد، والرسول (صلى الله عليه وآله) كذلك، والإنسان بجسده يحتاج إلى طعام ونوم وزواج، والأنبياء كذلك قال سبحانه: {وَمَا جَعَلۡنَٰهُمۡ جَسَدا لَّا يَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَٰلِدِينَ}(3).
فالآية تريد أن تقول: إن الرسول (صلى الله عليه وآله) ليس من الملائكة، وإنّما هو من جنس البشر، وهذا لا يعني أن مقامات الرسول كمقاماتنا؛ لأن نظام الكون مبني على التفاضل في كل شيء، قال تعالى: {وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِيِّۧنَ عَلَىٰ بَعۡض}(4)، وقال: {وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِير مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلا}(5)، وكذلك الحال بالنسبة للأطعمة، قال تعالى: {وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَع مُّتَجَٰوِرَٰت وَجَنَّٰت مِّنۡ أَعۡنَٰب وَزَرۡع وَنَخِيل صِنۡوَان وَغَيۡرُ صِنۡوَان يُسۡقَىٰ بِمَآء وَٰحِد وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡض فِي ٱلۡأُكُلِۚ}(6)، وهكذا بالنسبة للناس، قال تعالى: {ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡض}(7).
والذي ينكر مقامات الرسول (صلى الله عليه وآله) في الحقيقة لا يعرف اللّه سبحانه وتعالى، فإن اللّه قادر حكيم عالم، وهو الذي اصطفى جميع الرسل واصطفى محمّداً (صلى الله عليه وآله)، فإذا كان اللّه سبحانه وتعالى كذلك فهل يصطفي رجلاً فيه خلل، ولو من جهة من الجهات؟!
كلا، بل إنّه إذا أراد أن يصطفي أحداً فلا بدّ أن لا يكون فيه خلل ونقص، فإذا كان النبي ينسى أو يسهو أو تنتابه الحالات النفسية غير المناسبة، فهذا ليس اصطفاءً صحيحاً.
إن الإنسان قد يصطفي شخصاً ثم يتبين أن فيه خللاً ونقصاً، وهذا يكشف عن جهل الإنسان أو عدم قدرته على اختيار غيره أو عدم حكمته في اختياره، وكل ذلك لا يتصوّر في اللّه سبحانه وتعالى، لأنه عالم بمَن يصطفيه حكيم في أفعاله وقادر على اصطفاء يناسبه تعالى فلا يمكن أن نتصور وقوع النقص والخلل فيمن يصطفيه اللّه سبحانه وتعالى.
إذن، فكل ما ينسب النقص للرسول (صلى الله عليه وآله)، إنّما هو ناجم عن مشكلة له في التوحيد، فمن ينسب ذلك للرسول فهو لا يعرف اللّه سبحانه وتعالى، ولا يعرف صفاته.
وهكذا الحال في الذي يغالي في الأئمة (عليهم السلام)، فهو لا يعرف اللّه سبحانه وتعالى، وأنه لا شريك له، وكذا مَن ينقص من مرتبتهم؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ}(8)، أي: إن هناك أناساً اصطفاهم اللّه سبحانه أورثهم علم الكتاب بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، والذي يصطفيه اللّه لا يكون عاصياً ولا ناقصاً.
المثال الثاني: يرتكب البعض المعاصي الكبيرة، وعندما تقول له: لماذا تفعل هذا فسوف يقول: إن اللّه كريم! وإن الرسول وآله سيشفعون لي!
صحيح، إن اللّه كريم، ولكنه أيضاً شديد الانتقام والعقاب، فلا يصح أن ينظر الإنسان لكرم اللّه سبحانه وتعالى وحده، بل لا بدّ أن ينظر إلى شدّة انتقامه، فقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ بَطۡشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}(9)، فهذا الإنسان إمّا أنه لا يعرف اللّه سبحانه وتعالى، أو يخدع نفسه، أو يريد أن يغطي على عمله.
نعم، إن اللّه سبحانه وتعالى كريم، وفي الوقت نفسه شديد العقاب، وهذا لا ينافي أن اللّه سبحانه وتعالى وَعَد بالشفاعة، حيث قال: {لَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ}(10)، أي: إنه حتى الشفعاء يخافون اللّه سبحانه وتعالى، فمن يُرغّب الناس بالمعاصي فإن معرفته باللّه ناقصة.
