أوهام المواطنة في العالم العربي
عندما تكون المواطنة استلابا واغترابا؟!
د. علي أسعد وطفة
2024-03-19 06:14
كتب الأديب محمد الماغوط يقول: "عندما كنت أتمشى في حلب كنت أسمع بائع الجرائد يصيح: (الوطن بخمس ليرات، الثورة بثلاث ليرات، العروبة بليرتين) كنت أظنه يقصد ثمن الجريدة"
1-مقدمة:
إذا كانت المواطنة تعبيرا عن العلاقة الإنسانية بين الإنسان والإنسان من جهة، وبين الإنسان والوطن من جهة أخرى، فإن هذه العلاقة، بما تنطوي عليه من مضامين وقيم وأبعاد، تشكل أكثر العلاقات الإنسانية سموا بالإنسان وارتقاء بإنسانية. فالمواطنة في صورتها الحقيقية حالة من الازدهار الإنساني التي تولدّ في الإنسان حالة إنسانية تعبر عن أكثر مضامين وجوده الإنساني سموا ونبلا. وعندما يفقد الإنسان نبل هذه العلاقة بالوطن والإنسان فإنه يفقد أكثر عناصر وجوده أهمية وحيوية. ولا ضير في القول بأن توتر هذه العلاقة يدفع الإنسان إلى دوائر الاغتراب والاستلاب بكل ما تنطوي عليه هذه الدوائر من بؤس الوجود الإنساني وإكراهات الحياة، وذلك لأن الإنسان يكتسب جوهره الإنساني عبر تواصله الحرّ مع الوطن وبما يضفيه هذا التواصل من مشاعر إنسانية متدفقة المعاني والدلالات.
فالحرية جوهر المواطنة وعمقها، وذلك لأن المواطنة ترمز إلى الإنسان الحر القادر على المبادرة الإنسانية الحرة بحكم انتمائه إلى الأرض والمجتمع. والمواطنة تعني الإنسان الحر الذي يمتلك حقوقا وواجبات مؤسسة على مفهوم المشاركة الديمقراطية الحرة في مجتمع محدد وملموس، وهذا يعني بالمقابل أن الإنسان الذي لا يتحلى بصفة المواطنة في مجتمع معين هو كائن مستلب مغترب فاقد لجوهره الإنساني.
والسؤال المركزي الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو هل هناك مواطنة في مجتمعات شمولية قائمة على التسلط والإكراه؟ وأين هو مكان الإنسان العربي في جغرافية المواطنة والانتماء إلى الوطن؟ هل هناك مواطنون أحرار وفقا لدلالة مفهوم المواطنة وأبعاده الإنسانية؟ أم أن الإنسان العربي ما زال بعيدا عن شرف اكتساب المواطنة في عالم حر؟ وبعبارة أخرى هل نحن أقنان أم أحرار في مجتمعات يسودها صلف القهر وجنون الاستبداد؟
2- أزمة المواطنة:
ويقينا أننا عندما نأخذ بالدلالة الحرة لمفهوم المواطنة فإننا سنجد غيابا مذهلا للوجود الإنساني في مختلف أصقاع عالمنا العربي حيث نجد ركاما بشريا فقد إنسانيته وكرامته وإحساسه بالمواطنة الحرة والوطن. فالإنسان العربي في دائرة التسلط والقهر فقد صلته الإنسانية بالأرض والوطن ويفتقد اليوم إلى أبسط معاني الوجود والكرامة في علاقته بالسلطة والأنظمة السياسية القائمة التي لا تستطيع أن ترى في مواطنيها إذا جاز التعبير أكثر من أقنان وعبيد ورقيق ورعاع وسوقة وعامة.
