افاق الوضع السياسي في العراق بعد الانتخابات المحلية
د. احمد عدنان الميالي
2024-03-27 06:29
لم يكن اجراء انتخابات مجالس المحافظات الاخيرة في العراق ولا نتائجها عابرة، بل فرضت وقائع وافاق سياسية جديدة، بدأت قبيل اجراءها بعد الاطاحة برئيس مجلس النواب السابق من قبل المحكمة الاتحادية، مرورا بطبيعة التحالفات السياسية وعدم مشاركة رئيس الوزراء بهذه الانتخابات، ثم خسارة الاطار التنسيقي الانتخابات في ثلاث محافظات مهمة (البصرة، كربلاء، واسط)، لصالح قوى محلية تمثلت باحزاب المحافظين، في حين كان الاطار يظهر ثقة مبالغ فيها بالفوز والسيطرة على هذه المحافظات، فضلا عن ازمة انتخاب محافظ ديالى المستمرة لغاية الان، وحصول حزب تقدم على مقاعد مهمة في بغداد والانبار ومحافظات اخرى رغم عزل الحلبوسي من منصبه، مما غير من موقف قوى الاطار منه سياسياً.
هذه المعطيات ستنعكس على الانتخابات البرلمانية القادمة بشكل واضح، اذ ستشجع احزاب المحافظين المشاركة في الانتخابات البرلمانية بشكل واسع، ويستثمر محافظوها جماهيرهم للحصول على مقاعد تحسم من حصة الاطار التنسيقي، فضلاً عن تشجيع محافظين آخرين في محافظات اخرى على الانشقاق وتشكيل احزاب سياسية خاصة بهم، تقوم على تأييد قواعدهم الشعبية المتأتية من الأداء الايجابي في مناصبهم.
كما ان هذا التراجع لقوى الاطار وعدم ارتياح بعض قياداته من الاداء الانجازي للحكومة، سيعزز من خيار مشاركة محمد شياع السوداني في الانتخابات البرلمانية القادمة، ومن المتوقع تشكيل تحالف انتخابي واسع عابر للطوائف يشمل بعض قوى حركة تشرين الاحتجاجية، وأحزاب المحافظين الثلاثة، وقوى مستقلة، وهناك احتمالات أن يدخل هذا التحالف مع التيار الصدري في حال عودته، او على الاقل يدعم انتخابيا من جمهور التيار الصدري كخطوة مباشرة لتحجيم قوى الاطار التنسيقي. هذا التحالف الموازي ان تشكل سيحقق حضور برلماني واسع، ما يعمل على إعادة تشكيل المشهد السياسي العراقي باتجاهات معززة للنزعة الاصلاحية، كما انه سيفتح افاق ومعادلات سياسية جديدة.
ان الواقع السياسي الجديد الذي افرزته نتائج الانتخابات المحلية جاءت مضادة لمصالح الإطار التنسيقي، فقد برزت امامه قوى سياسية منافسة غير التيار الصدري المنافس التقليدي للاطار، هذه القوى شكلت له عقبة في الانتخابات المحلية وستشكل عقبة اكبر في الانتخابات العامة. قد يكون من الصحيح القول ان قوى الاطار حققت نتائج جيدة في الانتخابات المحلية لكنها كانت في المحافظات التي لم تشهد اي اعمار او خدمات، في حين هزم في المحافظات الناجحة في هذين الملفين.
خسارة الاطار التنسيقي لا تتمثل في الوقائع التي ذكرناها، بل تنبع من ان وصوله لما هو عليه، لم يكن نتيجة فوزه بالانتخابات المبكرة السابقة وتشكيله الحكومة كما اراد، ولا بسبب انجازاته واداءه، انما بسبب انسحاب التيار الصدري من البرلمان، وامتلاكه فصائل مسلحة، فضلا عن قرارات المحكمة الاتحادية التي دائما ما تأتي لصالحه.
هذه الوقائع ترتبط ببروز السوداني الذي يشكل تحدي كبير لقوى الاطار الذي بدأ يضجر من صعود شعبيته، فالسوداني يبدو انه مصمم بشكل كبير على تقديم الخدمات والإعمار وتحسين البنى التحتية، من خلال تنفيذ برنامجه الحكومي منذ الايام الاولى لحكومته، وأخذت حكومته تضع بصمات في العاصمة بغداد على الأخص ومحافظات أخرى. ويُتوقع أن تصبح حملة الاعمار وتقديم الخدمات جزء مهم لنجاحه في الانتخابات البرلمانية القادمة، مع تصاعد استعداء قوى الاطار التنسيقي اذا ذهب بهذا الاتجاه.
لكن تبقى المساعي التقويضية للاطار التنسيقي ماثلة امام السوداني، فهو لا يزال خاضعاً لقواه ويواجه تحديات كثيرة بسبب اعتماده الاضطراري على الدعم الاطاري في تنفيذ برنامجه الحكومي وخاصة عصائب اهل الحق بالدرجة الاساس، ولهذا يضطر السوداني ان يكون متوازناً ولا يظهر خلافاته معهم ولا يرفض مصالحهم، ويستوعب تحركاتهم وطلباتهم مقابل حماية حكومته برلمانيا ازاء الخصوم السياسيين.