يقول البعض: ينبغي على الإنسان أن يصفي قلبه، ثم ليعمل ما شاء.
وهذا الكلام غير صحيح، لأنهم إنّما يذكرون ذلك للفرار من أحكام الشرع، فلو أن سائقاً خالف الإشارة المروريّة الحمراء لكن قلبه كان صافياً، فهل يترك ولا يُغرَّم؟ إن هذا الكلام غير معقول. إن بعض الناس لا يريدون الالتزام بأحكام الشرع، ولذا يأتون بهذه المعاذير.
المثال الثالث: إذا نظرنا للتكفيريين الإرهابيين نرى أنهم يزعمون أنهم موحّدون، فإذا أرادوا أن يقتلوا شخصاً اتّهموه بالشرك، مع أن الخلل موجود في أعمالهم، في إرهابهم وقتلهم للأبرياء وغير ذلك، كل ذلك حدث بسبب خلل في توحيدهم، حيث إنهم يعتقدون أن اللّه جسماً، وأنه يركب على حمار، وأنه في ليلة الجمعة ينزل إلى السماء الدنيا، وإذا كان اعتقادهم باللّه هكذا فما بالك باعتقادهم بالنبي (صلى الله عليه وآله)؟ إنهم يروون أن الرسول يقول: أنا بشر أغضب، وأيّما رجل لعنته فاللّه سبحانه وتعالى يجعل هذا اللعن زكاة له، أي: إن لعنة الرسول لشخص تصبح زكاة وثواباً له!
ثم إنهم ينسبون له عدم علمه بأبسط الأمور، مثلاً رووا في تأبير النخل: «قدم نبي اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم المدينة وهم يأبرون النخل يقولون يلقحون النخل، فقال: ما تصنعون قالوا: كنا نصنعه، قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً، فتركوه فنفضت أو فنقصت قال: فذكروا ذلك له فقال: إنّما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنّما أنا بشر»(11).
هكذا صوّروا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، مع أنه مُنزّه ممّا صوّروه.
أثر العقيدة في حياة الإنسان
إذن، فلا بدّ أن نصحح الأصل وهو المعرفة باللّه سبحانه وتعالى، وأمّا إذا كان هناك خلل بالمعرفة فسوف يحدث خلل في بقية الأمور، ولذا فالخلل في العقائد يوجب الكفر ويوجب الخلود في النار، بينما لو حصل خلل في الأعمال فلا يوجب ذلك، فلو لم يقل الإنسان: (أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمّد رسول اللّه) فليس بمسلم، بل هو كافر، لكن إذا كان مسلماً فاسقاً، بحيث كان معتقداً بهذين الأصلين وسائر الأصول لكن غير ملتزم، كأن يكون مرتكباً لبعض المعاصي، فهذا يعاقب، ولكن قد يغفر اللّه له.
نعم، ينبغي على الإنسان أن لا يغترّ فيعتمد على الغفران والشفاعة، فليعرف بأن هناك برزخاً يمضي فيه سنين طوال، فقد ورد في الحديث الشريف عن عمرو بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): «إني سمعتك وأنت تقول: كل شيعتنا في الجنة على ما كان فيهم؟ قال: صدقتك كلهم واللّه في الجنة، قال: قلت: جعلت فداك إن الذنوب كثيرة كبار؟ فقال: أمّا في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع أو وصي النبي، ولكني واللّه أتخوف عليكم في البرزخ. قلت: وما البرزخ؟ قال: القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة»(12). ففي القبر يكون الإنسان وأعماله.
ثم إن الإنسان قد لا يحصل على الشفاعة مباشرة، فقد تدركه الشفاعة بعد أن يمضي في النار أحقاباً، فقد روي عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقاباً، والحقب بضع وستون سنة، والسنة ثلاث مائة وستون يوماً، كل يوم كألف سنة مما تعدون، فلا يتكلن أحد على أن يخرج من النار»(13). وقال (صلى الله عليه وآله): «يخرج من النار قوم بعدما امتحشوا(14) وصاروا فحماً وحمماً، فينبتون كما ينبت الحبة في حميل السيل»(15).
