عندما تتحول الكتابة إلى لعنة وشر وجريمة؟
جورج باتاي الجنس والمقدس و كافكا و نيتشه
محمد بصري
2024-03-10 04:27
"إن خطا الفلسفة هو ابتعادها عن الحياة" جورج باطاي
جورج باتاي Georges Bataille هو الفيلسوف الأكثر تعقيدا على مستوى سيكولوجية الكتابة، من الصعوبة بمكان اختراق عالمه الثقافي، هو ضد النفاق الاجتماعي، غير حميمي لا يطْلبُ ودًا مؤقتا مع القراء، شرس كمعارض وغير لبق في ردوده النقدية. هو ضد القارئ وضد المؤسسة القرائية، هو يفكر لكي يفجر مفاهيم في وجه الآخر.
ربما انتقل جنون الكتابة النتشوي لقلمه فهو الممثل الصادق لانزياحية فريديرك نيتشه. كتابة تمثل نسقا إغرائيا للشر، لكشف خطابه المتدثر تحت حقائق جمالية. باتاي المولود يوم 10 سبتمبر سنة 1897 لوالد كفيف إسمه جوزيف أرستيد باتاي ووالدة هي انطوانيت إمرأة خجولة قليلة الكلام مغلوبة على أمرها أمام فظاظة الزوج العنيد والوقح.
باتاي هو فيلسوف الانتهاك هو الأقرب إلى تفكيكية تدميرية لمفاهيم الطابو والمُحرّم المزعج. حيث يعطي مفاهيم جنسية نمطا من التجلي الصوفي المُرْبك للقداسة. ارتباطه بوالدته وانغماسه الكلي في عقدة أوديب ضد والده المأزوم أنطولوجيا. صاحب السخرية الوقحة والمقيتة التي عَمَقّت الهوة بينه وبين جورج الإبن. جوزيف الأب كان يتّهِم انطوانيت الزوجة المكلومة بالخيانة مع طبيبه. الشيء الذي ترك ثقوبا سوداء في لاوعي جورج الطفل. ليتحوّل هذا اللاشعور المظلم إلى ثقوبٍ سوداء امتصت جهود الإبن جورج ليتحوّل إلى اعتناق مذهب كاثوليكي طهاري ينقذه من فشله الميتافيزيقي وكسله الثقافي.
الجنس كثيمة هو ضرب من الطقوس والعبادة الوثنية الممتنعة من كل تكليف ميتافيزيقي أمام الخداع الأفلاطوني العذري التاريخي العابر لنزاهة الفلاسفة وتبتلهم القيمي، رائد المثالية والعقلانية الإغريقية لم يرفض أبدا العلاقات الجنسية الرغائبية فهي جزء من تكوين بيولوجي نزوعي نحو الاشباع الحب العذري أُكذوبة ناجحة إغريقيا. أثينا الغرقة في آثامها ومُتعها الحسية، لم يشهد التاريخ بلدا انغمس في تجارة الرقيق الابيض وثقافة العربدة الغلمانية والجنس المتوحش مثل اليونان.
ج. باتاي من طالب فاشل غير كفء في دراساته إلى ناجح شغوف بالكتابة والقراءة، من رجل دين وأسقف إلى مؤلف فضائحي قام بتعرية الإنسان شبقيا وجنسيا لا تدري متى تنفجر قريحة المبدع ومتى يسيل لعاب قلمه لينضح حبرا أسودا مهمته تحليل المجتمع والاحتجاج عليه.
يقول: "إنني أفكر، كما تخلع البنت فستانها" أو "إن الفكر في غاية حركته، هو انعدام كلّ حياء، هو البذاءة بعينها[1].
ازدواجية الشخصية، رجل الدين الذي يختفي داخله شبح فيلسوف يهتم بالجنس مخاتل أمام طقوسه الجنسانية مُنهَك أمام رغائبه، تفكيك مقولات الجنسانية والأيريوسية أكسبت باتاي شغفه بالكتابة وهو تحت تأثير الدين حين اختار أن يكون أُسْقُفًا أو شماسا في كاتدرائية راديكالية. تواصل ولعه بكافكا لأنه يتقاسم معه ألم العزلة وحب التأفف من الآخرين والصمت والبكاء بدون سبب ومرض السل الذي أنهك الرجلين إلى حد اللعنة.
