التحول الرقمي وضرورات الاستثمار في الأجيال الناشئة

مرتضى معاش

2024-01-10 07:31

يؤثر التحول الرقمي والتكنولوجي تأثيرا كبيرا على التطور الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، فإذا كان التحول الرقمي إيجابيا سوف يؤدي إلى تطوير وتقدم المجتمع، اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا بشكل سليم. وإذا لم يكن التحول إيجابيا بل كان سلبيا سيؤدي بالنتيجة إلى نكسات اقتصادية وإيجاد عوق اجتماعي، كما نلاحظ اليوم في كثير من دول العالم، فبعض التشوهات الاجتماعية الحاصلة هي بسبب التحول الرقمي السيّئ.

بالنسبة إلى العراق فإن مشكلته تكمن في إنه لم يستطع أن يواكب عملية التحول الرقمي بالمعنى العميق وليس بالمعنى الظاهري، ففي العراق هناك الآن شبكات الإنترنيت، وتوجد فيه دوائر حكومية رقمية او ألكترونية، ولكن هذا لا يشكل تحولا رقميا عميقا يتناسب مع حاجات المجتمع.

اضرب هنا مثالا عن التحول الرقمي في أجيال ثلاثة مرتبطة بالتحول الرقمي، (جيل الملينيوم وجيل z وجيل ألفا)، وجيل ألفا متمحّض في الرقمنة الذكية، أما الجيلان السابقان فهما متأخران عن الرقمنة الذكية بسنوات. وقد كانت احتجاجات الشباب وخصوصا في العراق جرس إنذار لحاجتهم إلى التغيير وايجاد فرص اقتصادية وحل مشكلة البطالة.

ويشير تقرير لمنظمة اليونيسيف انه (في العراق حيث يمثل الشباب الفئة الأكبر من السكان، أن 59.2% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15-24 عاما يفتقرون إلى المهارات الرقمية التي تمكنهم من أداء الأنشطة الأساسية المرتبطة بالكومبيوتر. كما يفتقر الشباب إلى فرص الحصول على التعليم القائم على المهارات الحياتية، والقابلية للتوظيف، والمهارات الريادية التي ستمكنهم من الانتقال السلس إلى سوق العمل. فضلا عن ذلك، ليس ثمة فرص كثيرة لتزويد الشباب بالمهارات اللازمة لرفع مستوى انخراطهم المدني لكي يصبحوا مواطنين فاعلين وواعين، ورفع وتيرة مشاركتهم في عمليات صنع القرار).

لكن الحكومة بدل ان تتجه نحو حلول جذرية نافعة، فتحت الأبواب لملأ الشوارع بعربات (التك تك)، التي اصبحت ظاهرة مرهقة للشعب العراقي والمجتمع نتيجة للسلبيات الكثيرة التي تسببت بها هذه الظاهرة العشوائية، فلم يكون هناك رؤية لدى الجهات الحكومية في إيجاد تطور حقيقي من خلال عملية بناء المهارات عند الشباب، ومواكبة التحولات الكبيرة التي أحدثها التطور التكنولوجي الهائل، بينما هناك مجتمعات على العكس من ذلك استطاعت أن تواكب التطور، عندما فهمت ابعاد الحاجة لحل مشاكل شبابها، واستيعابهم بصورة صحيحة، حتى لايتحولوا الى ظاهرة ثورية ساخطة، وتم الحل من خلال التحول الرقمي الذي وفَّر واقعا فرصا كبيرة حلّت بعضا من مشكلة البطالة.

فالمجتمع العراقي اليوم فيه ثورة من الحاجات، التي تعتمد في تحقيقها على وجود تطور رقمي حقيقي في الساحة.

التعيينات الاستنزافية

وأيضا كمثال آخر حول الحاجة الى التحوّل الحقيقي، هو التعيينات التي تقوم بها الحكومة، هذه التعيينات كما يلاحظها الأخوة العاملون في الدوائر الحكومية هي تعيينات غير صحيحة لأنها غير متناسقة مع حاجات السوق، ولا مع حاجات المجتمع، بل هي مجرد عملية ذر الرماد في العيون. وبالنتيجة فهي عملية هدر للأموال والطاقات والجهود. وهذا يعني بأن الحكومة ليست قادرة على أن تواكب عملية التحول الاقتصادي والاجتماعي الذي يحتاجه المجتمع وخصوصا في عملية التحول الرقمي.