والحاصل: إنه إذا كانت عقيدة الإنسان صحيحة وكان في عمله خلل فقد يسبّب ذلك الخلل انخفاض درجاته، وقد يعاقب على ذلك، ولكن بعد أن يصفّى تصفية كامِلة يدخل الجنة، وأمّا من كانت عقيدته باطلة، فلا ينفعه عمله، ولا يدخل الجنة، بل يخلّد في نار جهنم، قال تعالى: {وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ}(16) فما هو السبب؟
إن السبب في ذلك هو أن العقيدة هي الأصل لكل شيء في حياة الإنسان، فمن يعمل الصالحات فلأنه يعتقد بوجود الثواب، والجنة والنار، والذي لا يعملها لا يعتقد بذلك.
إننا نجد في كثير من الأحيان أن هناك أخوين أو قريبين أحدهما مؤمن والآخر غير مؤمن فما هو السبب، مع أن البيئة التي تربّيا فيها بيئة واحدة؟ إن السبب هو أن الأوّل يفكر بطريقة صحيحة، والثاني يفكر بطريقة غير صحيحة، ولذا أصبح الأوّل مؤمناً والثاني كافراً، فطريقة التفكير هي التي تتحكم في حياة الإنسان؛ لذا فالاعتقاد أصبح هو الأساس، والعمل على رغم أهميته إلّا أنه هو الفرع؛ ولذا توجد لدينا أصول الدين وفروعه.
ارتباط الأصول والفروع
نعم، هناك ارتباط بين الأصول والفروع، فالخلل في الفروع قد يؤدّي إلى الخلل في الأصول، فينبغي على الإنسان أن لا يتهاون بالفروع أيضاً، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ}(17). كذلك الخلل في الأصول يؤدّي إلى الخلل في الفروع.
الكفار الذين خدموا البشرية
يتساءل البعض فيقول: هناك كفّار خدموا البشرية فهل يكونون في النار، بينما نجد مؤمناً مستضعفاً لم يخدم حتى جاره يكون في الجنة فلماذا؟
والجواب: إن اللّه سبحانه وتعالى يُعبد من حيث يُريد لا من حيث نريد نحن، فإبليس (لعنة اللّه عليه) أبى السجود لآدم (عليه السلام)، وقد جاء في بعض الروايات: عن الصادق (عليه السلام) قال: «أمر إبليس بالسجود لآدم فقال: يا رب، وعزّتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها. قال اللّه جل جلاله: إني أحب أن أطاع من حيث أريد»(18). فاللّه سبحانه وتعالى يريد أن يعبد عن طريق الإسلام، وعن طريق الاعتقاد بالرسول (صلى الله عليه وآله) وبالأئمة (عليهم السلام)، فإذا اختار إنسان طريقة أخرى فاللّه تعالى لا يريدها حتى إذا تصوّر الإنسان أنها أفضل، وحتى لو اتفقت البشرية كلها عليها، وبما أن اللّه لا يريدها فلا يستحق عليها أجراً.
ثواب المؤمنين فضل
بل الحال كذلك بالنسبة إلى المؤمنين، فالمؤمن لا يستحق أجراً وثواباً على اللّه سبحانه وتعالى إلّا بتفضّل من اللّه تعالى ووعده بذلك حيث إن اللّه تعالى خلق الجميع بفضله ومنّه ولطفه، وغمرهم بالنعم، قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ}(19)، فلو أن الإنسان عَبَدَ اللّه حياته كلها لم يتمكن أن يوفّي نعمة واحدة من نعم اللّه سبحانه وتعالى.
جاء في دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة: «لو حاولتُ واجتهدت مدى الأعمار والأحقاب لو عمرتها أن أؤدي بعض شكر واحدة من أنعمك، فما استطعت ذلك إلّا بمنك الموجب به عليّ شكراً آنفاً جديداً...»(20).
وخلاصة القول: إن الإنسان لا يستحق بأعماله على اللّه تعالى شيئاً وثواباً، وإنّما تفضل اللّه سبحانه وتعالى على عبده فوهبه الثواب، فقد خلقنا اللّه سبحانه وتعالى وغمرنا بالنعم، ونحن لا نستحق عليه شيئاً.
