هدم البقيع جريمة لا تنسى
(يوم البقيع العالمي)
علي ال غراش
2024-04-18 05:02
قبل يوم 8/شوال/ 1344 كانت روضة البقيع في مدينة نبينا المصطفى (المدينة المنورة) (صلى الله عليه وآله وسلم) تعج بالزوار المؤمنين والحيوية طوال أيام السنة؛ للترحم والتشرف والتبرك والتزود..، إنها جنة تعج بالملائكة وببركة رسول الله محمد (ص) الذي كان يزور البقيع كل عشية يوم خميس مع ملأ من الناس من أصحابه. كما روي عن الإمام الصادق (ع) انه قال: "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخرج في ملأ من الناس من أصحابه كل عشية خميس إلى بقيع المدنيين فيقول: السلام عليكم يا أهل الديار ثلاثا رحمكم الله ثلاثا الحديث".
وهناك روايات كثيرة حول عظمة جنة البقيع، فهي روضة تشرفت بخطوات ولمسات النبي (ص) وبنوره وأنوار أحفاده (ص) حيث يوجد فيها مراقد واضرحة وقباب عدد من الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، روضة البقيع مليئة كذلك بالمقامات الشريفة والمراقد والأضرحة لأهل البيت ولآلاف من الصحابة والتابعين والأولياء والعلماء الذين لهم مكانة مرموقة طوال التاريخ الإسلامي، فهي مواقع تحظى بالاحترام والتقدير عند كافة المسلمين، والعناية والاهتمام من قبل كافة الحكومات التي سيطرت على الحجاز طوال التاريخ الإسلامي، ولم يتجرأ أحد عليها بالاعتداء عليها، مهما كان وفكره...
ولكن في يوم 8 /شوال/ 1344 الموافق 21 /4/ 1925 حدث الاعتداء الإجرامي الوحشي الصادم حيث تم هدم كافة المقامات والمراقد الشريفة التاريخية والتي لها مكانة كبيرة عند المسلمين وتسوية القبور بالأرض وتحولت جنة البقيع إلى أرض جرداء يمنع فيها وضع أي علامة تشير إلى المكانة المرموقة لأصحاب القبور ومنها القباب كما هي موجودة فوق قبر النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي هي موجودة فوق قبور الأنبياء والأولياء في كافة العالم وتحظى باهتمام وتقدير.
جريمة الاعتداء على البقيع
الثامن (8) من شهر شوال ذكرى ليوم أسود في تاريخ البشرية وليس فقط التاريخ الإسلامي وحتما كان للعدوان الشنيع وهدم وتدمير البقيع ردود أفعال قوية في العالم الإسلامي وغيره في ذلك الوقت أثناء عملية الهدم وبعدها، فقد صدم العالم من خبر الاعتداء الغاشم من قبل المعتدين، إلى درجة أن جريدة الكون كتبت في أحد الأعداد: آل سعود يدمرون أضرحة الصحابة "وعبدالعزيز يتظاهر بالإعتذار ويتهم رجاله"!.
ونتيجة لذلك الغضب الإسلامي في تلك الفترة؛ قام العاهل السعودي الملك عبدالعزيز بالإعتذار عبر إتهام رجاله بالإعتداء والتدمير للأضرحة والآثار الإسلامية، لامتصاص الغضب وإبعاد نفسه عن الجريمة الوحشية الفادحة.
ولكن الحقيقة الواضحة ان الملك عبدالعزيز رغم اعتذاره، إلا انه يملك كامل السلطات على رجاله الذين دمروا البقيع فهو عندهم بمقام الإمام ولي الأمر، وبالتالي لا يمكن لأحد منهم أن يقوم بأي عمل دون موافقته، ولكنه لم يمنعهم ولم يقم بإعادة إعمار البقيع كما كان قبل تدميره من قبل أتباعه؛ لتصحيح الوضع الإجرامي كرد اعتبار وأفضل طريقة للاعتذار بشكل عملي، بل في عهده وعهد أبنائه كانوا يتفاخرون بجريمة الاعتداء الإجرامي والهدم والتدمير لموقع محترم لعامة المسلمين، والتبرير لتلك الجريمة الغريبة والمرفوضة من كل المدارس والمذاهب والحكومات الإسلامية التي مرت على التاريخ الإسلامي، ولكن ابن سعود طبق فكر المدرسة التي ينتمي لها (الوهابية) ذات التوجه المتزمت التكفيري الذي يخالف رأي عامة المسلمين في احترام الأضرحة.