سلبيات عدم التحول الرقمي

بالنسبة إلى عدم التحول الرقمي السليم، هناك عدة سلبيات وهي:

أولا: تكريس البطالة، حيث يتم زيادة البطالة بشكل سيّئ جدا، خصوصا البطالة المقنَّعة، وتعيين العمالة غير الماهرة، فمثل هذا العامل أو الموظف هو مضطر أن يقدم أعمالا من المستوى البسيط التي تفتقد للمهارة، والسبب هو عدم وجود حاضنة أو بيئة تؤدي إلى تطوير مهارات هذا العامل أو الموظف، وبالنتيجة هذا نوع من البطالة يتكرس، لعدم الاستثمار الجيد في تطوير مهارات الموظفين.

فإذا لم يكن لديك إمكانيات التحول الرقمي، فإن القطاع الخاص أو الشركات أو الدولة تحتاج إلى طاقات من هذا النوع ولديها حاجات رقمية، فتضطر إلى استيراد العمالة التي تمتلك مهارات التحول الرقمي من الخارج، لكي تستفيد منها في إنجاز أعمالها.

ثانيا: اختلال أسعار الصرف في العملة، هو من أسباب عدم وجود التحول الرقمي، فمشكلة أسعار الصرف لا تكمن في قضية العرض والطلب، ولا في مشكلة التهريب، وإنما المشكلة هي أن العالم تحوَّل رقميا في قضايا التمويل المالية ولكن العراق لم يتحول بعد، ولا زال يستخدم النقد الورقي، ومعاملاته دائما خارج نطاق حركة الاقتصاد العالمي.

ثالثا: عدم الارتباط المالي مع العالم، فاليوم معظم دول العالم داخلة في شبكة من التعاملات التجارية وأعمال السوق المختلفة، حتى قضايا الجامعات والمدارس وكافة المؤسسات الأخرى، لا يوجد فيها ارتباط حقيقي مع العالم الرقمي الخارجي.

رابعا: الفراغ الرقمي والانشغال بالتفاهة، فإذا لم يكن هناك تحول إيجابي في استثمار الطاقات وتفريغها في العمل الإيجابي الاقتصادي المثمر، سوف ينشغل الافراد بالتفاهة وبتضييع الوقت وتبديد الطاقات الذاتية وتضييع الفرص وخصوصا الفرص الكثيرة في العراق، نتيجة للثروة الهائلة التي تحققت من مبيعات النفط.

خامسا: تضييع الفرص في عملية إيجاد مشاريع إنتاجية جيدة، تؤدي إلى استثمار طاقات الشباب، وتحول المجتمع نحو القطاع الانتاجي، وليس القطاع الاستهلاكي، ولكن الرقمنة الموجودة في العراق تمثل التحول السلبي نحو الاستهلاك، بمعنى الشغف الأعمى بالاستهلاك من دون وجود حاجة لهذا الاستهلاك، بل هي مجرد رغبة وانشغال بالتسوّق. أما إذا كان هناك عطاء إنتاجي، فإن الإنسان ينشغل في الاستثمار وفي العمل.

سادسا: هجرة الكفاءات الرقمية، فإذا كانت هناك كفاءات رقمية، ولا تستوعب طاقات هذه الكفاءات الرقمية بالسوق، فسوف تهاجر إلى الخارج، وتبحث عن مكانات وفرص في دول أخرى، كي تستثمر قدراتها الرقمية، بسبب غياب استثمارها في القطاع الخاص المحلي أو حتى في القطاع العام.

أما من ناحية معوقات التحول، فهناك عدة معوقات هي:

أولا: الفساد الحكومي، حيث أن الفساد متغلغل في الأجهزة الحكومية، لذلك فهو يقوم دائما بتعويق عملية التحول الرقمي، ويقف بالضد منها، حتى يبقى مستفيدا من هذا الوضع، فالفساد الحكومي يمنع عملية الاستفادة من وجود التحول الرقمي، لأن التحول الرقمي الحقيقي يوجد فيه حوكمة، وشفافية ورقابة ويقل فيه التلاعب، وليس كما يحدث في التعاملات الورقية البيروقراطية.

ثانيا: غياب الكفاءات بسبب المحسوبية والمحاصصة، حيث يتم توظيف الشخص الذي لا توجد عنده مهارة في الدوائر الرسمية، نتيجة للمحاصصة، لذلك سوف يغيب صاحب الكفاءة ويكون معزولا.

ثالثا: عدم وجود استراتيجية، ورؤية لبناء المهارات الرقمية عند الشباب، وذلك باعتبار أن الشباب هم قوة محركة للسوق.

