بئر الموت
علي حسين عبيد
2024-03-06 08:31
قبل أيام قلائل تم الإعلان عن صدور كتاب قصصي جديد للروائي والقاص علي حسين عبيد، حملت عنوان (عشبة خضراء وسحابة سوداء، هذه المجموعة هي الخامسة في الترتيب الزمني، فقد سبق للقاص عبيد أن أصدر أربع مجاميع قصصية الأولى كائن الفردوس في 2001 دار الشؤون الثقافية بغداد، والثانية (الأقبية السرية) في 2009 دار الشؤون الثقافية بغداد، والثالثة (لغة الأرض) التي فازت بجائزة الطيب صالح العالمية بالمركز الأول، والرابعة (معزوفة ماروخا) صدرت عن دار أبجد للترجمة والطباعة والنشر، والخامسة هذه المجموعة حيث صدرت عن مركز البينة الفكري الثقافي في العتبة الحسينية الموقرة، وهي تضم ثلاثين قصة رصدت ما تعرض له العراقيون بمختلف أطيافهم على يد الإرهاب الداعشي، والقصص عبارة عن شهادات حيّة وموثقة أدلى بها أهالي القرى والمدن العراقية التي تعرضت للتدمير والعنف والإرهاب، وقد تم تناولها بأسلوب قصصي يوثق هذه الأحداث تاريخيا، وذلك بأسلوب فني قصصي يسعى لتقريب هذه الأحداث الجسيمة من أذهن الناس ولكي تُحفظ في ذاكرة الأجيال الحالية لتنقلها إلى الأجيال القادمة.
ضمت هذه المجموعة ثلاثين قصة قصيرة، وهي عبارة عن ثلاثين شهادة لثلاثين شخصية عاشت الأحداث بنفسها، وحملت القصص العناوين التالية (رائحة الأبن المنحور، اللثام الأسود، وحوش بشرية، حدث في طريق سنجار، عشبة خضراء وسحابة سوداء، طفلة في رحاب الغيب، أحزان ساخطة، فنون القتل، أجساد تحت الركام، بئر الموت، إنهم يقتلون الأطفال، صولة القصاص، رؤوس في الوادي السحيق، قاضي الدماء، نبوءة كاذبة، بكاء النجوم، مرآة النفس، شهداء قيد الطفولة، أبٌ لن يعود، تعذيب معاصر، إنقاذ خاطئ، قلوب لا تعرف الخوف، مواقف في ذاكرة الزمن، إعدام رجل كادح، جثة الشاب الحي، أبناء يسجنون آباءهم، آباء و آباء، التسلسل 50، حكايات لم تبرح الذاكرة، حفلة إعدام شاب).
قصة قصيرة
بئر الموت
بدأ الأستاذ الأكاديمي المحاضِر محاضرته في حقوق الإنسان، كان الوقتُ ضحى، وكنّا في جامعة الموصل، نواصل دراستنا على مضض، فإرهابيو داعش سيطروا على المدينة وفرضوا سلطتهم بالقوة على الجميع، وعاشت الجامعة بطلبتها وأساتذتها من مختلف الألقاب نوعا غريبا من التوتر والخوف، كلمات الدكتور المحاضِر رغم جمالها ومعقوليتها وتوافقها مع حقوق الإنسان، لكنها لم تكفِ لبثّ الأمان في قلوبنا، في اللحظات التي كان يُلقي فيها المحاضر محاضرته التي تناصر حقوق الإنسان وتفصّل هذه الحقوق ومن يكفلها، في هذا الوقت لم أكن أسمع كلمات المحاضر، كان ذهني مشغولا بعائلتي أبي وأمي وأخوتي، فالخوف كل الخوف من مجرمي داعش خاصة هناك من أيدهم ووفر لهم المأوى والمساندة، إنهم لا يستثنون أحدا من وحشيتهم، حتى الطالبات المحتشمات هنا لم يسلمن من أفعالهم الصبيانية الطائشة التي تستهين بكرامة المرأة وكرامة الإنسان.