"ومهما قال الملك عبدالعزيز فهو المسؤول الأول عن تلك الجريمة حيث أنه لم يقم بإعادة بناء ما دمر، والملك المؤسس والحكومة السعودية وجميع الملوك من بعده، لم يظهر منهم ما يدل على رفضهم لما حدث أو محاسبة من قام بالفعل الشنيع أو القيام بأعمار ما تم الإعتداء عليه بأفضل مما كان، بل على العكس تماما مسلسل الهدم من قبل العائلة الحاكمة مازال مستمراً متواصلا لغاية اليوم، كما حدث مؤخراً في التوسعة الأخيرة للحرم المكي، حيث تم تدمير مواقع تراثية وتاريخية وانشاء مباني حديثة ناطحات سحاب حول بيت الله الحرام لدرجة ان الكعبة المشرفة التي كانت أضخم مبنى أمام من يقف أمامها يشاهد مباني عالية جدا خلفها وهي مجرد (..)".
العهد السعودي الحديث يقوم بحملات إعلامية وترويجية وسياحية وثقافية ورياضية والاعتناء ببعض الآثار والتراث التاريخية في نجد وشمال وبقية مناطق المملكة والبحث عن تواجد لدى المؤسسات الدولية التي تعنى بالآثار والتراث مثل اليونسكو، لماذا لا يبادر باعادة المكانة التي كان عليها البقيع قبل الاعتداء عليه وتدميره في يوم 8 / شوال/ 1344 الموافق 21 /4/ 1925؟.
هل الآثار والتراث الإسلامي الذي كان موجودا أكثر من ألف عام من بعد ظهور الإسلام واستمر لغاية دخول القوات النجدية والسيطرة على الحجاز والأماكن المقدسة فيه، لا يليق بالدولة الحديثة المملكة السعودية ويمثل عاراً ليتم محاربته وتدميره والقضاء عليه خلال عقود فقط من بعد سيطرتها على الحجاز؟.
مكانة البقيع عند النبي المصطفى (ص)
البقيع له مكانة كبيرة جدا في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعند أهل بيته (ع) وأصحابه وعند عامة المسلمين، فهناك الكثير من الروايات والأحاديث وفي سيرة النبي المصطفى (ص)، تؤكد على مكانة البقيع. روي "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يزور البقيع دائما لكي يعرف المسلمون عظمة هذه البقعة واحترامها، وإنه ص لم يترك زيارة البقيع حتى في مرضه الأخير الذي توفي به، حيث ورد في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لما أحس بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب واتبعه جماعة من الناس وتوجه إلى البقيع فقال للذي اتبعه: «إنني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع» فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم وقال: «السلام عيكم أهل القبور ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها» ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً" وفي البقيع شخصيات عزيزة على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دفنت هناك قبل شهادته(ص)، فهناك عدد من الشهداء والموتى في صدر الإسلام دفنوا في البقيع، وأول من دُفن في البقيع من المهاجرين عثمان بن مظعون.
ونقل عن شيخ من بني مخزوم يدعى عمر قال: "كان عثمان بن مظعون أول من مات من المهاجرين، فقالوا: يا رسول الله أين ندفنه؟ قال: بالبقيع، قال: فلحد له رسول الله صلى الله عليه وآله، وفضل حجر من حجارة لحده فحمله رسول الله صلى الله عليه وآله فوضعه عند رجليه".