ومن أجل التعبير عن أزمة المواطنة في العالم العربي، وعن الحالة الاغترابية التي يعيشها الإنسان العربي، يمكننا أن نلجأ إلى المقارنة بين مشاهد التكريم التي يحظى بها المواطن الغربي في وطنه وبين مشاهد التعذيب والقهر التي يعانيها الإنسان العربي في وطنه ودياره. لنستعرض صورة واقعية ما زالت حيّة في الذاكرة تتمثل في مشهد استقبال الصحفية الفرنسية الُمحررة في العراق "فلورانس أوبنا" في طريق عودتها إلى الوطن، حيث استُقبلت في مطار باريس باحتفال وطني مهيب منتظر. ولم يكن غريبا على فرنسا الحرة أن يكون رئيس الجمهورية الفرنسية نفسه في طليعة المستقبلين احتفاءً بعودة الصحفية المظفرة. لقد استنفرت فرنسا، شعباً وحكومةً، كل طاقاتها السياسية والدبلوماسية، على مدى أشهر عديدة، من أجل تحرير فرنسية كانت تعمل مراسلة صحفية مغمورة في العراق، ولم يهدأ للحكومة الفرنسية جفن، وللشعب الفرنسي بال، حتى تمّ تحرير الصحفية المنكوبة وإعادتها إلى الوطن محاطة بكل مظاهر الرعاية والتكريم.
وقد يتساءل القارئ لماذا نسرد هذه الواقعة؟ ولما نستعرض عودة الصحفية المظفرة إلى فرنسا بعد غياب طويل؟ لأننا ببساطة نريد عبر هذه الصورة، للعلاقة الحيّة بين الدولة والمواطن، أن نعرّف بمفهوم المواطنة كما يتجلى في الوعي وفي الممارسة في البلدان الديمقراطية، وتحديد الكيفية التي يُعامل فيها المواطن في الغرب الأوروبي الديمقراطي. لأن الموقف السياسي والجماهيري من الصحفية الفرنسية المحررة في العراق يقدم أوضح تعبير عن معنى المواطنة وماهيتها في البلدان الديمقراطية. فكرامة المواطن في هذه البلدان ترمز إلى كرامة الوطن وتعنيها، وذلكم هو مفهوم المواطنة في مجتمعات حرّة.
عندما كنا نشاهد طقوس العودة المظفرة للمواطنة الفرنسية محاطة بكل مظاهر الحفاوة والتكريم من قبل الشعب والحكومة الفرنسية (وكانت هناك حالات مماثلة أخرى سابقة في إيطاليا، وبريطانيا، واستراليا، وأمريكا) عشنا معضلة الصراع الوجداني لحالة نفسية متناقضة ومـتأزمة في الآن الواحد، وتتمثل هذه المعضلة الوجدانية في انشطار وجداني بين شعورين متناقضين: يتمثل أحدهما بحالة من الفرح والسعادة بينما يتمثل الآخر بحالة أخرى من الحزن والأسى والمرارة: فرح لا يوصف لحالة إنسانية يتم فيها تحرير الصحفية الفرنسية ونجاتها من اعتباط الاختطاف، وحالة أخرى مناقضة لها تتمثل في شعور المرارة والأسى لأن هذا يذكرنا بالمأساة التي تكوي قلوب المواطنين العرب في كثير من أقطارهم عندما يعودون إلى أوطانهم من غربة طالت أو قصرت، حيث ينتظرهم في مطارات بلدانهم احتفاء وطني من نوع آخر، فأسماؤهم مرصودة في السجلات الحمراء ودهاليز أجهزة الأمن والاستخبارات في انتظارهم، حيث يكون الداخل إليها مفقودا والخارج منها مولودا. نعم هما صورتان للاحتفاء بالمواطن صورة فرنسية، وصورة عربية فأيهما أكثر تشويقا وجمالا(1)؟
قد تكون هذه الصورة وهذه المقارنة أفضل الممكن في التعبير عن مفهوم المواطنة في مجتمع ديمقراطي ومفهومها في مجتمع شمولي ديكتاتوري. وتلك هي صورة واحدة في فسيفساء الاستبداد التي لا تحصى رموزها ولا تستنفد معانيها.