كان الدكتور المحاضر يرتدي بذلة أنيقة، ومظهره ينمّ عن إنسان طيّب، وحين كان يلقي علينا الدرس، كانت كلماته أجمل ما يمكن لو تمّ تطبيقها، لكنها تبقى في ظل سيطرة داعش على الموصل كلمات لا معنى لها، فهي شيء وما يجري للناس هنا شيء آخر، حتى الطلاب لم يخلصوا من انتهاكات زمر داعش، وتدخلاتهم في الصغيرة والكبيرة، وفرضهم لنظام حياة متحجّر، مغلق، ومظلم على الجميع.
فوجئتُ بالمحاضر ينطقُ أسمي أكثر من مرة وبنبرة عالية، تنبّهتُ لنفسي، فأنا في الحقيقة لم أسمع ما قاله، ولم أكن في الصف إلا بجسدي فقط، فعقلي وخيالي ومشاعري كلها، كانت مع أبي المهدَّد بالموت وأفراد عائلتي الذين يسكنون مدينة تلعفر، ويعانون من الخوف ومخاطر الموت التي تحوم حولهم وفوق رؤوسهم، نهضتُ واقفا في مكاني، كان الجميع ينظر إليّ مستغربا صمتي وتلعثمي، وحين سألني المحاضر سؤالا مباغتا عن موضوع المحاضرة، بقيتُ صامتا مرتبكا، ثم أجبته بصوت مخنوق: كنتُ خارج الصف، أحاول أن أنقذ عائلتي من الموت.
تضاعف استغراب المحاضر، لكنه تركني وشأني واسترسل بإلقاء محاضرته عن حقوق الإنسان التي لم يطبقها أحد من قادة داعش، وقبل أن تنهي المحاضرة بدقائق، تحوّل قاعة الدرس إلى ثكنة عسكرية، فقد هجم علينا مسلحو داعش ومعهم أشخاص بملابس مدنية من الجامعة، البنادق مشهرة علينا، عتلات الأمان مفتوحة، بمجرد الضغط على الزناد نلفظ أنفاسنا في الصف، لم نعرف لماذا دهموا قاعتنا، عصبوا عيون المحاضِر ومعه أحد الطلاب، وقبل أن يخرجوا عاد اثنان منهما وعصبا عينيّ واقتاداني إلى (الحسبة) للتحقيق معي، حين وصلنا مقر (الحسبة)، فوجئت أن الشخص الذي سيقوم بمحاسبتنا يعرفني وأعرفه جيدا، فهو من أبناء مدينتي تلّعفر، حين وصلني دور الحساب، سألني هذا الشخص الذي يعرفني جيدا:- لماذا تتجاوز على هذا الرجل (الروسي) الذي هاجر من بلاده وترك عائلته كي يحمي أرضكم وأعراضكم؟، فأجبتهُ في الحال ودونما تردد:
- أرضنا محمية بأهلها وشبابها، وعرضنا لا أحد يمسّه قيد أنملة.