فلسفة البكاء والفاجعة كانت سببا في الميل الكافكاوي. كان هذا الأديب الفيلسوف يكتب وهو يرى ظلال والده الأعمى جوزيف تتمايل تحت قلمه وتنعكس صورة كافكا شاحبة في أوراقه. الكتابة مزيج بين الألم البيولوجي والانكشاف الأبوي والصرامة الأميسية. لا تعتيم ولا تَكَتُّم حول المفردات الشبقية والجنسانية. باتاي من فاشل عديم الفائدة في دراسته الابتدائية والإعدادية إلى مفكر لا يُشق له غبار.
يقول باتاي عن فرانز كافكا في كتابه "الأدب والشر" أن الكتابة كانت أرضه الموعودة لكنه لم يستثمر في نجاحه وأدبه بل أوصى بحرق كتبه. هو يشبه موسى النبي الذي رأى الأرض الموعودة يومًا واحدًا قبل وفاته. إن الكتابة قد تصنع مجدا ميتافيزيقيا. في ذات الوقت هي مجرد وقت لحظي مهدور للأديب الذي يعيش جحيما مزدوجا ويعاني ندوبا أنطولوجية لا يمكنه الشفاء منها.
يقر باتاي قارئا كافكا المأزوم وجوديا أن أدبه كان طفوليا وتعدى ذلك إلى إدانة هذه الطفولة المُشْبعة بعذابات العائلة وقهر السلطة الأبوية، ثم تحوّل إلى الكتابة التي أضحت لعنةً وجريمةً ليدفن متاعبه الأنطولوجية. الأدب الكافكاوي كان جريمة مخملية وجموحا انسانويا بتعبير باتاي فهو تعرية لمصير مجهول لكاتب يائس هو "كافكا "أي أن تفضح الآخرين وتجعل الكتابة والتدوين الذاتي شرًا تتدفق فيه الحياة. يقول كافكا "أصبحت أضعف وأكثر عصبية، وفقدتُ جزءاً كبيراً من هدوئي الذي كنت أعتز به لسنوات مضت".
التجربة الحسية للذة وتراكماتها الأخلاقية وعلاقتها بالآخر كما يتصورها جورج باتاي أنه شعور سلبي بالإثم الذي نلحقه بالآخرين أو "الهم "بالتعبير الهيدغري الذي يعيشون خارج الذات. السعادة هي تجربة ذاتية داخلية حتى لو كانت على حساب الضرر الذي يستشعره الآخرون خارج الكينونة.
الانتهاك وفق تصور رؤيوي لباتاي خارج حدود الطابو والمُحرّم، يجعلنا قرابين وثنية أمام مواقف أخلاقية وأخرى نزوعية طبقا لضميرنا الذي يتم أنسنته وإعادته لطبيعته القيمية بعد تمرده المتوحش والغريزي. الحروب القاتلة ليست سوى سلوك من الانتهاك الذي يُعوّدُنا على الانفلات من القانون الذي يعتبره باتاي خدعة تقليدية. ما لم يتحول هذا الرفض إلى جزع عارم لا معقول يفرض نفسه على ملكة الاحساس Sensibilité [2].
يتم انتهاك كرامة البشر كونها محرّم، بإخراجها من معقوليتها إلى اللامعقولية وفرض نمط من المنطق العبثي الإقراري بعدم جدوى بعض الكائنات الإنسانية يسميه باتاي بقانون "إن المحرّم موجود لكي يُغْتصب". معقولية الحرب كونها تنتهك الحقوق بداية من حق الحياة، هي ضديتها ومناقضتها للتحريم هي تشبه القصاص بالإعدام قطعا للرقاب بالسيف رغم مشروعية الأخير حسب أنظمة قانونية وعقدية وعرفية تم تثبيت معقولية الحرب كما يقول باتاي وفق المبدأ المذكور آنفا في كتابه الأيروسية.