المواطنة كرامة الوطن في الإنسان، والمواطن صورة لكرامة الوطن، وتلك هي الصورة التي نشاهدها في سيناريو المواطنة في الدول المتقدمة. أما المواطنة في بعض بلداننا فهي المذلة التي يؤصلها سدنة النظام القاهر في الإنسان المقهور، وصورة المواطن هي صورة تتجلى فيها مذلة الوطن، لأن كرامة الوطن من كرامة مواطنيه. فالوطن الذي نعيش فيه يعاني من المذلة والقهر لأن المواطن فقد شروط الكرامة الإنسانية وسقط في متاهات الاغتراب والاستلاب الذي فرض عليه في دورة الاستبداد السياسي الذي يتصف بالعمق والشمول.
فالأنظمة السياسية المستبدة تسعى بكل ما أوتيت من قوة إلى تحويل المواطنين إلى رعايا وعبيد، إلى أفراد يدينون بالولاء الأعمى للنظام القاهر المستبد. والمواطنة في منظور النظام السياسي هي ولاء المحكوم للحاكم ورضوخ المواطن لإرادة النظام. فالخضوع هو مبتدأ المواطنة في الأنظمة الأمنية والقمعية والإذلال هو خبرها. الإكراه هو المنطلق، والعبودية الإنسانية هي الغاية التي تسعى إليها الأنظمة البائدة.
ففي العالم العربي المعاصر ما زال مفهوم القبيلة والطائفة يتقدم على مفهوم المواطنة. وما زال مفهوم الانتماء إلى القبيلة والطائفة يتصدر مختلف الانتماءات وفي مقدمتها الانتماء إلى الوطن. وما زال مفهوم الوطن في دائرة الغموض، وما زالت العلاقة بين الوطن والمواطن علاقة مشوبة بالخوف والقلق والحذر(2).
إن بناء مفهوم المواطنة citoyenneté وتأصيله وعيا مرجعيا في عقل المواطن في اتجاه تعزيز الانتماء إلى الوطن ثقافيا وإنسانيا أصبح ضرورة حضارية تفرض نفسها في مختلف التكوينات الاجتماعية للوجود الإنساني المعاصر. ولا ريب في ذلك لأن مفهوم المواطنة يشكل واحدا من المفاهيم الأساسية التي تأخذ مكانها في الحياة الفكرية والسياسية للمجتمعات الإنسانية المتقدمة في السلّم الحضاري. ويعول كثير من المفكرين اليوم على أهمية بناء هذا المفهوم وتأصيله في اتجاه تحرير الوعي اليوم من أثقال الانتماءات التقليدية الضيقة التي تتمثل يقينا في الانتماءات الطائفية والقبلية والعشائرية الضيقة. فالتحولات الكبرى الضاغطة التي تشهدها المجتمعات الإنسانية في عصر العولمة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية تعمل على تفكيك المنظومات الأيديولوجية القديمة، وتفرض على الأنظمة السياسية المعاصرة إعادة النظر في أنساقها الثقافية من أجل استمرارها في الهيمنة والوجود.
2- السياق التاريخي لأزمة المواطنة في البلدان العربية:
إن الحديث عن المواطنة في البلدان العربية يتطلب منا أن نتساءل عن أوضاع الدولة ما بعد الاستعمار والكولونيالية. كيف تشكلت هذه الدول وكيف تأصلت هويتها؟ كيف تستلهم القيم الديمقراطية والتجربة الديمقراطية من الغرب؟ وما هي الكيفيات التي تعمدها هذه الدول في استقدام التجارب الغربية؟ هل تحترم هذه المبادئ والتجارب الديمقراطية التي تجري في العالم المتقدم؟ كيف تقاوم المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التقليدية وكيف تتعايش من أجل المحافظة على وجودها إزاء المؤسسات الحديثة؟
لقد قسمت البلدان العربية وفقا لاتفاقية سايكس بيكو إلى دول ودويلات وجاء هذا التقسيم بوحي من مصالح الدول الكولونيالية الكبرى التي اعتمدت تقسيما إداريا يجعلها أكثر قدرة على إدارة هذه البلدان فيما بعد الكولونيالية. ولم تأخذ هذه الدول بعين الاعتبار أو الأهمية التكوينات الإتنية والعرقية والقبلية لهذه الدول بعين الاعتبار. لقد شطرت هذه التقسيمات القبائل العربية في عدة دول وشطرت القرى أحيانا إلى ثلاثة أقسام، وشتت العائلات الكبرى في دولتين أو أكثر. وقد عملت الكولونيالية هذه على تكوين دول وحرصت على بناء أيديولوجيات سياسية متكاملة مع الكولونيالية الأم.