رابعا: غياب الثقة الاجتماعية، فالإنسان لا يوجد عنده ثقة بالتحول الرقمي، وليس عنده ثقة بكل البرامج الرقمية بسبب عدم الوعي بهذا الشيء، فهو لا زال يعيش الحالات القديمة من التعامل، وأيضا الخوف من الاحتيال أو التلاعب أو حتى الفساد الموجود في الدولة.

خامسا: الرغبة في الفوضى، هذه أيضا من المعوقات التي تعيق التحول الرقمي فهناك من يحب العيش في الفوضى، بينما التحول الرقمي قد يقود المجتمع تدريجيا نحو النظام، وكثير من الناس لا يرغبون بالنظام، بسبب الوضع العشوائي للبلد، والخوف من النظام، لأن النظام مرتبط بالقانون القسري، أو القانون الاستبدادي في النظام السابق، فأي مفهوم يأتي مع النظام، يأتي معه نظام الاستبداد، ومفهوم القهر والقسر، ولذلك نلاحظ أن المجتمع يرفض النظام ويستسيغ الفوضى.

وهناك بعض المقترحات التي يمكن ان تستفيد منها القيادة الحكيمة:

أولا: الاستثمار القوي في بناء المهارات الرقمية عند الشباب، لأن الشباب اليوم خصوصا جيل ألفا هو الذي يقود التحول الرقمي، حيث يمكن للتحول الرقمي عند هذا الجيل الجديد إذا حدث استثمار في بناء المهارات، سوف يفرض على الحكومة التحول الرقمي، لأنه هو جيل كبير من الشباب الموجودين اليوم، حيث يشكل الشباب ضمن الفئة العمرية (15–24) سنة نسبة 28 بالمئة من مجموع السكان في العراق، وهؤلاء هما جيليّ زت وألفا، وهما قد يقودان عملية التحول الرقمي في الوقت الحاضر، فيما تشكل نسبة السكان في الفئة العمرية أقل من 15 سنة نحو 40 بالمائة من مجموع السكان، والتي سيتمخض منها أجيال اكثر رقمية من الأجيال التي سبقتها، وهو امر يعبر عن ضرورات التحول الرقمي العميق.

فلو تم الاستثمار في هذه الأجيال الرقمية، وأقيمت برامج واسعة في المدارس والمعاهد التدريبية وفي أي مكان آخر، فبالنتيجة سوف يؤدي الى نشوء رأسمال معرفي رقمي قادر على قيادة التحول الرقمي، ويمكن هذه الأجيال من تحقيق التحول الاقتصادي الذي يحتاجه المجتمع، وتنويع الموارد والتحرر من هيمنة الريع الحكومي، وبالنتيجة سوف تحل الكثير من مشكلات البطالة، وتأمين المستقبل الاقتصادي للبلاد.

ثانيا: دعم القطاع الخاص، لأنه هو يهدف بالنتيجة إلى الربح، ويتنافس مع الآخرين، والتنافس يؤدي إلى التطور، لذا سوف يضطر إلى التنافس بشكل قوي حتى يستفيد من عملية التحول الرقمي.

ثالثا: الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص، لأن القطاع العام في العراق كبير جدا، وهو قطاع شبه جامد، وغير متحرك وغير ديناميكي، فإذا اصبحت هناك شراكة جيدة بينهما ضمن قواعد عمل حقيقية، فإن القطاع الخاص سوف يحرك القطاع العام، بالإضافة إلى أن القطاع العام توجد لديه إمكانات قوية تؤدي أيضا إلى رفع وإسناد القطاع الخاص بقوة.

ونتمنى أن تستفيد الحكومة من المقترحات في قضية التحول الرقمي للشباب، لأن الشباب إذا لم يجدوا فرصة للعمل سوف يكونون طاقة سلبية في المجتمع، كالانحراف، الثورة، التمرد، الجريمة، لذا من المهم جدا أن تهتم الحكومة بهذا الجانب كعمل حقيقي ولا تضيّع وقتها في برامج وقضايا كالتعينات غير المدروسة وغير المفيدة للاقتصاد العراقي، خاصة ان الشباب أنفسهم بدأوا يرفضون تضييع الجهود وعدم هدرها في التعيينات الوهمية.

* مداخلة مقدمة الى الجلسة الحوارية التي عقدها مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث تحت عنوان (دور التحول الرقمي في استثمار الشباب)

ذات صلة

التقية المداراتيّةأثر التعداد السكاني على حقوق المواطنينبناء النظرية الدينية النقديةأهمية التعداد العام للسكان في داخل وخارج العراقالأيديولوجية الجندرية في عقيدة فرويد