باتاي يؤكد أن التأريخ للحداثة وبعدها يدين بكثير من الاحتفالية لأفكار نيتشه وجهده الشذري في تغيير كل الآفاق القيمية والفلسفية لعقيدة التعالي الفلسفية. سخريته لا تقل صلافة عن نقدية فيلسوف المطرقة. نيتشه العاشق للموسيقى الأوبرالية والكاره للمرأة. فيلسوف الجنون. لولا حالة البارانويا النتشوية لم يكن لتصلنا فلسفة مُعطّرة بنكهة الشعر العميق الآسر للنفس.
التفكير فلسفيا في الجنس بالنسبة لباتاي لا يشكل إلا رحلةً من انتهاك أنطولوجية المرأة كونها موضوعا رئيسيا له. بدون غواية أو أنوثة أو نزوع نحو الاستحواذ الذكوري على الشهوة لا يمكن الحديث عن هذا الطابو الذي سيتحول مع التاريخ إلى مقدس مشبع بالطقوس. قد يكون تحليل الأيروسية أو الشبقية التي تحوّلت إلى فنون وجماليات تُؤرخ لها لوحات ومآثر وحفريات حضارية، عملا سحريا يتماثل ويتماهى مع النظر إلى سحر المرأة يقول نيتشه "نزوة المرأة ورقتها تضيء مملكة الدياجير، بالمقابل، ثمة شيء من الساحرة يرتبط بفكرة الإغراء هو الذي يصنعنا" [3] فلسفة الانتهاك تربط في جوهرها بلاعقلانية المُحرّم الذي سيتحول إلى انتهاك عنيف بتعبير باتاي وهو يهيم بتشريحية مفاهيمية للأيروسية. طقوس الموت والاحتفاء به يتجه بالتطويع الفظيع للمحرّم إلى أبعد حدود وتتلاشى مع إعلان الحداد كنهاية مأساوية مبرِّرَة للشعور بالإثم نحو الموت كشر يحيط بالإنسانية. الانتهاك رديف للتدنيس فهو اختراق للمحرم وتجاوز له. "الذي يُمارس الإرغام على الطبيعة بمواجهتها" [4].
باتاي على وجه التحديد هو المفكر الذي قَدِم إلى تحليل التجربة الصوفية المسيحية تحليلا جنسيا بمزج الطابو مع المقدس في توليفة ثقاَفية غرائبية، كون التجربة الزهدية هي احتجاج ضد الحياة الشهوانية. شيطنة الغريزة والمتعة يتم وفق تدميرها رعويا واستئصالها مفاهيهيما من فضاء الجسد بتعذيبه ومحاصرته كنسيا، هو نمط تسميه رولا آندرسون في كتابها الفلاسفة والحب "بتملك المسيحية للحب" أعتقد أنه نمطٌ من لجم العاطفة صوفيا والاستحواذ على الجنس إشراقيا، تحويل الجنس إلى حدوس ميتافيزيقية بتألييه وتنصيب لكل نزوة آلهة تُدَبِّر تصريفها البشري.. نيتشه شكك في نية الطهارة المسيحية التي عَلَّقت جهدها القداسي وفق سقف مشروطية تدمير الرغبة. العفة والرهبنة والزهد هي آليات قاتلة للجزء المغري في البشر وهو "الجنس". جنسانية باتاي لا تختلف عن جنسانية نيتشه تَنْفُر من الرؤية التقووية التي تؤمن "بالإخصاء" كلعنة وهلع من الحياة الشبقية المهينة لطهارة الانسان. يقول نيتشه. "إن الدعوة إلى العفة هي تحريض علني نحو الطبيعة المضادة. إن كل احتقار للحياة الجنسية باستخدام فكرة الدَنَس هي محاولة اغتيال للحياة، إنها الخطيئة الحقّة ضد الروح المقدّسة للحياة" [5].
القسوة التي شكلّت جزءً حزينا من سيرة باتاي في طفولته وفي صراعه ضد احراجات كثيرة كان الألم والوجع الاجتماعي رفيقا له وهو تلميذ أو مرافقًا لوالده الأعمى أو شاهدًا على أحزان والدته الضعيفة إنعكس على أدبه وقدرته التفكيكية لجوانب مظلمة في الوعي. جعل فلسفته مزيجا بين حدوس صوفية غنوصية و براديغم تمردي جنساني على المؤسسة الاجتماعية والدينية والثقافية. أفكاره هي استعادة للدور النتشوي لإعادة تمكينه من التمركز في ما بعد الحداثة.