وفي دائرة هذا التقسيم ترتب على الشعوب العربية أن تنمي انتماءها إلى صيغة الدولة التي شكلت بحدودها الكولونيالية. وهي دول حديثة التكوّن وقد فرضت على شعوبها من الخارج. وقد تطلب ذلك من كل فرد ومواطن أن يعترف بولائه لهذه الدولة أو تلك، من منطلق البحث عن السلام والاستمرار في الوجود، وأن يعلن عن نفسه "مواطنا " يؤدي واجباته ويمتلك حقوقه في إطار الدولة الحديثة، التي فرضت عليه دولة ينتمي إليها لأسباب استعمارية وليس لاعتبارات تاريخية أو حضارية. وهذا يعني أن الأمر تطلب من كل فرد شملته الدولة الحديثة ألا يشعر بأن أجنبي يعيش في دولة لا ينتمي إليها. وقد اقتضى الأمر أن يعيد المواطن تكيفه الجديد وأن يبدأ تدريجيا بتأصيل هذا الانتماء الجديد للدولة الكولونيالية الجديدة. وغني عن البيان أن الزعماء العرب في عهد الاستقلال لم يستطيعوا أن يمتلكوا مفهوما واضحا عن الدولة وطبيعتها وأسسها وإشكالاتها. وكانوا يجهلون ربما أن الروح الوطنية والقومية هي الأصل في عملية بناء الدولة. وكانوا يجهلون ربما بأن الدولة لا يمكنها أن تكون مؤسسة خاصة لحكامها.
لقد نشأت الدول القديمة على أساس الأمة Nation فالأمة توجد في أصل الدولة L'ETAT وقد تشكلت هذه الدولة بدساتيرها ومؤسساتها وفقا للروح القومية. ولكن وعلى خلاف ما هو معهود في التاريخ فإن الدول العربية هي التي تشكلت أولا ثم هي التي أدت إلى ولادة الأمة (بالمعنى الضيق للأمة: الدولة القطرية). ونحن هنا إزاء قانونية معكوسة في تاريخ تشكل الدول والأمم. ولأن الدولة لا يمكنها أن تنشأ إلا في أحضان الأمة فإن الدراما السياسية في هذه البلدان ما زالت تدور في حلقة مفرغة.
وبالتالي فإن هذه الإشكالية المتعلقة بنشوء الدولة على نحو كولونيالي خارجي أدى إلى تشويش كبير في مسألة المواطنة والانتماء. ولم تتضح معالم مفهوم المواطنة في كثير من البلدان العربية المعاصرة. وليس غريبا جدا إذا قلنا بأن مشاعر القلق والتوتر وغياب الأمن الوطني وتداعي المشاعر بالشرعية التي تمثلها الدولة بقي طاغيا في كثير من ممارسات الحياة الثقافية في البلدان العربية، ولذلك بقي الولاء مكرسا للوحدات الاجتماعية الجوهرية الصغرى، كالولاء للقبيلة والعشيرة والطائفة بوصفها كيانات اجتماعية أكثر رسوخا وأهمية من الدولة التي فرضت بمقتضى الأحوال الكولونيالية المعروفة.