نعم إن اللّه سبحانه وتعالى وعد المؤمنين بالجنة، وعدم الوفاء بالوعد قبيح، واللّه سبحانه منزّه عن كل قبيح، لكن هذا الوعد تفضّل من اللّه أن جعله حقاً على نفسه.
صحيح أن الإنسان إذا وعد بشيء فقد أصبح هذا حقاً في ذمّته، ويلزمه الوفاء به عقلاً، لكن هل كان من اللازم أن يَعِد بهذا الشيء؟ كلا، بل هذا تفضل.
إذن، فاللّه سبحانه وتعالى جعل حقاً على نفسه، وهذا تفضل منه، وقد ورد في الدعاء: «وأسألك بحقك عليهم، وبحقهم عليك»(21). أي: حق الأئمة (عليهم السلام) عليك، الذي هو من أعظم حقوق اللّه عليهم.
والحاصل: إن الثواب للطاعة، وليس لخدمة البشرية، وليس على العمل الصالح المجرّد عن نية الإخلاص؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى غير محتاج إلى عملنا، وإنّما وعدنا بالثواب إذا عملنا العمل بالكيفية التي أرادها وبنية خالصة، فلو أن شخصاً عمل عملاً لا بتلك الكيفية ولا بنية الإخلاص فلا يستحق شيئاً على اللّه سبحانه وتعالى، ومن استحق الثواب فهو من فضل اللّه سبحانه وتعالى.
فالمؤمن يدخل الجنة لأنه عمل بالطريقة التي أرادها اللّه، وذاك الكافر بالرغم من أنه خدم البشرية إلّا أنه لم يعمل بالطريقة التي أرادها اللّه فلا يستحق ثواباً، وكل هذا يرجع إلى الأصل، وهو معرفة اللّه سبحانه وتعالى.
لو قرأنا الأدعية ـ مثلاً دعاء كميل ودعاء أبي حمزة الثمالي وغيرهما ـ نجد أن محورها هو إيجاد المعرفة باللّه سبحانه وتعالى، فإذا عرف الإنسان ربه فسوف يعبده كما يريد اللّه تعالى، وكلما ازدادت المعرفة ازداد ثواباً.
تفاوت درجات ثواب العمل الواحد
وإذا لاحظنا الروايات نجد في بعضها: أن زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) تعادل عمرة(22)، وفي رواية أخرى: تعادل حجة(23)، وفي رواية: تعادل حجّة وعمرة(24)، وفي رواية: تعادل عشرة حجج(25)، وفي رواية: تعادل مائة حجّة(26)، وفي رواية: ألف حجّة(27)، وفي رواية: «مَن زار الحسين محتسباً لا أشراً ولا بطراً، ولا رياءً ولا سمعةً، محصت عنه ذنوبه كما يمحص الثوب في الماء، فلا يبقى عليه دنس، ويكتب له بكل خطوة حجة، وكلما رفع قدماً عمرة»(28).
فهؤلاء الذين يأتون إلى كربلاء يسيرون مشياً على الأقدام، يحصلون على ثواب متفاوت، فلماذا هذا التفاوت؟
إن هذا التفاوت حسب المعرفة، فمن كانت معرفته في أدنى درجة يحصل أقل مرتبة من الثواب، وهي عمرة، ومن كانت معرفته أكثر يزداد ثوابه ويزداد وهكذا، وكذلك هناك شروط أخرى غير المعرفة وهي: الإخلاص والعلم؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ}(29). وهناك أمور أخرى، إلّا أن الأهم من ذلك هو المعرفة ثم الإخلاص ثم العلم.
وبناءً على ذلك لا بدّ أن يقرأ الإنسان القرآن والأدعية بتمعّن ويتفكر، قال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلا}(30)، فقد ورد في رواية: «كان أكثر عبادة أبي ذر التفكر والاعتبار»(31)، مع أن أبا ذر كان يصلّي ويصوم ويجاهد، حتى مات من الجوع في الربذة(32)، لكن أكثر عبادته كان التفكر، لأن التفكر يزيد الإنسان علماً ومعرفة.
طبعاً، يجب أن يكون التفكر من الطريق الصحيح، حيث يجب على الإنسان أن يستقي معارفه من الرسول وآله (عليهم السلام)، وإلّا فسوف ينحرف.