وأول من مات من الانصار هو أسعد بن زرارة، و دفن من اهل البيت عليهم السلام ابنه (ص) ابراهيم ابن النبي محمد (ص)، وعدد من أعمامه وعماته وبعض زوجاته وأصحابه الذين ماتوا او استشهدوا في حياته (ص)، وكما دفن في البقيع فاطمة بنت أسد أم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام. عن أنس بن مالك قال: "لما ماتت فاطمة بنت أسد، دخل عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجلس عند رأسها فقال: رحمك الله يا أمي بعد أمي. وذكر ثناءه عليها وتكفينها ببرده، إلى ان قال: فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاضطجع فيه ثم قال: الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، إغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي؛ فإنك أرحم الراحمين".
وبعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خالقه، تم دفن زوجاته في البقيع والكثير من الصحابة الأخيار، وازداد البقيع عظمة وقدسية لوجود قبور عدد من الائمة الأطهار عليهم السلام أحقاد رسول الله (صلى الله عليه وآله): الإمام الحسن المجتبى حفيد وريحانة رسول الله (ص) ابن أمير المؤمنين، الإمام علي بن الحسين زين العابدين، والإمام محمد بن علي الباقر، والإمام جعفر الصادق (عليهم السلام).
وقد استمر الصحابة ومن بعدهم عامة المسلمين بالسير على منهج النبي (ص) بزيارة الموتى في البقيع التي تجعل المسلم المحب لله ولرسوله (ص) أن يفتخر ويتشرف بالعناية والاهتمام بالبقيع وما فيه من أجساد وأضرحة وقباب..، والمطالبة من قبل كل مسلم ومن الدول الاسلامية بل والعالمية …، بإعادة بناء البقيع بأفضل مما كان عليه قبل الاعتداء عليه وهدمه وتدميره..، والاعتناء بكل ما يتعلق بسيرة الرسول الاعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته والصحابة والتاريخ الإسلامي العظيم، الموجود في إقليم الحجاز التاريخي، الذي له مكانة خاصة في قلوب المسلمين من كافة أقطار العالم، الذين يأتون الى الحجاز ويزورن بيت الله الحرام والسير على خطى المصطفى (ص) منذ ولادته وطفولته وشبابه وبعثته وهجرته (ص) في مكة المكرمة وفي الطائف وفي طريق الهجرة إلى المدينة المنورة وزيارته في مسجده المسجد النبوي والتبرك بالسير على خطاه في المدينة المنورة ومنها البقيع الغرقد وكل موقع له أو لأهل بيته (عليهم السلام) أو لصحابته ذكرى لا تنسى للشعور بالارتواء من الروحانية الإسلامية والإيمان الحقيقي والرسالة المحمدية، والتحلي بالأخلاق المحمدية الأصيلة والسير على منهجه وسيرته العظيمة الحقيقية والصحيحة، والحصول على الوعي ومعرفة ما تتعرض الرسالة الاسلامية المحمدية الصحيحة للتشويه من قبل حكومات تدعي الإسلام بينما أفعالها وأعمالها تتنافى مع الرسالة الإسلامية ومع منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
المسلمون ومسؤولية البقيع
تقع على المسلمين مسؤولية كبيرة إتجاه الدين الإسلامي واتجاه حبيبهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته وصحابته، والتمسك بمنهجه الحقيقي وتراثه وآثاره وما يحبه، ونصرة الإسلام الصحيح الذي بلغه رسول الله (ص)، ونصرة فكره ومنهجه، ورفض كل ما يتنافى مع أوامره وما يحبه منها رفض ما تعرض له البقيع من اعتداء محزن. مسؤولية إعادة بناء روضة البقيع والقباب السامية أفضل مما كانت عليه سابقا قبل هدمها وتدميرها في يوم 8 / شوال/ 1344 الموافق 21 /4/ 1925، يوم الاعتداء الذي لا ينسى لجريمة لا تنسى.
السلام عليك يا حبيب الله يا رحمة العالمين يا رسول الله، صلى الله عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين وعلى أصحابك المنتجبين، ومن تمسك وسار على منهجك إلى يوم الدين.