3- الأنظمة السياسية العربية واستلاب الإنسان:
لقد عملت الأنظمة السياسية والديكتاتورية القائمة في القرن الماضي على تغييب القيم الديمقراطية في المؤسسات الثقافية وفرغتها من المضامين الحرة جميعها، وجعلت من مجرد التذكير بحقوق الإنسان والمواطنة والقيم الديمقراطية زندقة وكفرا، وجاء الحصاد في نهاية الأمر جراح دامية. لقد أدت وضعية النشوء غير الطبيعي للدولة إلى غياب الشعور بالأمن عن المواطن. فالدولة الحديثة المصممة على نماذج خارجية غريبة عن طبيعة المجتمع وهي تعاني صعوبة في الحصول على ثقة المواطن واقتناعه بمشروعيتها السياسية. وهذه الدولة تواجه تبعة إرثين مختلقين يتمثل أحدهما في التركة الثقيلة لكيانات اجتماعية تقليدية وما قبل تاريخية أحيانا ويتمثل الثاني في إرث ثقافي وسياسي غربي محمل بتراث ديمقراطي إنساني بالغ النضج والتعقيد. وهذه الوضعية الانشطارية دفعت الدولة إلى استخدام العنف والإسراف في التسلط من أجل ضمان الأمن، وذلك لأنها عاجزة في الأصل عن عقلنة هذا الواقع الذي يتفجر بتناقضاته الماثلة بين الجديد والقديم، بين الحديث والمتجدد، بين التقليدي والحداثي، بين الدولة العصرية والتكوينات التقليدية للحياة المجتمعية، بين مفهوم المواطنة ومفهوم الرعاية (الرعية).
وبالإضافة إلى ذلك يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الدولة نفسها بعيدة جدا عن الثقة بالمواطن نفسه. فالمواطن غالبا ما ينظر إليه بوصفه عدوا للدولة والدولة هي العدو الأول للمواطن كما يراها المواطن نفسه. وهنا نجد أنفسنا في أجواء انعدام الثقة الكلية بين المواطن والدولة. وهذا بدوره يشوش الصورة التي يفترض أن تكون للمواطنة وعلاقة الدولة بالمواطن. وعلى هذا الأساس فإن المواطن يعش حالة توتر وقلق تتصف بالاستمرار والديمومة عندما يتعلق الأمر بالدولة وممارساتها القمعية.
في الدول الديمقراطية يشارك المواطن في عملية بناء القوانين الخاصة بالحياة العامة، وله الحق أن ينظر فيها ويبدي الرأي حولها. وهذا الأمر لا وجود له في الغالب في الدول العربية ما بعد الكولونيالية.
فمبدأ المساواة لا يتطلب أن تكون القوانين والقرارات التي تشكل النظام حقيقية وواقعية فحسب، بل يتطلب أن تؤسس هذه المساواة على منظومة من القيم الضرورية والأساسية لوجود المجتمع الحرّ. وهذا يعني أن الأمر يقتضي وجود اتفاق اجتماعي حول القيم الأساسية المطلوبة للمجتمع الحر. وعندما لا يوجد مثل هذا الاتفاق فإن الوضع السياسي والاجتماعي يكون حرجا إلى حدّ كبير.
وهنا يمكن القول بأن البلدان العربية تعاني من غياب هذا التوافق القيمي المؤسس للدولة الحديثة. ويضاف إلى ذلك أن الشعب لا يمكنه ولا يستطيع وليس متاحا أمامه أبدا أن يراقب أو أن يحاسب على الممارسات التي يمارسها أهل النظام السياسي الأساسي. وهذا ينسحب أيضا على وضعية البرلمانات التي تأخذ صورة منتخبة من قبل الشعب حيث لا تملك هذه البرلمانات في الأغلب أي خيار سياسي ما لم تحدده الدولة. وهذا يعني أن النظام التمثيلي لا يعدو أن يكون في الواقع أكثر من "بروباغاندا" سياسية في خدمة النظام السياسي القائم، وتكمن وظيفة هذا النظام التمثيلي (البرلمانات، ومجالس الشعب، مجالس النواب) في ترويج صورة خارجية للعالم الخارجي الغربي بالتحديد عن وجود نظام ديمقراطي، وبالتالي فإن هذه السمة تجعلها تحظى بدعم الغرب وتقديره ولاسيما للأنظمة التي تعاني من صعوبات وتحديات داخلية. وفي هذه الدول إلا في حالات استثنائية فإن الحزب الواحد هو الذي يحدد مرشحيه إلى البرلمان وهذا الحزب الواحد هو الذي يرشح سيده الوحيد إلى سدة الرئاسة.