ومن هنا فإن السوداني لا يزال بحاجة إلى الاطار التنسيقي لحين اعلان قراره بخوض الانتخابات القادمة وتحقيق مقاعد برلمانية مؤثرة يرتكز عليها في تنفيذ سياساته الاصلاحية، التي تحتاج الى تمثيل برلماني قوي يستند إليه، ولغاية الان لا يستطيع السوداني القيام بالإصلاحات اللازمة التي يحتاجها المواطن، واهمها مكافحة الفساد، وحصر السلاح بيد الدولة وإخضاع مراكز القوى والنفوذ المتصارعة للقانون على نحو حقيقي وفعال، مع خضوعه لقوى الاطار من جهة، وعدم امتلاكه مقاعد برلمانية كافية من جهة اخرى، ولهذه الاسباب فهو لا يريد ان يكرر خطأ مصطفى الكاظمي، الذي اجبر على عدم المشاركة في الانتخابات المبكرة على امل التجديد له، ولكن لم يحصل ذلك وتم اقصاءه وشيطنته وتعليق كل الاخفاقات والفشل على عاتقه، وتمت ملاحقة اعضاء مكتبه ومستشاريه قضائيا.
ولهذا يتصاعد قلق الإطار التنسيقي من تشكيل السوداني تحالف انتخابي يمنحه قوة سياسية، ويُبعده عن هيمنتهم، ولهذا سيضغطون باتجاه عدم مشاركته في الانتخابات البرلمانية المقبلة مقابل تأييده لولاية ثانية غير مؤكدة، منعاً لمنافسته لهم في الحصول على المقاعد البرلمانية التي يريدونها، لكن يبدو أن الاتفاقات الشفوية ليست كافية، وهم ادركوا ان السوداني لن يقبل بذلك وسيتجه نحو الانتخابات في الغالب، ولهذا توجهت بعض أطراف الإطار التنسيقي إلى طرح تعديل قانون الانتخابات، ليتضمن اشتراط تقديم استقالة اي مسؤول في الدولة بدرجة مدير عام صعوداً قبل خوض الانتخابات بستة اشهر، وإذا أُدخل هذا التعديل على قانون الانتخابات، والاطار التنسيقي قادر على ذلك حاليا، كونه الكتلة الاكبر في البرلمان، فسيعني هذا حرمان السوداني والمحافظين الثلاثة ومن يلتحق بهم من أهم أدوات الفوز الانتخابي في العراق، المتمثل بتوظيف موارد الدولة واعلامها لأغراض انتخابية، وهنا سيتضرر السوداني والمحافظين دون ان يمس هذا الضرر قادة الاطار الكبار، كونهم لا يشغلون مناصب رسمية في الدولة والحكومة.
وقد يراهن السوداني على عدم مضي الاطار بهذا التعديل، لانه سيلحق الضرر بالأطراف الاخرى السنية والكردية التي سترفضه برلمانياً وسياسياً، فضلا عن ان اجماع الاطار على هذا التعديل غير حاصل، والمالكي وحده حاليا يطرح هذا الاجراء، ولا يبدو الاطار متماسكاً او موحداً بهذا الخصوص، اضافة الى قضايا خلافية كثيرة غير بارزة، ومن دون هذا الاجماع لن يستطيع الاطار المضي بتعديل قانون الانتخابات، وبسبب وجود ثغرات داخل الاطار التنسيقي سيكون للسوداني مساحة معقولة للمناورة وتجاوز معارضة الإطار التنسيقي لترشحه في الانتخابات البرلمانية على رأس تحالف انتخابي يقوده بنفسه.
ويمكن القول، ان استعادة ثقة الجمهور بالسياسة والانتخابات ممكن ان تسترجع من خلال تقديم الخدمات والبنى التحتية مع وجود انجازات حقيقية، وهذا مايريد ان يعمل عليه السوداني، لكن لا زالت قوى الاطار التنسيقي تمتلك مهارات تقويض هذا الطموح لغاية الان، وحتى لو تحقق سيناريو دخول السوداني في الانتخابات وقاد تحالف سياسي نيابي كبير فانه لن يكون قادراً على كسر النمط التقليدي في السياق السياسي العراقي المبني على المحاصصة والتوافق اللذين تسببا بالكثير من الفشل للدولة في أدائها واستكمال بناءها بالشكل الصحيح، والكثير من المعاناة للعراق والعراقيين بفعل عجز الدولة عن تأدية التزاماتها وواجباتها نحوه، وعليه ان يعود لهذه الادوات في تشكيل حكومته.
وبالتالي فإن آفاق الوضع السياسي في العراق بعد آخر انتخابات محلية اجريت ومع المعطيات والمتغيرات المتوقعة والوقائع الحالية التي ذكرناها، فأن الدوران والعودة لتأسيسات العملية السياسية التقليدية التي ترتكز على التوافق والمحاصصة، او الانسداد السياسي، او استحضار حادثة الخضراء التي حدثت قبل سنتين، وشهدت اقتتال اشبه بالحرب الاهلية، ستكون هي الحاضرة في الغالب.