كنتُ مؤمنا بما قلتهُ لهذا الخائن الذي تسلل إلى داعش وكسب ودّهم لدرجة أنهم منحوه هذا المنصب الحساس في (الحسبة)، حاول أن يتخلص مني بأسرع ما يمكن، طلب مني العودة إلى الجامعة، فيما بقي المحاضر والطالب قيد التحقيق ولم أعرف مصيرهما، لأنني قررتُ أن لا أعود إلى الجامعة، وأغادر الموصل إلى مدينتي (تلعفر)، لم أشعر بالندم على قراري ترك الدراسة والجامعة، لأن حياة عائلتي وسلامتها أهم عندي من نفسي وحتى من مستقبلي، وأي مستقبل يمكن أن يكون بوجود حثالة الإرهاب التي حوّلت الموصل إلى كتلة من الظلام والقمع والتكميم؟
تركتُ كل شيء ورائي وعدتُ إلى تلعفر، وقبل أن أصل إليها سمعتُ لغطا يدور بين بعض الرجال، كانوا يتكلمون عن مجزرة جديدة ارتكبها إرهابيو داعش ومؤيدوهم، وذكروا رقما مخيفاً حين قالوا، لقد قتل الإرهابيون مئتيّ 200 رجلا من تلّعفر بدم بارد وألقوا بجثثهم في بئر الموت (بئر علوة عنتر)، خفق قلبي ألما وجزعا وخوفا على أبي، لا أعرف لماذا ضجّ القلق في صدري، وارتعش جسدي وبدأت أبكي بحرقة لدرجة أن الآخرين حاولوا تهدئتي ومعرفة سبب بكائي، لكنني حاولت السيطرة على نفسي، وأمّلتُ نفسي بوجود أبي مع عائلتي لأن أحدا لم يخبرني بموته أو قتله، وحين دخلت مدينتي كنت أتمنى الوصول إلى البيت بأقصى سرعة، وكنتُ أبحلقُ في وجوه المارة عسى أن أعثر على رجل أو أي شخص من المنطقة التي أسكنها، أريد أن أعرف من أي إنسان هل (أبي مع الذين قُتِلوا ورُميَتْ جثثهم في بئر الموت؟)، تعبت عيناي ولم أصل إلى ضالتي، واصلت المسير لاهثا صوب بيتنا، وما أن دخلتُ زقاقنا حتى صدمتني لافتات النعي والموت المنتشرة على الجدران في كل مكان، كان الزقاق فارغا رغم أننا في وقت العصر، هل الناس نائمة في بيوتها أم أنها خائفة وحذرة من الوشاة الذين امتلأت بهم القرية؟؟
لحظات لا أكثر وصدمتني لافتة مفجعة، رأيت اسم أبي في اللافتة، لم أصدق ذلك، تفرّستُ بالكلمات، بحروف اسم أبي، كذَّبتُ بصري، وأسرعت الخطى إلى بيتنا، فوجدتُ الباب مغلقاً، وأجواء الصمت والخوف تخيّم عليه، طرقتُ الباب لكن ليس من مجيب، كرّرتُ الطرْقَ على الباب مرارا وبقوة، لكن الباب بقي مغلقا، والصمت الثقيل مهيمنا، وحين حاولتُ أن أن أعبر سياج البيت إلى الداخل، خرج جارنا وهو شيخ مسنّ ومعتلّ، سمعت صوته الخفيض المبحوح، وهو يطلب مني أن لا أعبر السياج، وقال لي:
لقد رحل الجميع من البيت بعد مقتل (أبيك) مع مئتي 200 رجل، ساقهم إرهابيو داعش بالقوة وهم مكبلين إلى مكان مجهول.
سقط جسدي على الأرض، غُشيَ عليّ، بعد لحظات شعرت بقطرات ماء بارد تتناثر على وجهي، فتحتُ عينيّ، لم يكن قربي سوى جارنا الشيخ نفسه وفي يده ورقة صغيرة، أكد لي بأنها أمانة تركها لي أهلي قبل مغادرتهم للبيت، هربا من داعش بعد أن حملت لهم الأخبار مقتل أبي.
أخذتُ الورقة الأمانة من جارنا الشيخ المعتلّ، عرفتُ أن عائلتي فرّت إلى إحدى مدن العراق الوسطى، لم يعرفوا بالضبط إلى أية مدينة سينزحون، وهكذا يجب عليَّ أن أبدأ رحلة بحث طويلة لا أعرف نهايتها، دخلتُ بيتَ جاري الشيخ على أمل بزوغ شمس جديدة أبدأ معها رحلة البحث عن أمي وأخوتي ورفات أبي.