فالشعوب العربية لا تشارك في صنع القرار أو القوانين، وليس لها أن تخضعها للمراقبة، فالحكومات العربية هي المعنية وحدها ببناء القوانين وإصدار التشريعات، والشعوب معنية إلى حدّ كبير باحترامها وتنفيذها. فالمواطنون مطالبون باحترام هذه القوانين طوعا أو كرها، وعندما يخرجون عن هذا التصور فإنهم يعاملون بوصفهم عملاء للخارج وأعداء للأمة والوطن.
وفي هذا الجو المفعم بالخطر وغياب الأمن والشرعية، فإن المواطن لا يجد أمامه خيارا آخر سوى التخلي عن حريته والتنازل عن كرامته من أجل أمنه الشخصي(3). فالدولة -بمعنى النظام السياسي القائم- لا تحافظ على وجودها من خلال الاقتراع الحر، بل تعتمد مبدأ القوة العسكرية أو الأمنية، ومن هذا المنطلق فإنه يجب علينا أن نفهم لماذا تلجأ الحكومات إلى اغتصاب حقوق الإنسان وانتهاكها ولماذا أصبح انتهاك هذه الحقوق قاعدة في السلوك السياسي في أغلب النظم السياسية العربية.
وفي دائرة هذه الصورة لغياب الحق والقانون فإن الشعوب العربية تعاني من نهوض مؤشرات الفقر فيها إلى الحدود القصوى عالميا. وبالتالي فإن أغلب الدول العربية (غير الخليجية) تنظر المساعدات الخارجية. وفي هذه الظروف تتضاءل تدريجيا الإمكانيات التربوية في تحقيق فرص حقيقية للتعليم، وغالبا ما يجد الطلاب أنفسهم مكرهين لمتابعة دراساتهم في فروع واختصاصات علمية غير مجدية في المستوى الاقتصادي والاجتماعي. ويمكن الإشارة هنا أيضا إلى ارتفاع مستوى ومعدلات الأمية التي تبلغ أحيانا 70% بين الإناث في بعض البلدان.
وعندما ننظر اليوم في العالم المتقدم نجد أن التعددية السياسية قد أصبحت اليوم عقيدة سياسية راسخة في الغرب وفي البلدان المتقدمة. وهذه التعددية هي التي توجد في أصل الكرامة الإنسانية واحترام حقوق الإنسان في التعبير وفي المشاركة السياسية. ومع أن الزعماء العرب يعلنون عن هذه التعددية فإنهم في العمق يتنكرون لأي صيغة من صيغ التعدد السياسي التي تفرض نفسها في مختلف بلدان العالم. وهذا التنكر والرفض المبطن يفسر لنا غياب التعددية السياسية فعليا وحضورها شكليا. لقد واظب كثير من الحكام العرب على تغييب هذه التعددية تحت ذريعة العمل على تحقيق الوحدة الوطنية أو ذريعة التحدي الصهيوني، أو ذريعة التنمية والتعمير، أو الصمود والتصدي، وغير ذلك من الذرائع التي لا تصمد أبدا للمنطق والاختبار والنظرة الموضوعية.
فالنظام السياسي العربي الراهن يعاني من التخلف والجمود حيث تسوده التشريعات السياسية الموروثة منذ مئات السنين، لقد حرم هذا النظام الإنسان العربي عمدا من حقوقه الأساسية وحرمه من أبسط المبادئ التي نادت بها الشرائع الدولية لحقوق الإنسان، وهو "نظام تسلطي يقوم على الاستبداد وخنق القيم الديمقراطية ولاسيما في مجال الحياة الثقافية"(4).
وتحت تأثير هذا المنع والقمع والحرمان بقي مفهوم المواطنة بمعانيه السياسية والأخلاقية مفهوما غامضا ومرفوضا ومصادرا. والفرد في العالم العربي لم يصبح مواطنا بعد لأنه ما زال يفتقر إلى الروابط الإنسانية والحقوقية مع الدولة ومؤسساتها. إنه فرد من القطيع والرعية يحظى برعاية الدولة وحمايتها واحتقارها، إنه عبء ثقيل على الكيان السياسي، والحاكم في نظر الرعية هذه هو من تُستجدى عنايته وتُنتظر رحمته ويطمع في غدق عطائه، إنه ولي النعمة ورب النقمة ومفتاح الرحمة في نظر رعاياه وقطعانه.
4- خاتمة:
فالمواطنة في العالم العربي ما زالت تختنق بعوامل الاستبداد وعناصر الاستعباد. وقد بيّنا أنه لا يمكن الحديث أبدا عن مواطنة في زمن القمع والإكراه. والإنسان العربي يحتاج حتى في أحسن الأحوال وأفضل الظروف الممكنة للديمقراطية يحتاج إلى قَدَرِ ثقافي جديد إلى "تسونامي" ثقافية هائلة تنتقل به إلى مناخ ديمقراطية حيث يتأصل مفهوم المواطنة. "فالمجتمع العربي " والعالم الثالث بشكل عام" لا يزال يحتاج إلى تعميق الوعي المؤسسي والقانوني الذي يدعم الحس الوطني ويقلص الحاجة إلى الضوابط البيروقراطية على مختلف الصعد(5).
ويلاحظ في هذا السياق أن بعض الدول العربية تعمل على بذل جهود سياسية وتربوية كبيرة في بناء الإحساس الموضوعي بالمواطنة. " لكن معظم هذه الجهود تدور في نطاق الشعارات المثالية التي ينتظر أن تتحول في زمن ما إلى ممارسات. ومن المتوقع أن يطول الوقت للاقتراب من ذلك الهدف الطموح. خصوصا وأن بعض الشعارات تحتاج إلى أن يجلى عنه الغموض كي يقترب من عقل جماهير الناس الذين لا يزالون يعانون وضعا صعبا من الأمية الثقافية والمؤسسية والحضارية والسياسية. ولعل من العقبات التي تعرقل عملية التطور الحضاري للشخصية العربية عموما التضاد بين التبعية الذهنية العشائرية ومتطلبات العقل الحضاري الذي لا يمكن أن تستغني الدولة عنه لضمان سيادتها وتأمين الاعتراف الجماهيري بها ومؤسساتها(6).
إن ممارسة المواطنة الديمقراطية يفترض أن يكون المواطنون متساويين فيما يتعلق بالحقوق وأن يمتلكوا القدرة على تحمل المسؤولية والمشاركة في اتخاذ القرارات السياسية وأن يشاكوا أيضا في فعاليات المؤسسات السياسية. ومن الواضح في هذا السياق أن عالمنا المعاصر يفيض بمختلف الشروط والعناصر التي تمنع على الأفراد ممارسة المواطنة. فمبدأ المساواة في الحقوق يصطدم في واقع الأمر بتحديات كبيرة تتمثل في البطالة واللاتسامح والعنف والنفي والإقصاء والاستبعاد والإخفاق المدرسي وكثير من أشكال التمييز العنصري والإقليمي وغياب الأنظمة الديمقراطية. ومن ثم فإن مشاركة المواطن بالشأن العام يصطدم بجعله الكبير للحقوق أو باللامبالاة وغياب الإحساس بالمسؤولية فيما يتعلق بقضايا الشأن العام في المجتمع التنمية وتعزيز المؤسسات العامة.